استطاع لبنان إنجاز الاستحقاق الانتخابي بعد طول انتظار وترقب، فجرت مرحلته الأولى المتمثلة في تصويت المغتربين يومي 6 و8 مايو الجاري، ثم جرت مرحلته الثانية والأساسية وهي تصويت اللبنانيين في الداخل يوم 15 مايو الجاري والتي كانت سمتها الأساسية هي ضعف نسبة الإقبال على التصويت، والتي لم تبلغ سوى 41% فقط، نزولًا من نحو 50% في انتخابات 2018، وهو ما يعد في حد ذاته مؤشرًا مهمًا على الوضع اللبناني الراهن. وبينما يمثل إتمام هذا الاستحقاق وما حمله من نتائج حملت تغييرًا نسبيًا إنجازًا في حد ذاته، فإن ما بعده من استحقاقات دستورية قد تتأثر بشدة بمخرجات ونتائج الانتخابات.
معطيات تعطيلية
أفرزت نتائج الانتخابات اللبنانية تشرذمًا واضحًا في توزيع القوى السياسية داخل البرلمان، ودفعًا لمواجهة بين قوى تقف على طرفي نقيض، وخاصة بين حزب الله وحزب القوات اللبنانية الذي استطاع الحصول على كتلة نيابية تُقدر بنحو 19 نائبًا، متفوقًا على منافسه المسيحي التيار الوطني الحر الذي تأثرت نتائجه بشدة خلال هذه الانتخابات، فحقق نحو 18 مقعدًا فقط، بعدما أمّن خلال الدورة البرلمانية السابقة من خلال تحالفات واسعة كتلة نيابية هي الأكبر بنحو 29 نائبًا. وهو واقع ينبئ بوجود العديد من المعطيات التي تجعل من المشهد السياسي اللبناني المستقبلي يواجه انقسامًا وتشتتًا قد يصبح تعطيلًا.
1 – فقدان الأغلبية
تأثر الثنائي الشيعي (حزب الله – حركة أمل) بشدة بالنتائج التي حققها حليفهم المسيحي التيار الوطني الحر في الانتخابات؛ فعلى الرغم من أن الثنائي قد استطاع الحصول على كل مقاعد الطائفة الشيعية في البرلمان المقدرة بـ27 نائبًا كما كان الحال في برلمان 2018، وكذلك تأمين وصول بعض النواب المتحالفين معه؛ إلا أن تهاوي عدد مقاعد التيار الوطني الحر قد أدى إلى فقدان الثلاثي للأغلبية البرلمانية التي حصل عليها في انتخابات 2018 والتي قُدّرت بـ 71 نائبًا من أصل 128 نائبًا يتكون منهم مجلس النواب اللبناني، لتصبح في أفضل الأحوال نحو 61 أو 62 نائبًا في برلمان 2022.
ذلك الأمر هو ما دفع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إلى الاعتراف بأنه لا توجد أكثرية داخل البرلمان، وأنه على جميع الكتل الجنوح إلى التعاون. بيد أن هذه الدعوة من المرجح ألا تلقى تجاوبًا من الكتل المعارضة داخل البرلمان وفي مقدمتها حزب القوات اللبنانية والذي يمكن نظريًا أن يؤمن كتلة نيابية معارضة داخل البرلمان بالتعاون مع المرشحين المحسوبين على قوى التغيير والحراك الشعبي الذي اندلع في أكتوبر 2019 وكذلك المستقلين تفوق كتلة حزب الله وحلفائه.
2 – تصاعد قوة المعارضة
بالتزامن مع تصريحات حسن نصر الله بأنه لا توجد أكثرية داخل البرلمان، أكد رئيس حزب القوات سمير جعجع أن نتيجة الانتخابات كانت مدوية وهي خسارة حزب الله والتيار الوطني الحر، وأن التكتلات التي أنتجتها الانتخابات متفقة على نقاط أساسية رئيسة هي السيادة ووجود سلاح خارج الجيش اللبناني، وأنه لا يمكن لأحد أن يقدم على حرب جديدة أو ينقل صواريخ من مكان إلى آخر إلا بموافقة الجيش اللبناني، معلنًا أن كتلته هي الكتلة الأكبر داخل البرلمان وستتحمل مسؤوليتها على هذا الأساس.
تشير المواقف المبدئية لجعجع إلى أن دعوة نصر الله إلى التعاون أو الحوار لن تلقى تجاوبًا من جانبه على الأقل، بل أن كتلته ستقدم على طرح بعض القضايا التي يراها الحزب خطًا أحمر لا يمكن المساس بها، وفي مقدمتها ثلاثية “الشعب – الجيش – المقاومة” والتي تطرح سلاحه الذي يمتلكه وحافظ عليه من الحل والتفكك دونًا عن بقية الميلشيات اللبنانية ما بعد الحرب الأهلية بوصفه سلاحًا للمقاومة ضد إسرائيل. ذلك مرورًا بكل القضايا والملفات الخلافية على اتساعها بين تحالف ما اصطُلح على تسميته بالعهد (الثنائي الشيعي – التيار الوطني الحر) وتحالف ما اصطُلح على تسميتها بقوى السيادة (القوى التي تعلي سيادة لبنان وترفض سلاح حزب الله وانتماءه إلى المحور الإيراني).
3 – استراتيجية المواجهة أو استغلال التشرذم
توضح السوابق التاريخية في لبنان أن نتائج الانتخابات أيًا كانت ليس من المحتم أن تنعكس بشكل مباشر على المشهد السياسي لصالح القوى التي يمكن تسميتها بالفائزة أو الحاصلة على عدد مقاعد أكبر داخل البرلمان. ومن ثم فإنه من السابق لأوانه الحديث عن أن حزب الله وحلفاءه قد تعرضوا لخسارة مدوية خلال الانتخابات، أو أن حضورهم في المشهد السياسي اللبناني قد تقلص لصالح القوى التي استطاعت تحقيق انتصار أكبر سواء من الناحية العددية كحزب القوات أو من الناحية الرمزية كقوى التغيير أو من ناحية الاحتفاظ بوضعها السابق كالحزب التقدمي الاشتراكي.
وما يبرهن على هذا أن حزب الله يمتلك ورقتين مهمتين يستغلهما في التأثير لصالح موقفه وقراراته داخل لبنان، الأولى هي سلاحه الذي قد يشهره في وجه القوى المناوئة إذا وصلت هذه المعارضة إلى نقطة اللا تلاقي تمامًا، وهو ما ألمح إليه رئيس الكتلة النيابية لحزب الله محمد رعد بقوله للمعارضة: “إذا رفضتم حكومة وطنية فأنتم تقودون لبنان إلى الهاوية”. أما الورقة الثانية فقد اعتاد الحزب على استغلالها خلال السنوات الماضية وهي ورقة الثلث المعطل في الحكومة أو أكثر من الثلث داخل البرلمان، والتي من شأنها شل الحياة السياسية في لبنان تمامًا، فضلًا عن عمله على استغلال التشرذم الحادث داخل البرلمان وسعيه إلى منع التئام كتلة معارضة قوية. وصولًا إلى احتمالات أن يلجأ الحزب من جديد إلى ورقة المقاومة، ويعمد إلى تصعيد المواجهة مع إسرائيل بشكل قد يصل أو لا إلى الشكل الذي بدا عليه في حرب 2006؛ بهدف تأكيد الحفاظ على سلاحه بدعوى المقاومة، والعمل على الحصول على التفاف شعبي يتجاوز ما أنتجته الانتخابات، فضلًا عن إرباك المشهد السياسي بانتظار تسويات جديدة.
مصير ضبابي
يقبل لبنان بدءًا من يوم 22 مايو 2022 حيث بدء ولاية البرلمان بتشكيلته الجديدة على أربعة استحقاقات دستورية من المفترض البت فيها لاستكمال مؤسسات الدولة والبدء في مسار طويل ومعقد لحل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها لبنان منذ سنوات أولها انتخاب رئيس جديد لمجلس النواب، وثانيها اختيار رئيس جديد للحكومة، وثالثها تشكيل الحكومة، ورابعها اختيار رئيس جديد للجمهورية خلفًا للرئيس ميشال عون الذي تنتهي ولايته بنهاية أكتوبر 2022. إلا أن إتمام هذه الاستحقاقات يشوبه الكثير من الضبابية.
1 – انتخاب رئيس مجلس النواب
أول الاستحقاقات التي تمثل اختبارًا لطبيعة التحالفات الجديدة داخل مجلس النواب هو اختيار رئيس مجلس النواب، وهو المقعد الذي يشغله رئيس حركة أمل نبيه بري منذ عام 1992، وأعلن عن ترشحه له لولاية جديدة. فيما أعلنت تكتلات ومن ضمنها كتلة القوات أنها لن تنتخب بري لولاية جديدة في رئاسة البرلمان، هذا بجانب القوى التغييرية التي ترفض من حيث المبدأ استمرار أي من الوجوه التقليدية الحاكمة.
ولكن من المرجح أن تميل الكفة إلى ترجيح انتخاب بري مجددًا رئيسًا لمجلس النواب، انطلاقًا من عدة عوامل، أولها وأهمها هو أن رئيس مجلس النواب يجب أن يكون شيعيًا حسبما جرت عليه أعراف ما بعد اتفاق الطائف، وهنا يظهر امتلاك الثنائي الشيعي لكامل المقاعد الشيعية داخل البرلمان، ومن ثم لن يكون هناك من يمكن أن ينافس بري على هذا المقعد. أما العامل الثاني فهو أن المعارضة قد يكون أقصى ما في وسعها هو التصويت بأوراق بيضاء خلال انتخابات رئيس مجلس النواب، مما قد يفقد بري الأغلبية اللازمة لاختياره، إلا أن التحالف الداعم لبري قد يستطيع بشكل أو بآخر تأمين هذه الأغلبية.
وهنا قد تظهر إشكالية مشابهة لما وصلت إليه الأمور بشأن انتخاب رئيس الجمهورية في العراق، وهي مسألة تحديد هذه الأغلبية هل هي أغلبية النواب الحضور أم أغلبية إجمالي عدد النواب. وهو جدال قانوني ودستوري قد يدفع فيه حلفاء بري إلى الاحتكام إلى المادة 44 من الدستور التي تنص على أن الاقتراع يكون “بالغالبية المطلقة من أصوات المقترعين”، إلا أن المناوئين قد يدفعون نظريًا بعدم تأمين النصاب القانوني اللازم لانعقاد الجلسة وهو غالبية أعضاء البرلمان.
2 – تكليف وتأليف الحكومة
ثاني الاستحقاقات والذي يرجح أن يكون أكثر تعقيدًا من اختيار رئيس مجلس النواب هو اختيار رئيس جديد للحكومة خلفًا لرئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية نجيب ميقاتي، بناء على الاستشارات النيابية الملزمة التي سيدعو إليها رئيس الجمهورية، وهو أمر تشوبه تعقيدات كثيرة، لا سيّما مع عزوف القيادات السنية التقليدية عن المشاركة في الانتخابات، وبروز القوى المعارضة داخل البرلمان أكثر من برلمان 2018، مما يعني أن الاتفاق على شخصية سنية لتشكيل الحكومة سيكون أمرًا صعبًا للغاية، ذلك فضلًا عن ما يمكن أن يمارسه حزب الله وحلفاؤه من ضغوط وتعقيدات في هذا المسار.
أما الاستحقاق الثالث والمتمثل في تأليف الحكومة فيبدو أكثر صعوبة بكثير من مسألة اختيار رئيس الوزراء؛ لكونه من المفترض أن يعكس التوازنات داخل مجلس النواب والتغييرات التي طرأت عليها وفي مقدمتها تراجع حصص التيار الوطني الحر الذي أسسه الرئيس عون ويرأسه صهره جبران باسيل لصالح حزب القوات.
وبالنظر إلى أن تشكيل الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي قد جاء بعد فترة طويلة من الفراغ الحكومي امتدت أكثر من عام بعد اعتذار كل من سفير لبنان لدى برلين مصطفى أديب ورئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري لعجزهما عن تشكيل حكومة لعدة أسباب يأتي في مقدمتها ما مارسه عون من تعطيل، فإن تشكيل الحكومة الجديدة لا يُتوقع أن يخرج عن هذا الإطار الزمني الطويل، خاصة مع تصريح سمير جعجع برفضه تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتصريح المضاد لمحمد رعد “إذا رفضتم حكومة وطنية فأنتم تقودون لبنان إلى الهاوية”، وكذلك ما ورد من تقارير حول احتمالات طرح بنود المبادرة الفرنسية المتعلقة بالإصلاح السياسي وتشكيل حكومة تكنوقراط من المستقلين والاختصاصيين، من جانب باريس أو واشنطن ليتسنى للمجتمع الدولي مساعدة لبنان اقتصاديًا. ومن ثم، يمكن القول إن حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي قد تستمر في مهمة تصريف الأعمال لمدة زمنية طويلة لا يُعلم أمدها.
3 – انتخاب رئيس الجمهورية
تنتهي ولاية الرئيس ميشال عون بنهاية أكتوبر 2022، ومن ثم فإن مجلس النواب سيكون مدعوًا إلى عقد جلسة لاختيار رئيس جديد للبنان خلال العشرة أيام الأخيرة من فترة ولاية عون، وهو أمر لن يقل تعقيدًا عن سابقيه، لا سيّما مع خسارة التيار الوطني الحر صفة الكتلة المسيحية الأكبر لصالح حزب القوات الذي سيكون معارضًا لمجيء رئيس التيار جبران باسيل رئيسًا للجمهورية، بجانب عدم حسم حزب الله موقفه من هذا المنصب سواء بترشيح باسيل أو بترشيح سليمان فرنجية رئيس تيار المردة. بالإضافة إلى عزم رئيس حزب القوات سمير جعجع الاستفادة من مكاسبه في الانتخابات ليختار الترشح لرئاسة الجمهورية.
وهذا الانقسام الحاد في الآراء قد يعيد إلى الأذهان فترة الفراغ الرئاسي التي عاشها لبنان أكثر من مرة طوال تاريخه، أطولها كانت بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق أمين الجميل في سبتمبر 1982 وتعذر اختيار من يخلفه حتى سبتمبر 1988، أما آخرها فكانت مع انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في مايو 2014 وامتدت حتى اختيار ميشال عون خلفًا له في أكتوبر 2016.
بما يشير إلى احتمالات أن يشهد لبنان شغورًا في منصب الرئيس حتى يتحقق التوافق على مرشح بعينه سواء بجهود داخلية أو خارجية، فضلًا عن احتمالات تعقد تشكيل الحكومة الجديدة إلى ما بعد نهاية أكتوبر المقبل، مما يعني أن حكومة تصريف الأعمال هي التي ستتولى صلاحيات رئاسة الجمهورية حسب الدستور، مثلما حدث مع حكومة فؤاد السنيورة في الفترة من 24 نوفمبر 2007 بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود وحتى 25 مايو 2008 بانتخاب ميشال سليمان. وهو أمر لن يكون بعيدًا عن التعقيد الإداري والسياسي والتشريعي الذي يمثله ما يمكن تسميته بالفراغ.
إجمالًا، في التقدير أن المعطيات التي تقدمها نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في لبنان لا يمكن وصفها بالتغيير الجذري أو أنها تفتح آفاقًا أكثر رحابة أو أملًا في الإصلاح مما سبقها على خلفية خسارة حزب الله وحلفائه الأكثرية داخل مجلس النواب؛ إذ إن مؤشرات عدة تشير إلى أن فقدان الأكثرية لا يعكس إلا مزيدًا من الانقسام الحاد في مجمل المشهد السياسي اللبناني انطلاقًا من حقيقة وواقع أن هذه القوى لن تتنازل بسهولة عن مكتسباتها طيلة السنوات الماضية، وأن النتيجة الأكثر حتمية وترجيحًا هي تعطيل وفراغ ممتدان حتى التوصل إما إلى تسوية سياسية سلمي أو تصعيد ميداني تكون له تبعاته على المواقف السياسية.
.
رابط المصدر: