عاصفة مناعة في جسد المصاب بكورونا

غادة المطيري

 

مناعة. الأرجح إنها من أكثر الكلمات التي رافقت جائحة فيروس كورونا. تتسابق الدول والشركات على اكتشاف لقاح. لماذا؟ لأن اللقاح يجعل الأجساد منيعة ضد كورونا، فيتوقف انتشاره. ونالت تلك الكلمة شهرة مدويّة مع تبني رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مقولة “مناعة القطيع” [بمعنى المناعة الجماعية] كمقاربة في التصدي لوباء “كوفيد 19” [اسم علمي آخر للفيروس نفسه]. وكذلك استعملت مستشفيات في فرنسا وأميركا وإيطاليا وغيرها، أسلوب أخذ أجسام مناعية ممن أصيب بكورونا وشُفي منه، بهدف استعمالها في علاج مرضى لديهم إصابة قوية بذلك الفيروس.

إذاً، ما السر العلمي الكامن خلف كلمة مناعة، في وباء كورونا؟ الأرجح أن الأمر يتعلّق بظاهرة “عاصفة المناعة” التي ترافق الإصابة بفيروس كورونا، بل إنها ترافق مجموعة من الأمراض كالسرطان ونوبات القلب ومجموعة الأمراض المتصلة باختلال عمل جهاز المناعية كالروماتيزم وغيرها.

إذاً، ما المقصود بعاصفة المناعة؟ ببساطة، إنها رد فعل قوي ومغلوط ومبالغ فيه، تصدر عن جهاز المناعة. وفي الحالة الطبيعية، يتولى جهاز المناعة الدفاع عن الجسم وأعضائه وأنسجته وخلاياه. ويفعل ذلك بطريقة دقيقة، بمعنى أنه يصنع خلايا وأجساماً مناعية مضادة، تعمل ضد ما يهدد الجسم. إذا دخل ميكروب الجسم، يستنفر جهاز المناعة ويضرب بالخلايا والأجسام المناعية المضادة ذلك الميكروب كي يخلص الجسم منه.

في المقابل، ماذا يحدث عندما تضطرب هذه العملية؟ في تلك الحالة، ينقلب جهاز المناعة ضد صاحبه، فيضرب خلاياه وأنسجته، ويصبح مصدراً للمرض. وفي حالة كورونا، يتحرك جهاز المناعة كي يضرب الفيروس، ويكوّن ضده أجساماً مناعية، لكن المشكلة تأتي عندما يبالغ جهاز المناعة في رد فعل. وينتج الجهاز فوائض من الخلايا والأجسام المناعية، وتعمل بطريقة “اعتباطية” أيضاً، فتكون أشبه بعاصفة هوجاء. وإذ تضرب عاصفة المناعة الجسم، فإنها تصيبه بأمراض، على غرار إصابة الرئتين بالتهاب رئوي حاد قد يصل إلى حدّ توقفهما عن وظيفتهما الأساسية المتمثلة في تزويد الجسم بالأوكسجين. وبذا، يصبح المريض بحاجة إلى الحصول على الأوكسجين بواسطة أجهزة التنفس الاصطناعي. وإذا لم تسعفه، يصل إلى الموت.

عانيتُ أنا خسارة شخصية مؤلمة تأتت جراء عاصفة المناعة، إذ توفي والدي متأثراً بها قبل خمس سنوات. لقد انفلتت عاصفة مناعية في جسمه، وأدّت إلى حالة تعرف باسم “إنتان الدم”. وجرفت تلك العاصفة مجموعة من أعضاء جسد والدي، فتوقفت عن العمل. بقول آخر، لقد قضى والدي بأثر من اضطراب جهاز المناعة الذي يفترض به طبيعياً أن يحميه، لكن الحارس تحول ذئباً منفلتاً. وخارج التجربة الشخصية، تتسم أجساد الأكبر سناً بأنها أكثر هشاشة حيال عاصفة المناعة، فيصل معدل الوفيات بأثر ضرباتها إلى ما يتراوح بين 40 في المئة و80 في المئة.

ثمة ملمح آخر مهم في فيروس “كوفيد 19” يتمثّل في أنه جديد على البشر، بمعنى أن أجسادهم لم تواجهه من قبل. وكذلك يقضي يومياً في أقسام العناية المركزة في مستشفيات العالم، كثيرون ممن ناءت أجسادهم بثقل عاصفة المناعة. ويقضي بعضهم قبل تشخيص تلك الحالة لديهم، فلا يُعالجون منها.

في ذلك الصدد، ثمة ما يفوق المئة من الكائنات الدقيقة، معظمها فيروسات تشمل كورونا، بإمكانها إطلاق عاصفة مناعية في جسد من تصيبه. وتشمل تلك القائمة فيروس “أتش1 آن1″ الذي سبب موجة وباء في 2009، والفيروسات التي تسبب حمّى نزفية كـ”إيبولا” و”دينغ”، إضافة إلى “كورونا المستجد” [تسمية علمية أخرى لـ”كوفيد 19″].

في مقلب مغاير، ثمة تفاوت بين الأشخاص في مدى تأثر الجسم بعاصفة المناعة، حتى لو حرّكها الفيروس أو الميكروب نفسه. ويوجد تأهيل جيني لدى ما يتراوح بين 10 في المئة و20 في المئة من الناس، يصنع فارقاً دقيقاً في رد فعل جهاز المناعة لديهم، ما يضعهم قيد خطورة أن تثور في أجسامهم عاصفة مناعية تُحدِثها جراثيم أو فيروسات أو عناصر عدوى أخرى.

ما هي التفاصيل العلمية الدقيقة عن عاصفة المناعة؟ يبدأ أمرها بأن ينتُجْ الجسم بروتينات من نوع مناعي يسمّى “سايتوكاينز”، كي تُساعد في مواجهة البكتيريا والفيروسات وما يشبهها من مُسببات العدوى. وكذلك تؤدي الـ”سايتوكاينز” إلى ما يشبه وضعية حدوث التهاب، إذ إنها تجتذب كريات الدم البيضاء، وهي أساس القتال ضد الميكروبات، إلى موضع التصادم بين تلك البروتينات المناعية وعناصر العدوى. ويفترض أن تتعاون كريات الدم البيضاء مع الـ”سايتوكاينز” في تكوين رد فعل مناعي مناسب ضد العدوى.

في المقابل، يحدث أن تضخ كميات كبيرة من الـ”سايتوكاينز”. وفي الوضع الطبيعي، يفترض أن يتصدى جهاز المناعة بفاعلية للعنصر المُسبب للمرض، ثم يخفض نشاطه بعد ذلك. ولكن، في حالة العاصفة المناعية، ينشط جهاز المناعة، بل يفرط في النشاط، أثناء ردّه على العدوى، لكنه يستمر في نشاطه المتصاعد، من دون انخفاض.

ومنعاً للالتباس، لا يتأتى ذلك الإحجام عن تخفيض النشاط بسبب من قوة جهاز المناعة، بل يحدث بسبب خلل دقيق في عمل ذلك الجهاز. وتالياً، تظل استثارته مستمرة مِنْ قِبَل الـ”سايتوكاينز”، ما يؤدي إلى ضرب أعضاء عدّة في الجسم وتوقفها عن العمل، بل وصولاً إلى الموت، وفق ما شُرِحَ آنفاً.

وتتميّز العاصفة المناعية التي يستثيرها كورونا ببضع صفات دقيقة، لعل أولها أنها تركز ضرباتها على الرئتين أولاً، فيما يتأخر استهداف الرئتين في عواصف مماثلة تُحدثها فيروسات أخرى. واستطراداً، يمثّل الالتهاب الرئوي الحاد مشكلة كبرى للمرضى ممن يعانون إصابة شديدة بكورونا.

في سياق متصل، يتوصّل كثيرون إلى النجاة من عاصفة المناعة. يحدث ذلك إذا عولِجَتْ مبكراً، بل أحياناً حتى لو تأخر العلاج. شكّل علاج العواصف المناعية بؤرة اهتمام للمركز البحثي الذي أديره. وقد نشر في 2010، دراستنا الأولى، أنا وزملائي في فريق البحث، عن دواء “يتحرّك” تحديداً عندما يثور رد فعل مناعي ذو طابع التهابي، كي يُطلق مادته الفاعلة. وفي 2018، نشرتُ مع فريق بحثي ورقة علمية تُظهر استعمال تقنية النانوتكنولوجيا في حمل مواد دوائية فاعلة ضد الالتهابات. إذ توضع تلك المواد الفاعلة مع جسيمات نانوية الحجم، فتلتصق معاً، لكن الجسيمات النانوية “تطلق” ما تحمله من مواد دوائية فاعلة حينما يحدث ارتفاع في مستويات الـ”سايتوكاينز” بالترافق مع حدوث التهابات. وكذك أثبتت تلك الورقة أن هذه الطريقة في “توصيل” الأدوية إلى الالتهابات أكثر جدوى وفاعلية من الطريقة التقليدية في إعطاء الأدوية المُضادة للالتهابات، إضافة إلى أنها تحمي الأنسجة من الضرر الذي تُحدثه الالتهابات المتصلة برد الفعل المناعي.

وكذلك نعتقد بوجود حالات مرضية تتميز بحالات التهابية قوية كـ”كوفيد 19″، فتودي الأدوية التي تُطلَق عبر تقنية متقدمة [كتلك التي تعمل على تحميلها على جسيمات النانو]، مع ملاحظة أنها توضع بداية في “مخزن” داخل الجسم؛ دوراً مهماً في مكافحة العدوى مع الحفاظ على سلامة أنسجة الجسم وحمايتها من أذى تتسبب به الأدوية التي تعطى بطرق تقليدية. لقد كان مختبري أول من بيّن الجدوى الواضحة لاستعمال نظام توصيل الأدوية إلى الأنسجة بالترافق مع تصاعد الالتهابات فيها، وأن ذلك يؤدي إلى منع نشوء عواصف مناعية. ولقد طبّقنا ذلك في حالات التهابية حادة مماثلة لكورونا.

في شكل موجز، لقد استطعنا للمرة الأولى تطويع جسيمات [مصنوعة من مادة صناعية] في صنع منظومة تستطيع أن تتحسّس متغيّرات بيولوجية في الجسم، تحديداً حالة الالتهاب، ثم تتجاوب معها عبر إطلاق أدوية مضادة لذلك الالتهاب. وكذلك صُمّمت المنظومة كي تعمل بمجرد تحسسها حدوث رد الفعل المناعي المرافق للالتهاب، وتتدخل مبكراً في منع رد الفعل الالتهابي وتخفيفه، ما يقلل الضرر الناجم عن الالتهابات إلى أدنى حد ممكن. واستطراداً، تعني تلك المعطيات أن الأدوية التي تطلق بواسطة تلك المنظومة الحساسة، تعمل أيضاً بطريقة وقائية. ولأن العملية الالتهابية الحادة تجري بصورة سريعة، يؤدي التدخل المبكر في وقفها بواسطة منظومة الأدوية المضادة للالتهابات، إلى تخفيف الآلام الالتهابية وتقليل حجم الإضرار بالأنسجة أيضاً.

وفي السياق عينه، أظهرنا أن التدخل المبكر عبر منظومة “ضخ” الأدوية المحمولة بواسطة جسيمات النانو، يعطي تأثيراً مُضاداً للالتهابات ضمن الحد الأدنى من جرعات تلك الأدوية. وكذلك بيّنّا أن تلك المنظومة تمثّل الخيار الوحيد الذي يستطيع إعطاء وقاية للأنسجة من تأثيرات تغلغل الالتهابات فيها، وضمن مدة ثمانية أيام. وكذلك يؤدي إدخال تلك المنظومة التي تتجاوب مع الحالة الالتهابية، إلى الجسم قبل تفاقم رد الفعل الالتهابي، يؤدي إلى إجهاضها كليّاً أو تخفيفها إلى حدٍّ كبير، ما يحسّن فرص الشفاء.

وكخلاصة، يعمل فيروس “كوفيد 19” على تحريض جهاز مناعة المريض كي ينقلب عليه ويعمل ضده. ولقد آن الوقت كي نضخّ الأموال والمواهب العلمية صوب تفكيك أسرار جهاز المناعة. ويشمل ذلك التقنيات الجديدة في توصيل الأدوية في دواخل الجسم، على غرار تلك المنظومة التي طوّرناها، والتي يجب أن تطبق عملياً وسريرياً في علاج المرضى، توخياً لمنع الضرر الذي تحدثه عواصف المناعة، وحتى منع انطلاقها.

رابط المصدر:

https://www.independentarabia.com/node/115616/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D9%81%D8%A9-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M