شادي محسن
رسمت التطورات الأخيرة في العلاقات الروسية الإسرائيلية مشهدًا تصعيديًا غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين الطرفين، لا سيما وأنه تعدى مربع الإشارات اللفظية الهجومية، ورافقه تحركات فعلية مبدئية خاصة من الجانب الروسي. تدرس روسيا غلق الوكالة اليهودية على أراضيها، وهو ما رأته إسرائيل تصرفًا غير مقبول قد يقابله سلوك إسرائيلي متشدد.
تبقى هناك مجموعة من الأسئلة المتعددة: (1) إلى أي مدى يمكن أن تتأزم العلاقات الثنائية؟ (2) ما هي دوافع روسيا من الخطوة الأخيرة وهي اعتزامها غلق الوكالة اليهودية (3) ما هي التأثيرات المحتملة لهذا المشهد الجديد؟
الخط الزمني للصورة العامة
- في 10 فبراير 2022، (أي قبل اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا) طالبت وزارة الخارجية الروسية إسرائيل بوقف ضرباتها الجوية في سوريا لعوامل أمنية تضر بأمن وسيادة سوريا، ورفضت روسيا أن تتحول سوريا لساحة صراع مع دولة ثالثة (أي إيران).
- بعد اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا (فبراير 2022)، أكّد “يائير لابيد” (وزير الخارجية آنذاك) أن إسرائيل لن تقبل أن تتحول إلى ملاذ آمن للأوليجاركية الروسية في مجال الأعمال. واشترط اضطرار بلاده إلى الاندماج في العقوبات الاقتصادية على روسيا باستمرار التصعيد وتزايد حدته في أوكرانيا، واستكمل: “حتى الآن لم تنخرط إسرائيل رسميًا في العقوبات على روسيا”.
- في مارس 2022، أرسلت الولايات المتحدة لإسرائيل ضرورة تقديم الأخيرة لدعم عسكري وسياسي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا. ولكن رفضت إسرائيل تقديم منظومات دفاع جوي أو أسلحة تكتيكية للجيش الأوكراني، واكتفت بظهور الرئيس الأوكراني أمام الكنيست.
- في الزيارة الأخيرة لجو بايدن إلى إسرائيل (13 يوليو 2022)، طلبت واشنطن مرة أخرى من إسرائيل أن تقدم دعمًا عسكريًا وسياسيًا إلى أوكرانيا، وحتى وقت سابق لم تتعهد إسرائيل بتقديم أكثر من شجبها الحرب في أوكرانيا.
- في 5 يوليو 2022، طالبت وزارة الخارجية الروسية إسرائيل بوقف “غير مشروط” لحملاتها العسكرية الجوية ضد أهداف إيرانية في سوريا بعد أن ضربت الطائرات الحربية الإسرائيلية موقعًا إيرانيا مشهورًا قريبًا نسبيًا من القاعدة البحرية الروسية في طرطوس. امتنعت إسرائيل “لأول مرة” عن الرد على هذه الهجمات أثناء ولاية يائير لابيد لرئاسة الحكومة الإسرائيلية.
- في 21 يوليو 2022، أصدرت وزارة العدل الروسية حكمًا يقضي بغلق الوكالة اليهودية على الأراضي الروسية؛ لانتهاكها القانون الروسي.
- هددت إسرائيل روسيا بأن الوكالة اليهودية لها دور “محوري” في العلاقات الثنائية، وقرار غلقها سيدفع إسرائيل إلى اتخاذ مواقف هجومية صارمة ضد روسيا.
- في 27 يوليو 2022، اتهمت إسرائيل روسيا بإطلاق نيران دفاعية على طائراتها المقاتلة فوق السماء السورية.
ترتيب روسي لشكل العلاقة مع إسرائيل؟
يتبين من الخط الزمني الفاصل في الصورة العامة لطبيعة العلاقات بين روسيا وإسرائيل مؤخرًا أن هناك نقاط تماس سلبية بين روسيا وإسرائيل ظهرت قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، واستمرت حتى الآن في المشهد المتوتر بين الطرفين وخاصة في ملف الأزمة السورية، لذا لا يمكن أن تكون الحرب في أوكرانيا سياقًا فاصلًا في تفسير الأزمة، مما يُرجح فكرة أن روسيا تذهب إلى إعادة ترتيب علاقاتها مع إسرائيل.
تقول التقارير الإعلامية الرسمية في روسيا إن الوكالة اليهودية متهمة بجمع معلومات عن مواطنين يهود روس، وتشجيع العلماء ورجال الأعمال الروس على الهجرة إلى إسرائيل دون غيرهم من اليهود. ولكن في الواقع يتمثل نشاط الوكالة منذ تأسيسها على الأراضي الروسية بشكل رئيس على هذه الاتهامات الصادرة من وزارة العدل الروسية. ورغم أن الموقع الرسمي لفرع الوكالة اليهودية في روسيا أصدر إعلانًا يوضح فيه تقديم الوكالة كامل الدعم ليهود أوكرانيا داخل وعلى حدود روسيا، إلا أن موسكو لم تضمّن هذا النشاط كاتهام ضد الوكالة اليهودية.
ربطت روسيا رسميًا تحركاتها الأخيرة ضد إسرائيل بموقف الأخيرة من الحرب في أوكرانيا، “وأن إسرائيل لا تفهم الصورة العامة لما يجري في أوكرانيا”. ويعود سبب هذا التصريح إلى أن روسيا تصف الأنظمة السياسية الجديدة الناشئة في شرق أوروبا بالنازيين الجدد وهو الخصم المشترك بين إسرائيل وروسيا.
مع العلم إن الدعم المقدم من إسرائيل لأوكرانيا لا يتخطى البعد السياسي، إما في شكل إشارات لفظية بالتنديد وضرورة وقف الحرب، أو تقديم زيلينسكي للمجتمع الإسرائيلي من خلال الكنيست (جدير بالإشارة إلى أنه يوجد في إسرائيل مليون مواطن من أصول روسية)، في حين امتنعت إسرائيل عن تقديم معدات استخباراتية ومنظومات دفاعية إلى الجيش الأوكراني مما أثار غضب كييف.
لكن بالنظر إلى التطور السلبي الأخير في العلاقات الثنائية من الزاوية السورية، تعد الأزمة السورية أهم محدد للعلاقات الروسية الإسرائيلية وتعاملت موسكو ببرجماتية مع الهجمات الإسرائيلية ضد إيران؛ لأنها تتماس مع المصلحة الروسية في تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا خاصة على المستوى العسكري-الأمني. ولكن بعد أن استنزفت الحرب في أوكرانيا قدرات الجيش الروسي، ودفع الأخيرة إلى نقل بعض القوات البرية والجوية من سوريا، أثير بعض القلق لدى روسيا من استقرار الوضع الأمني في سوريا.
يتبين أن روسيا كررت مطالبتها إسرائيل بوقف ضرباتها في سوريا خمس مرات في السنوات بين 2018 إلى 5 يوليو 2022. ويعود السبب في ذلك إلى تحول بنك الأهداف الإسرائيلي في سوريا من مجرد ضرب أهداف إيرانية فقط تهدد الأمن القومي الإسرائيلي إلى أهداف إيرانية وسورية مرتبطة بالمصالح الروسية الاستراتيجية، مثل أهداف روسية في دمشق (مطار دمشق الدولي)، ومطار اللاذقية، وفي ميناء طرطوس.
حسب التقارير الراصدة لخريطة الضربات الإسرائيلية في سوريا في 2019 و2020 و2021، يتبين أن عدد الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع تابعة للنظام السوري زادت بنسبة 90%، فبلغت نسبتها في 2021 18% من مجموع الضربات البالغ 28 ضربة على 57 موقعًا.
شملت هذه المواقع أهدافًا عسكرية واقتصادية (مثل المعابر الحدودية والموانئ البرية والبحرية) وهو ما يضر بالاقتصاد السوري وبنيته التحتية، ويقوض فرص التجارة والأعمال. ويُستدَل على تنامي الاستياء الروسي من الهجمات الإسرائيلية في سوريا أن واقعة إطلاق النيران الدفاعية على الطائرات الإسرائيلية لم يكن حدثًا مسبوقًا عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، بل تكرر سابقًا قبل اندلاع الحرب.
التأثيرات المحتملة
هناك مجموعة من التأثيرات المحتملة لتوتر العلاقات الإسرائيلية الروسية تأخذ مستويين بين الداخلي في إسرائيل والخارجي المتعلق بالعلاقات الثنائية. يمكن توضيحها فيما يلي:
أولًا: فرص معسكر الوسط يسار السياسة في إسرائيل
تراكمت التعقيدات الدولية على إسرائيل التي باتت في منتصف معظم الصراعات بين القوى الكبرى في النظام الدولي، بين الولايات المتحدة وروسيا من ناحية، وبين الولايات المتحدة والصين من ناحية أخرى. ورغم ذلك لم تصغ إسرائيل حتى الآن استراتيجية واضحة لإدارة العلاقات بين القوى الثلاثة الكبرى، وعليه قد تقل فرص حكومة يائير لابيد المحسوب على معسكر الوسط والمؤتلف مع أحزاب اليسار في إسرائيل من السيطرة على الحياة السياسية. بينما كانت حكومة نتنياهو ناجحة بنسب أكبر في إدارة علاقة ناجحة مع روسيا والصين رغم التوترات الملحقة مع الولايات المتحدة في عدة ملفات.
ثانيًا: الأجندة الأمنية في العلاقات الروسية الإسرائيلية
لا تزال العلاقات الروسية الإسرائيلية ترتكز على رغبة قوية متبادلة لتجنب الصراع، مما يجعل من غير المرجح أن يسعى أي من البلدين بنشاط إلى مواجهة في سوريا. ولكن قد يشمل التنسيق الإسرائيلي الروسي (الذي بادرت به إسرائيل مؤخرًا بعد سفر وفد إلى موسكو 27 يوليو) إبطاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في مناطق بعيدة مثل طرطوس واللاذقية (شمال غرب سوريا)، ومنع الهجمات الإسرائيلية على مطار دمشق؛ كونه منصة استراتيجية للمصالح الروسية. في حال عدم التنسيق قد تهدد روسيا بمنح القوات السورية سبل مواجهة الهجمات الإسرائيلية.
ثالثًا: الأجندة السياسية في العلاقات الثنائية
يتزايد الاعتماد الروسي على إيران لتأمين مكاسب استراتيجية روسية سواء في آسيا أو سوريا، وهو ما يحمل فرصًا لزعزعة أكبر في العلاقات الروسية الإسرائيلية، \ويزيد من فرص تهديد روسيا لإسرائيل بمنع ضرباتها في سوريا. لذا قد تحاول إسرائيل عقد تفاهم مشترك بشروط جديدة بين الطرفين على ترتيب الضربات العسكرية الإسرائيلية في سوريا.
رابعًا: ورقة العقوبات الاقتصادية على روسيا
يمكن أن تلوح إسرائيل بانضمامها إلى قائمة الدول التي تفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا. ولكن في واقع الأمر لن يفيد ذلك إسرائيل بشكل كبير، وقد يضر بحركة تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية في إسرائيل. فضلًا عن أن هذه الخطوة تتطلب إلغاء قانون ميلتشين وهو إجراء ليس باليسير في إطار ترتيب اللوائح والقوانين المالية في إسرائيل.
ختامًا، يمكن القول إن مستقبل النفوذ الإيراني في سوريا ضبابي وتجده إسرائيل مهددًا وجوديًا لها، وعليه يستوجب التنسيق مع روسيا لضمان استمرار الهجمات الإسرائيلية ضد إيران التي باتت تشكل متغيرًا جديدًا في العلاقات الروسية الإيرانية. ويتطلب نجاح إسرائيل وروسيا في تهدئة العلاقات المتوترة بالفعل عددًا من الاعتبارات: (أولًا وبشكل رئيس) حصر الضربات الإسرائيلية في روسيا على المواقع والشحنات الإيرانية فقط دون السورية. (2) تحجيم الدعم السياسي الإسرائيلي المقدم لأوكرانيا. وأخيرًا، من غير المستبعد أن تدفع روسيا بتسريع عجلة الاستقرار الأمني ومن ثم السياسي في سوريا لإخراجها من دائرة احتمالات الاستنزاف الروسي في الشرق الأوسط، ومن الممكن أن يكون التوتر الأخير بين روسيا وإسرائيل فرصة لتنسيق متبادل حول مستقبل سوريا الأمني والسياسي.
.
رابط المصدر: