كان آخر فصول تشكيل الحكومة العراقية ما فاجأ به زعيم التيار الصدري الجميع عندما أكد أنه يتخلى عن تشكيل حكومة أغلبية لفترة حددها بـ 30 يومًا مقررًا العودة إلى مقاعد المعارضة في ظل حملة التكالب التي يتعرض لها التيار الصدري في الداخل والخارج، وذلك في الوقت الذي أعلن فيه الإطار التنسيقي الذي يضم التكتلات الشيعية ما عدا التيار الصدري عن تأييده للمبادرة التي تقدم بها مستقلون لترشيح رئيس حكومة يقف على الحياد، في ظل طول أمد فترة تشكيل الحكومة العراقية وتجاوزها المهلة الدستورية بكثير، وما قد ينعكس عن ذلك من حدوث فراغ دستوري يدفع بالبلاد إلى أنفاق أكثر ظلامًا.
وجاء قرار زعيم التيار الصدري مدفوعًا بأنه على الرغم من أن التيار الصدري استطاع الحصول على 75 مقعدًا خلال الانتخابات الأخيرة في العراق، إلا أنه فشل حتى الآن في تشكيل حكومة أغلبية بسبب عرقلة الإطار التنسيقي لهذه الخطوة ووصفها بأنها إقصائية لباقي التيارات السياسية داخل البلاد، في ظل تراجع للأحزاب الموالية لإيران وتقدم للمستقلين؛ وهنا لجأ الإطار التنسيقي إلى عرقلة انعقاد جلسات البرلمان التي تم تحديدها لانتخاب رئيس جمهورية بمنع اكتمال النصاب في أي من الجلسات فيما يسمى بآلية الثلث المعطل. ومن هنا فقد تنعدم فرص التيار الصدري في تشكيل الحكومة إلى حد قد يدفع مقتدى الصدر إلى دعوة البرلمان للحل ذاتيَا وإعادة الانتخابات.
ولكن في نفس الوقت، فإن الدعوة لانتخابات جديدة ليس بالأمر الهين في الوقت الذي توجد فيه حالة استقطاب في الشارع العراقي، ومن شأن الدعوة إلى إعادة الانتخابات زيادة معدل الاستقطاب. ولذلك فإن هناك ميلًا للإبقاء على الوضع الحالي لمدة أقصاها عام، وهو ما تدفع به إيران ملوحة بأن المضي في تشكيل حكومة أغلبية عن طريق دعوة النواب المستقلين لتسمية رئيس حكومة يوافق عليه التحالف المكون من التيار الصدري وتحالف تقدم والحزب الديمقراطي الكردستاني أو إعادة الانتخابات سيؤدي إلى حالة اقتتال بين التيارات الشيعية في الشارع العراقي.
وعلى الجانب الآخر، فإن الولايات المتحدة منشغلة في ملفات أخرى من ضمنها الحرب الأوكرانية وكذلك الملف النووي الإيراني، ومن ثم فإن أي من الفواعل الإقليميين أو الدوليين المؤثرين على الأمور في العراق لا يتعجل أمر تشكيل الحكومة العراقية، ولكن للأمر انعكاسات قد تكون خطيرة في ظل طول المدة، خصوصًا أن عدم وجود حكومة يعني عدم إقرار الميزانية العامة وبالتالي عرقلة أنشطة وتفاعلات الحكومة بشكل عام. وربما لا تفلح الخطوة التي اتخذها مقتدى الصدر والتي تضمنت اعتماد ميزانية مصغرة لحماية مسألة الأمن الغذائي في الاستمرار مع طول مدة الفراغ الدستوري وعدم وجود حكومة.
ويمثل ما حدث في العراق انقلابًا على نظام المحاصصة المستمر منذ عام 2003 والذي يضمن تقاسم الرئاسات الثلاث في العراق على أساس طائفي في ظل سيطرة من التيارات الموالية لإيران على العملية السياسية في العراق وطوال مدة 19 عامًا هيمنت هذه الفصائل على المناصب العليا في العراق شاغلة ثلثي المقاعد.
مبادرة من سبعة بنود.. لا جديد
وسط حالة الانسداد السياسي التي تسيطر على العراق، قدم النواب المستقلون في البرلمان مبادرة تضمنت سبعة بنود في محاولة للخروج من هذه الحالة وجاءت البنود كالتالي:
- ضرورة تنفيذ الاستحقاقات الدستورية بجميع مراحلها، ومنها موضوع تشكيل الحكومة الذي هو شأن وطني داخلي لا يحق لأي طرف خارجي التدخل فيه بأي شكل من الأشكال.
- أهمية تشكيل تحالف النواب المستقلين والحركات الناشئة.
- ترشيح شخصيات مستقلة دون إملاءات بعد تكليفها من قبل رئيس الجمهورية المنتخب لترشيح شخص رئيس مجلس الوزراء، حيث تتولى كتلة النواب المستقلين والحركات الناشئة ترشيح شخصيات مستقلة دون إملاءات وضغوط من الكتل السياسية الأخرى.
- فيما يخص شخص رئيس الحكومة المقبلة، أشار النواب في البند الثالث إلى ضرورة تحليه بالاستقلالية والنزاهة والكفاءة والخبرة السياسية، وليس عليه أيه شبهة فساد وألا يكون جدليًّا.
- وجوب الحد من هدر الثروات الوطنية، والتجاوز على المال العام.
- ضمان الفصل التام بين عمل الأغلبية السياسية، والمعارضة، وأدوات الرقابة في رئاسة اللجان النيابية وغيرها.
- اختيار الرئيس العراقي يجب أن يكون وفق المبادئ والشروط التي ذكرها الدستور العراقي. مع إنهاء المظاهر المسلحة كافة وتطبيق القانون على الجميع.
وإذا شئنا تناول المبادرة بحياد، فإنه ليس هناك آلية واضحة لتطبيقها في ظل فشل انعقاد جلسات البرلمان. وعلى جانب آخر، فإن المبادرة لا تقدم جديدًا في مسألة انتخاب رئيس الجمهورية؛ فأكدت في بنودها على أن تسميته تتم وفق بنود الدستور العراقي. ونظرًا لأن المبادرة تستهدف تشكيل حكومة مهنية من مستقلين بحيث يتم استبعاد الوزراء الحاليين والسابقين من التشكيل بالانسحاب كذلك على رئيس الوزراء المكلف، لم تلق قبولًا من المكون الشيعي في البلاد؛ لأن بها حرمانًا من حصصهم التقليدية المتفق عليها. ينظر التيار الصدري لمسألة المحاصصة في هذا الإطار بوصفها الضامن الوحيد لعدم سيطرة الموالين لإيران على مفاصل الدولة.
وتتفاقم حالة الانسداد السياسي في الوقت الذي يرفض فيه المستقلون أن يكونوا مجرد مكون أو رقم لاستكمال النصاب القانوني لانعقاد جلسات البرلمان، مع الأخذ بالحسبان أن أغلبية النواب المستقلين يرفضون العودة لطرق أبواب الحكومات التوافقية بعد أن أثبتت فشلها في مرات عديدة حتى ضاق الشارع العراقي بها ذرعًا. غير أن أي مبادرة تطرح للحل وفي نفس الوقت لا تضمن حق المتقدم في الانتخابات في تشكيل الحكومة تفرغ أي حديث عن الديمقراطية في العراق من مضمونه، وتعود بالبلاد إلى دوامة المحاصصة التي باتت مذمومة.
محاولات مكررة
في الوقت الذي تقدم فيه القوى السياسية في العراق مبادرات تبدو واقعية وقابلة للتنفيذ، يصر الإطار التنسيقي على إعادة إنتاج مبادرات تتضمن جميعها على اختلافها التركيز حصرًا على حق المكون الشيعي في اختيار رئيس الوزراء وتشكيل حكومة توافقية، وهو ما يعني سحب أحقية التيار الصدري في اختيار رئيس الوزراء بصفته الفائز الأول بالانتخابات، وإن كانت المبادرة الأخيرة قد ألقت بالكرة في ملعب المستقلين حيث أشارت إلى إعطاء مساحة محدودة للنواب المستقلين لتقديم مرشح لمنصب رئيس الوزراء شرط أن تتم الموافقة عليه من قبل كتلة “المكون الأكبر”، وهو ما يعني أن حظوظه سوف تكون في الواقع العملي معدومة. وعمد الإطار التنسيقي إلى الاصطياد في المياه العكرة وتحقيق المكاسب بطريقة ملتوية عندما دعا في مبادرته إلى إعادة انتخاب رئيس البرلمان بحيث تحظى الرئاسات الثلاث بموافقة من جميع التيارات السياسية العراقية.
وإلى جانب ذلك، شهدت الساحة السياسية العراقية تحركات تعددت تفسيراتها في الفترة الأخيرة من ضمنها زيارة رئيس البرلمان العراقي ” السني” محمد الحلبوسي إلى إيران؛ في خطوة يمكن فهمها بأنها كانت للتعبير عن الاعتراضات في الداخل العراقي على استمرار التدخل الإيراني في الحياة السياسية العراقية، إلا أن ما حدث بعد ذلك من عودة بعض الوجوه السنية للساحة السياسية في العراق أعطى انطباعًا بأن طهران ربما تحاول الدفع بشخصيات سنية مثل رافع العيساوي وغيره لتأخير تشكيل الحكومة وإضاعة المزيد من الوقت، خصوصًا أنها ترى في الفراغ بديلًا جيدًا بالمقارنة بالاقتتال الشيعي-الشيعي. وقد يفهم أيضًا من الدفع بهذه الشخصيات محاولة الحد من نفوذ الحلبوسي بوصفه واحدًا من زعماء المكون السني.
ويستبعد في هذا السياق أن يكون الهدف من زيارة الحلبوسي هو فك الارتباط بين بعض التيارات الشيعية ونوري المالكي ضمن الإطار التنسيقي والدفع بهم للتيار الصدري، في الأثناء التي يقال فيها إن هناك اتجاًاه في إيران يؤيد هذا المسار. ولكننا نقول إنه مستبعد لأنه حتى وإن كان هذا المسار مثار توافق داخل الحكومة الإيرانية، يبقى المعارض الأساسي له هو الحرس الثوري الإيراني الذي يجد في سيطرة التيار الصدري تراجعًا لنفوذ إيران في العراق، وهو كذلك بالفعل.
أضواء كاشفة
يظهر من كل ما تقدم أن الفكرة الأساسية التي يمكن استنتاجها من كل ما مر به العراق بعد انتخابات أكتوبر الماضي هي تصاعد ثقل المستقلين في الحياة السياسية العراقية، وهم يكتسبون قوتهم من عدم انجرافهم خلف لواء تيار سياسي واحد، مما يجعل من المستحيل استقطابهم أو بمعنى آخر تحييدهم. وحسب التقديرات، فإن هناك أربعة أنواع من النواب المستقلين: أولهم المستقلون فعليًا أي غير الموالين لأي حزب أو تكتل سياسي وعددهم أقل من 7، وثانيهم المستقلون الموالون للإطار التنسيقي وعددهم 10، أما ثالثهم فهم المستقلون التابعون لتحالف إنقاذ وطن وعددهم يتراوح بين 7 و10، وأخيرًا المستقلون الذين من غير الواضح تبعيتهم السياسية، وعددهم يتراوح بين 24 و30 نائبًا.
وقد حاول الإطار التنسيقي والتيار الصدري استقطاب المستقلين عبر مبادرات مختلفة لحسم الموقف لصالحه، وما يكشف عنه ذلك هو أن كلا الطرفين حتى الذي يمتلك الأغلبية غير قادر على المُضي قدمًا دون المستقلين، وربما تسفر الفترة المقبلة عن مزيد من الجهود لخطب ود المستقلين. وإذا استمرت المحاولات في الفشل فإن المرجح أن حكومة الكاظمي سوف تبقى لبعض الوقت في ظل انسداد قنوات الحوار بين القوى المختلفة، وإصرار كل طرف على موقفه، وذلك في ظل حالة من التوافق بين جميع القوى السياسية على عدم الدعوة لعقد انتخابات جديدة.
أما الحديث عن المعادلة السياسية، فيتضح منه أنها باقية على حالها لفترة مقبلة؛ فالتحالفات السياسية سوف تستمر لأن حلفاء الصدر من السنة والأكراد ليس من مصلحتهم التخلي عنه والانضمام للإطار التنسيقي لأن حالة العجز عن تشكيل الحكومة سوف تستمر، ومن ثم فإن تغيير معادلة التحالفات لن يكون مجديًا. ومن ناحية أخرى فإن المنضوين تحت تحالف إنقاذ وطن يسعون إلى التوفيق بين التيار الصدري والإطار التنسيقي لأنهم على أي حال لا يريدون السقوط في براثن صراع شيعي- شيعي. ومن هنا تعود الكرة مرة أخرى لملعب الصدر الذي يرفض الانضمام للإطار التنسيقي لأن في هذا عودة للتوافقية المرفوضة شعبيًا وخسارة الكثير من الرصيد الشعبي.
ويبقى الرهان هنا مع ذهاب الصدر لمقاعد المعارضة لمدة 30 يومًا على حل من اثنين: الأول أن ينتهز المستقلون الفرصة التاريخية وينضموا إلى تحالف إنقاذ وطن مع الأخذ بالحسبان هنا أن عددًا منهم محسوب على الإطار التنسيقي وعدد منهم لا يمكن تحديد انتمائه. ونظرًا لأن هذا الحل لا يمثل عملية تذكر خصوصًا في ظل سيطرة الإطار التنسيقي على سلاح منفلت، فيبقى الحل المتمثل في إعادة الانتخابات ولو بعد حين.
.
رابط المصدر: