أسماء فهمي
خلّفت جائحة كورونا وتبعاتها آثارًا سلبية على الاقتصاد العالمي، بل ودخلت عامها الثالث بمتحور جديد والذي أطلق عليه “أوميكرون”، مما دفع الدول لتقييد الحركة والعمل على تفادي تحديات الأزمة، كما جعل العالم أقل تفاؤلًا بشأن وضع الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي 2022، بل وإعادة النظر في التوقعات السابقة، خاصة فيما يتعلق بمؤشرات النمو ومعدلات التضخم. ومع ارتفاع الإصابة بالفيروس عانت الولايات المتحدة وعدد من اقتصادات الدول الناشئة والنامية من تراجع النمو وارتفاع معدلات التضخم وذلك مع ارتفاع أسعار الطاقة وتذبذب سلاسل التوريد. كما أن الصين أيضًا والتي كان يعول عليها سابقًا في تسريع عجلة الاقتصاد العالمي تعاني من تباطؤ قطاع العقارات والاستهلاك الخاص والذي ألقى بظلاله على معدلات النمو بها، وفي الوقت نفسه لا تزال السياسة النقدية للبنوك المركزية تتسم بالحذر فيما يتعلق بسعر الفائدة ومواجهة الضغوط المستمرة للأسعار.
وفيما يلي يسلط المقال الضوء على عدد من النقاط التي تناولها تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي في يناير 2022، ومنها العوامل التي تشكل آفاق المستقبل والنمو العالمي الذي يتجه إلى التراجع مع استمرار التضخم لفترة أطول، وكيف ينبغي أن يتحرك صناع السياسات لمواجهة هذه الأوضاع؟.
أولًا: العوامل التي تشكل آفاق المستقبل
أظهر التقرير وجود عدد من القيود التي يواجهها العالم والتي ساهمت في تشكيل آفاق المستقبل للاقتصاد العالمي، ومنها استمرار الجائحة لعامها الثالث مع ظهور تحورات كورونا، إلا أن اللقاحات ساهمت في أن يظل متوسط الوفيات الناتجة عن الإصابة بالفيروس حوالي 7 آلاف وفاة يوميًا عالميًا منذ بداية شهر أكتوبر الماضي، وبلغ عدد متلقي اللقاح 55% من مجموع الأفراد تلقوا جرعة لقاح واحدة على الأقل، وهناك أمل في أن يساهم اللقاح في تقليل الآثار الصحية السلبية على الأفراد بنهاية عام 2022، إلا أن التوقعات تُشير إلى أن معدلات التطعيم الشاملة والمستهدفة لن تتحقق إلا بنهاية عام 2023.
وتَمثّل القيد الثاني في استمرار انقطاع سلاسل الإمداد حتى الربع الرابع من العام الماضي 2021 والذي أدى إلى تراجع معدلات التصنيع العالمية، وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، كما تراجع النشاط الصناعي في الصين في النصف الثاني من عام 2021 بسبب انقطاع الكهرباء والذي صاحبه تراجع في الاستثمار العقاري والاستثمارات العامة، كما تشكل التوترات الجغرافية السياسية في أوروبا الشرقية وشرق آسيا مخاطر على إمدادات الطاقة والتجارة الدولية وغيرها.
أما القيدُ الثالث فتمثل في مواصلة الارتفاع في معدلات التضخم بالنصف الثاني من عام 2021 مدفوعًا بعدد من العوامل منها زيادة أسعار الطاقة وأسعار الغذاء وأسعار السلع المستوردة، كما قد يؤدي استمرار ارتفاع تكلفة المعيشة مع نقص العمالة إلى ارتفاع الأجور مما سيضغط على الأسعار باتجاه الارتفاع، وأخيرًا فإن تشديد السياسة النقدية على مستوى العالم يعد أحد العوامل التي تشكل آفاق الاقتصاد العالمي بحسب صندوق النقد الدولي. ففي الولايات المتحدة تمت الإشارة إلى أن الاحتياطي الفيدرالي سيقوم برفع سعر الفائدة في العام الحالي، أما البنك المركزي الأوروبي فقد أعلن أنه لن يحدث تغيير في أسعار الفائدة ما لم يتم تثبيت التضخم عند المستوى المستهدف.
ثانيًا: النمو العالمي يتجه إلى التراجع مع استمرار التضخم لفترة أطول
وفقًا للتقرير يتوقع صندوق النقد الدولي أن يسجل النمو الاقتصادي العالمي 4.4% بتراجع مقداره 0.5% عن التنبؤات السابقة الواردة في التقرير الصادر في أكتوبر 2021 عن آفاق الاقتصاد العالمي، وذلك على إثر تخفيض التوقعات بشأن نمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 1.2% مع استمرار انقطاع سلاسل الإمداد، وتراجع الاحتمالات المتعلقة بإجراء تغيرات في عدد من القرارات المتعلقة بالسياسة المالية، كما دفعت أزمة القطاع العقاري الصيني إلى تراجع التوقعات بشأن نمو الاقتصاد الصيني بنحو 0.8%، وبالنسبة لمنطقة اليورو فإنه مع ضعف سلاسل الإمداد تم تخفيض التنبؤات المتعلقة بالنمو، أما معدلات النمو العالمي في عام 2023 فقد جاءت التوقعات أعلى قليلًا من التوقعات الصادرة في تقرير أكتوبر 2021 وبنسبة 0.2%، ويمكن متابعة التعديل في توقعات نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي العالمي من خلال الشكل التالي:
شكل رقم (1): مقارنة توقعات نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي العالمي الصادرة في أكتوبر 2021 ويناير 2022
المصدر: صندوق النقد الدولي.
يبين الشكل السابق أن التقرير الصادر في أكتوبر 2021 توقع أن يصل النمو العالمي 4.90% في عام 2022 ليسجل 3.60% في عام 2023، أما التقرير الصادر في يناير 2022 فعدل التوقعات ليصل معدل النمو العالمي 4.40% في عام 2022 و3.80% في عام 2023.
أما معدلاتُ التضخم فإن التقرير يُظهر توقعات باستمرار ارتفاع التضخم في عام 2022 ليصل متوسطه إلى 3.9% في الاقتصادات المتقدمة و5.9% في الاقتصادات الناشئة والنامية، ليتراجع بعد ذلك في عام 2023 خاصة مع تراجع الانقطاع في سلاسل الإمداد وتضييق السياسة النقدية والاعتدال في زيادة أسعار الوقود. وبخصوص التجارة العالمية، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تتراجع التجارة العالمية في عامي 2022 و2023.
ثالثًا: كيف ينبغي أن يتحرك صناع السياسات لمواجهة هذه الأوضاع؟!
سلّط التقرير الضوء على عدد من النقاط التي من شأنها أن تساعد الاقتصاد العالمي على تخطي الأزمة للوصول إلى معدلات التعافي الاقتصادي المستهدفة. ففيما يتعلق بسياسات الصحة العامة، يرى صندوق النقد الدولي أنه لا بد من تحقيق العدالة في توزيع اللقاحات المضادة لفيروس كورونا وتوفيرها بما يضمن حصول الدول عليها، بجانب توفير أدوات الحد من انتشاره من التشخيص والإجراءات الصحية المختلفة. فبحسب التقرير فإن هناك 70% من نسبة السكان الذين حصلوا على تلقيح كامل ضد كورونا في البلدان ذات الدخل المرتفع، بينما لا تتجاوز النسبة 4% في البلدان منخفضة الدخل، وهذا يُظهر حجم الفجوة في الحصول على اللقاح، وهذا يتطلب من الدول تحقيق مزيد من التنسيق والتعاون لتحقيق الأهداف العالمية بهذا الخصوص، بجانب توفير الدعم والتمويل للدول النامية وتسهيل نقل التكنولوجيا فيما يخص القطاع الصحي.
ويرى صندوق النقد الدولي أيضًا فيما يتعلق بالسياسة النقدية أن يتم التراجع عن الدعم المقدم من السياسة النقدية في البلدان التي تعاني من الضغوط التضخمية ووجود توقعات بشأن الاتجاه المرتفع للأسعار في تلك الدول، وخاصة مع ظروف تحورات فيروس كورونا وما يسببه من تقلبات مفاجئة في الأسعار. وقد قام عدد من الدول التي تعاني من ارتفاع التضخم بالفعل باتخاذ سياسات نقدية تشديدية، والإفصاح عن رفع أسعار الفائدة كما في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين ظلت منطقة اليورو واليابان تتبع سياسة تيسيرية، وتقديم الدعم في محاولة منها للوصول للتعافي الاقتصادي.
وفيما يتعلق بالسياسات المالية فيقول التقرير إنه لا بد أن تعمل الدول على تقليل معدلات عجز المالية العامة خلال السنوات القادمة، ولا بأس من أن تنخفض معدلات الضبط المالي إذا ما تفاقمت الجائحة، كما ينبغي على الدول أن توجه الدعم للأفراد الأكثر احتياجًا مع وضع خطط مالية تتسم بالمصداقية والاستدامة، أما الدول التي تحقق نموًا أكثر مما هو متوقع فينبغي عليها أن تتوقف عن تخصيص النفقات التي تم توجيهها للحد من الأزمة، كما أنه يجب على الدول أن تحقق نمو في حجم الإيرادات الضريبية وذلك لتجنب الحاجة للديون.
وأشار التقرير إلى ضرورة القيام بإصلاحات هيكلية لمواجهة التحديات المتعلقة بالجائحة خاصة بالبلدان منخفضة الدخل مع التكيف مع التغيرات التي فرضتها الجائحة في أوجه الحياة المختلفة بشكل عام، كما أنه يجب على الدول أن تتبنى مبادرات فردية للحد من التغير المناخي بجانب التعاون الدولي وانتهاج سياسات عالمية للحد من التغير المناخي.
وأخيرًا، يرى التقرير أن جائحة كورونا وتحوراتها أدت إلى ارتفاع الضغوط التضخمية مع تأثر الأسواق المالية العالمية، وهو ما دفع عددًا من الدول المتقدمة لاتخاذ سياسات نقدية تضييقية. ويقول التقرير إن أسعار الفائدة العالمية طويلة الأجل ارتفعت بشكل حاد في بداية عام 2022، وهو ما ينبئ بأن الاحتياطي الفدرالي سيسرع من سياسته النقدية. كما نوه التقرير إلى ضرورة اتخاذ سياسات نقدية ومالية وتلك المتعلقة بالحد من تغير المناخ، وذلك لمواجهة تحديات الأزمة وللتسريع من تحقيق التعافي الاقتصادي العالمي.
.
رابط المصدر: