بقلم : عبدالرحمن الحديدي، باحث متخصص في الأمن الدولي
أصدر البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة تقريره الخاص المعني بالأمن البشري في الثامن من فبراير عام 2022، الموسوم “تهديدات جديدة للأمن البشري في عصر الأنثروبوسين: المطالبة بمزيد من التضامن”. يتزامن هذا التقرير مع واحدة من إحدى اللحظات الحرجة في تاريخ الحضارة الإنسانية، حيث يشهد العالم مخاطر سياسية واقتصادية وصحية وبيئية تهدد حاضره ومستقبله، وبالطبع تتصدر جائحة كوفيد-19 والتغيرات المناخية قائمة المخاطر.
بدايةً، يرمز مصطلح “الأنثروبوسين Anthropocene” إلى العصر الجيولوجي الذي يتفوق فيه الإنسان على سائر المخلوقات التي تشاركه النظام الإيكولوجي، وذلك من خلال تأثيره على المناخ والبيئة وجميع الأنظمة الحيوية على الأرض. ترجع أصل كلمة Anthropocene إلى اللغة اليونانية وتتكون من شقين. الشق الأول؛ “Anthropo” وتعني “إنسان”، والشق الثاني؛ “cence” وتعني “حِقبة”. وقد صاغ هذا المصطلح عام 2000 عالم الأحياء “يوجن ستورمر” والكيميائي “بول كروتزن”. لاقى هذا المصطلح -ولازال – جدلاً واسعًا في الأوساط الأكاديمية حتى تم اعتماده رسميًا عام 2016 من قِبل “مجموعة عمل الأنثروبوسين” بإعتباره العصر الجيولوجي الجديد.
كان لجائحة كوفيد-19 أثرها البالغ على معدلات الأمن البشري. فعلى الرغم من وصول معظم دول العالم لمستوى أفضل من أي فترة سابقة في مؤشر التنمية البشرية، إلا أن شعور البشر بإنعدام الأمن كان يتزايد حتى في البلدان الأكثر تقدمًا والتي تتمتع بأفضل معدلات للتنمية البشرية. يُشير التقرير إلى أن 6 من أصل 7 أشخاص حول العالم أعربوا عن شعورهم بعدم الأمان في السنوات التي سبقت انتشار الجائحة على الرغم من التحسن الملحوظ في حياة البشر على مختلف الأصعدة. وقد أدت الجائحة إلى تعميق هذا الشعور لدى البشر. وبالطبع تزداد بشكل أكبر هذه النسبة في الدول النامية وفي القلب منها العالم العربي والتي لديها معدلات أقل في مؤشر التنمية البشرية.
قدم التقرير تفسيرًا لهذه المفارقة المتمثلة في ازدياد معدلات التنمية البشرية والذي تزامن مع زيادة شعور الناس بإنعدام الأمن. إن تدخل الإنسان ومحاولته السيطرة على الكوكب-الأنثروبوسين- والتي نتج عنها كوارث طبيعية كالتغير المناخي وجائحة كوفيد-19، ومناهج واستراتيجيات التنمية القائمة على زيادة معدلات النمو الاقتصادي وتجاهل تحقيق تنمية بشرية حقيقية والتي أدت إلى عدم مساواة، هما العاملان الرئيسيان الذي رجح التقرير سبب شعور البشر بإنعدام الأمن. إن سعي الدول لتحقيق تنمية اقتصادية أدى إلى تجاهلها للعوامل البيئية، وأتبع ذلك كوارث ضخمة تعرضت لها الأرض. فإلى جانب التغير المناخي والأمراض والأوبئة المتلاحقة، فإننا نشهد خسائر فادحة في التنوع البيولوجي وزيادة التهديدات التي تتعرض لها النظم البيئية كحرائق الغابات والفيضانات وزيادة انعدام الأمن المائي والغذائي.
قُدم مفهوم الأمن البشري لأول مرة في عام 1994 في تقرير الأمن البشري، الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ليحول الأنظار تجاه تحقيق الأمن من مفهوم “أمن الإقليم” إلى مفهوم “أمن البشر”. ويتكون الأمن البشري من سبعة جوانب رئيسية هي الأمن الاقتصادي، الأمن الغذائي، الأمن الصحي، الأمن البيئي، الأمن الشخصي، الأمن المجتمعي، الأمن السياسي. وتتمحور كل هذه الجوانب في غايتين رئيسيتين هي الحرية من الخوف، والحرية من العوز أو الحاجة. وأيضًا سلط الضوء على الارتباط بين الأمن والتنمية وحماية وتمكين الأفراد والمجتمعات.
بعض الحقائق التي أشار إليها التقرير:
- زيادة مطَّردة في معدلات الجوع: وصل عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع إلى 800 مليون شخص عام 2020. فضلاً عن أن هناك 2.4 مليار شخص يعاني من انعدام الأمن الغذائي، نتيجة تراكم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والبيئية قبل عام 2019 ولكن جاء الوباء ليزيد الطين بِلَّة عامي 2020 و 2021.
- استمرار تأثير تغير المناخ على حياة البشر: فحتى إذا حدث انخفاض معتدل لدرجة حرارة الأرض، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى وفاة حوالي 40 مليون شخص حول العالم، معظمهم في الدول النامية، كنتيجة لزيادة درجات الحرارة منذ اللحظة وحتى نهاية القرن.
- زيادة عدد المُهجَّرين قسريًا: تضاعفت نسبتهم، حيث وصلت إلى 82.4 مليون شخص في عام 2020. ومن المُحتمل زيادة نسبة الهجرة القسرية، إذا ظلت معدلات التغير المناخي في وتيرة متصاعدة.
- التكنولوجيا الرقمية: وهي سلاح ذو حدين، حيث يمكنها أن تلعب دورًا محوريًا في مواجهة تحديات عصر الأنثروبوسين. إلا أن الوتيرة السريعة للتحول الرقمي تتزامن مع تهديدات جديدة قد تؤدي إلى تفاقم مشكلات من قبيل عدم المساواة وزيادة معدلات العنف وزيادة مخاطر الجرائم السيبرانية والتي بلغت تكلفتها 6 ترليون دولار بنهاية العام المنصرم.
- وصل عدد الأشخاص المُتضررين من النزاعات إلى مستويات قياسية: بلغ عدد البشر الذين يعيشون في مناطق النزاعات إلى حوالي 1.2 مليار شخص، بالإضافة إلى 560 مليون يعيشون في بيئات هشة.
- زيادة هائلة في معدلات العنف ضد المرأة: بلغ عدد النساء والفتيات اللاتي يُقتلن على يد الشريك الحميم أو أسرهن إلى 47.000 في عام 2020. في المتوسط، تُقتل امرأة أو فتاة كل 11 دقيقة عن طريق الشريك الحميم أو أحد أفراد الأسرة.
- اتساع الهوة بين الدول المتقدمة والدول النامية في النظم الصحية المتبعة.
أولا: الكوارث الطبيعية وتأثيرها على عمليات النزوح
تمثل الكوارث الطبيعية سببًا رئيسيًا في زيادة معدلات النزوح والتهجير القسري. فكل من تدهور الأراضي الزراعية وندرة المياة والمخاطر الطبيعية واستنفاد التنوع البيولوجي تشكل عاملاً مباشرًا يفضي إلى إشعال النزاعات وتسريع وتيرة الهجرة وزيادة معدلات العنف والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر. أشار تقرير التنمية البشرية لعام 2020 أنه بحلول عام 2070 يمكن أن تغطي المناطق شديدة الحر على ما يقارب خُمس أراضي العالم. ومن أبرز الأمثلة على هذه المناطق هي الصحراء الكبرى والتي تقع في نطاقها سبع دول عربية هي مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وبلغ عدد الأفراد النازحين بسبب المخاطر الطبيعية 25 ميلون شخص حول العالم بنهاية عام 2019. ومن المتوقع أن يشهد العالم العربي انخفاضًا في هطول الأمطار بنسبة 10% بحلول عام 2050، الأمر الذي سيترتب عليه هجرة واسعة النطاق. ففي الصومال، على سبيل المثال، أجبرت فترات الجفاف مجتمعات بأكملها على الإنتقال إلى المستوطنات الحضرية وشبه الحضرية.
وعلى المستوى الدولي، أشار تقرير التنمية البشرية إلى بلوغ معدلات النزوح الجديدة في 2017 نسبة أكبر بنحو 12 مرة عن العام الذي سبقه. فوصل عدد الأشخاص الذين تأثروا بموجات النزوح إلى 900 ألف شخص، ناهيك عن نزوح قرابة المليون شخص بين عامي 2018 و 2019. وتشكل عمليات النزوح ضغوطًا هائلة على البنية التحتية في المناطق الحضرية والتي تؤدي إلى زيادة الكثافة السكانية في مناطق مكتظة بالسكان في الأساس. بالإضافة إلى صعوبة عثور الأشخاص النازحين على فرص عمل، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة معدلات العنف والجريمة المنظمة. وتوقع التقرير نزوح حوالي 13.7 مليون شخص في السنوات القادمة، وتبلغ نسبة السكان العرب المُتوقع نزوحهم إلى حوالي 500 ألف شخص.
ثانيًا: تفاقم أوجه عدم المساواة
كان للزيادة الهائلة في أوجه عدم المساواة في المجتمعات المختلفة أثرها البالغ في شعور الناس بإنعدام الأمن حتى قبل انتشار جائحة كوفيد-19. وتتنوع أوجه عدم المساواة التي يتم التفرقة على أساسها، على سبيل المثال، الجنس، العرق، الطائفة، الفئة العمرية.. إلخ.
هناك تزايد ملحوظ في معدلات عدم المساواة عالميًا، وفقًا لبيانات البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، حيث يصل معدل ربح أغني 10% من سكان العالم قُرابة 40% من إجمالي الدخل العالمي. بينما يتراوح معدل ربح أفقر 10% من سكان العالم بين 2% و7%. أما في الدول النامية، زادت معدلات عدم المساواة حيث وصلت هذه النسبة إلى 11%.
ثالثًا: تدهور نُظُم الرعاية الصحية
يُعتبر النظام الصحي مكون أساسي من مكونات الأمن البشري. وقد شهد العالم في العقود السابقة تحسن مقبول في أنظمتها عن ذي قبل. وتمثل هذا التحسن في انخفاض معدل وفيات الأطفال إلى أكثر من النصف بين عامي 1990 و2019، وانخفضت معدلات وفيات الأمهات بشكل ملحوظ. أضف إلى ذلك، تقلص الفوارق بين البلدان النامية وتلك المتقدمة في مستوى وكفاءة النظم الصحية. ولكن ظهور جيل جديد من الأمراض حيوانية المصدر (كان آخرها كوفيد-19 بمتحوراته المختلفة) والتي تنتقل للإنسان نتيجة تأثيره الضار على النظام البيئي (الأنثروبوسين) الأمر الذي دفع إلى العودة للوراء بعد التحسن النسبي الذي تحقق.
تمثل جائحة كوفيد-19 أحد أكثر التهديدات خطورة على صحة البشر في العقود الأخيرة، وتوقع التقرير أن تزداد نوعية هذه الأمراض في المستقبل القريب. ويؤدي بنا هذا الأمر إلى انتكاسة حقيقة للحضارة الإنسانية رغم كل التقدم الذي حققته.
كان توزيع اللقاحات ضد فيروس كوفيد-19 عاملاً محوريًا في جعل التعافي الاقتصادي ممكنًا. ولكن الأمر لم يسر على النحو المأمول، بل ظهرت وتكرست مظاهر عدم العدالة مجددًا بين الدول المتقدمة والدول النامية، حيث استأثرت الأولى على عمليات تصنيع وتوزيع اللقاحات. إن التفاوت بين الدول في الحصول على اللقاحات ليس فقط أمر بغيض من الناحية الأخلاقية، ولكنه أيضًا محرك رئيسي للتباين الحاد في عمليات التعافي الاقتصادي بين الدول. وبلغت نسبة عدد المُلقَّحين في الدول المتقدمة حوالي 67% من إجمالي السكان، مقارنة بـ 46% في الدول النامية، و30% في الدول متوسطة النمو، و7% في الدول الأقل نموًا. وتتفاوت نسبة السكان المُلقَّحين بين الدول العربية. فبإستثناء دول الخليج العربي التي حققت معدلات تلقيح مرتفعة وصلت في دولة الإمارات، على سبيل المثال، إلى قُرابة 70% من إجمالي السكان، لم تحقق باقي الدول العربية مستوى تلقيح مقبول.
رابعًا: تزايد الاهتمام بالتحول الرقمي.. نعمة أم نقمة؟
تتزايد أهمية التكنولوجيا بشكل كبير في حياة البشر وذلك على اختلاف طبيعتهم سواء كانوا مستهلكين، مواطنين، عمال، رجال أعمال.. إلخ. يمكن للتكنولوجيا أن تسهم بالكثير نحو تعزيز الأمن البشري، حيث يمكنها أن توسع مجال الحريات وزيادة معدلات الإنتاجية وتسهيل عمليات الاستجابة للتحديات الحالية مثل معالجة مخاطر الأنثروبوسين وتتبع الأوبئة.
نظرًا لاستخدام التكنولوجيا على نطاق واسع في العمليات التجارية والحوكمة والحياة الاجتماعية، فإنها تشكل تحدي جديد للأمن البشري. فقد أشار المشاركون في استطلاع للرأي أجراه المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن المخاطر التكنولوجية مثل عدم المساواة الرقمية والهجمات الالكترونية واحتيال وسرقة البيانات من ضمن التهديدات التي يعتبرونها متزايدة وتشكل خطرًا مباشرًا على أمن وحريات الأفراد. إن بإمكان التكنولوجيا أن تسهم في إلحاق الضرر بالناس مثل التنمر والتحرش والاحتيال ونشر المعلومات المضللة. وقدَّر التقرير تكلفة الضرر الناجم عن جرائم الانترنت في عام 2021 بحوالي 6 تريليونات دولار بزيادة 600% منذ بداية جائحة كوفيد-19.
ختامًا، كشفت صدمة جائحة كوفيد-19 عن هشاشة التقدم الذي أحرزته الحضارة الإنسانية. من المفترض أن يكون السياق الحالي بمثابة جرس إنذار للحكومات والمؤسسات الدولية لكي تستعد لمواجهة التهديدات المقبلة. إن الوضع الحالي يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن تحسين مصادر ومسببات الرفاهية المادية ليس شرطًا كافيًا لتحقيق الأمن البشري. فإن تحديات عصر الأنثروبوسين تتطلب تكاتف الحكومات والمجتمع الدولي مع بعضهم البعض. لن نستطيع مواجهة التحديات المقبلة بشكل فردي أو من خلال التركيز فقط على المصالح الوطنية الضيقة، وإنما من خلال التعددية الدولية. فمادام مصير الإنسانية مشترك، فلابد أن تكون الإستجابة مشتركة.
المصادر:
- New Threats to Human Security in the Anthropocene: Demanding Greater Solidarity, UNDP Special Report, February 20222.
- Nicola Davison, The Anthropocene epoch: have we entered a new phase of planetary history?, The Guardian, May 2019, available on: https://www.theguardian.com/environment/2019/may/30/anthropocene-epoch-have-we-entered-a-new-phase-of-planetary-history
.
رابط المصدر: