عام الانتقال: الاقتصادات المبتدئة الناشئة بين صدمات الأسواق وصدمات الاقتصادات

أحمد بيومي

 

ظهر مصطلح الأسواق الناشئة المبتدئة Frontier and emerging markets للمرة الأولى في عام 1992 عندما تم استخدامه من جانب فريدة خامباتا “Farida Khambata”، العضو في مؤسسة التمويل الدولية، وقصدت فريدة من ذلك المصطلح الإشارة إلى الاقتصادات الأقل تطورًا وحجمًا من الدول صاحبة الاقتصادات الناشئة مثل البرازيل والهند، وتقع مصر والمغرب وكينيا وفيتنام وباكستان ونيجيريا وبنجلاديش وسيريلانكا وتانزانيا ضمن تلك التصنيفات، وتضم عددًا من الدول الأخرى لها وفقًا لرؤية الجهة المصدرة للتقرير. وقد تعرضت تلك الاقتصادات المبتدئة الناشئة للعديد من الصدمات الخارجية في عام 2022 نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية والأوضاع النقدية التشددية “سياسة الصقور التي ترغب في رفع أسعار الفائدة” مما ترتب عليه انخفاض في أسعار صرف عملاتها، وارتفاع في أسعار الفائدة وضغوط تضخمية حادة، لكن يبدو أن النهاية لم تحن بعد، حيث إنه من المحتمل أن تقدم تلك الاقتصادات على مزيد من التعديلات في الاقتصاد الكلي فيما يخص خفض أسعار عملاتها والمزيد من التضييق النقدي ورفع سعر الفائدة بهدف استعادة الاستقرار الكلي لهيكل اقتصادات تلك البلدان. وعلى الرغم من أن معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية بدأت في التباطؤ بالفعل وشوهد ضعف ملحوظ في الدولار الأمريكي، إلا أن الآثار الإيجابية لتلك الظواهر تظل محدودة، خاصة مع وجود ضغوط كبيرة على تلك الاقتصادات غير مكتملة الإصلاح الاقتصادي، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة وخيارات التمويل المحدودة لتلك الدول.

ليس من الغريب أن تتشارك كل تلك الدول برامج اقتصادية مع صندوق النقد الدولي خاصة أنها تبحث عن مصادر تمويل بديلة ورخيصة وسط تلك البيئة المرتفعة من أسعار الفائدة عالميًا، تلك البرامج مع الصندوق تتطلب عادة تدابير وإصلاحات هيكلية في السياسات النقدية والتي من المتوقع أن تستمر في الظهور في عام 2023، يستثني المغرب وفيتنام من تلك الشروط حيث إن الدولتين تتمتعان بظروف اقتصاد كلي أكثر استقرارًا بشكل نسبي، لكن على الرغم من ذلك الاستقرار يتشاور المغرب مع الصندوق لتوقيع برنامج جديد في وقت لاحق.

وفي حال النظر إلى نيجيريا وباكستان، فإن تلك الضغوط تعتبر الأشد، إذ إن الإصلاحات في هاتين الدولتين لن تتوقف على بعض من الإصلاحات النقدية فحسب، بل ستمتد إلى تعديلات على الإطار المالي للبلاد من أجل إعادة الاستقرار الكلي للاقتصاد، وهنا تظهر العوامل السياسية في البلدين بسبب اقتراب موسم الانتخابات وهو ما يضع تحديًا وعقبات كبيرة أمام المعالجة الفورية لمشاكل الاقتصاد الكلي لإكسابه المزيد من الصلابة والتماسك. فعلى سبيل المثال، تتطلب باكستان تدخلًا عاجلًا لتوفير تدابير تمويلية عاجلة لاستيعاب الإنفاق الحكومي الواسع على كارثة الفيضانات الشديدة التي ضربتها في أواخر عام 2022، وتوفير تدابير مالية إضافية هو مطلب واضح من صندوق النقد الدولي وهو أمر يبدو قاب قوسين أو أدنى للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وعليه ربما تلجأ باكستان لتوفير تمويل إضافي من الدول الصديقة لها لتغطية الاحتياجات التمويلية الفورية والوفاء بتعهداتها للصندوق، لكن تنفيذ تلك الإجراءات أمر معقد بسبب المأزق السياسي المستمر الذي تحاصره معارضة قوية للائتلاف الحاكم، وهو ما يجعله مترددًا في الالتزام الكامل بمثل هذه الإجراءات الإصلاحية المطلوبة والقاسية.

أما عن مصر وكينيا وبنجلاديش، فإن الأوضاع أفضل نسبيًا من بين الأسواق المبتدئة الناشئة، فمن المتوقع استمرار آلام تلك البلدان في عام 2023 حتى لو بشكل أقل حدة من عام 2022، إذ إن تلك البلدان لا تزال بحاجة إلى خفض قيم عملاتها بنسبة 5 – 10% إضافية تقريبًا، خاصة وأن تلك البلدان تدخل مع صندوق النقد الدولي في تعهدات للحصول على تمويلات ميسرة، لكن تلك التخفيضات تعني أن معدلات التضخم في عام 2023 ستظل مرتفعة، فبالتأكيد ستكون معدلات التضخم أعلى من عام 2021 وربما تكون أكثر قليلًا أو متساوية مع معدلات 2022 وهو ما سيستدعي مزيدًا من التشديد النقدي في تلك البلدان.

من جانب آخر، فإن تحدي توفير العملات الأجنبية يُعتبر الأكثر إلحاحًا ضمن الموضوعات الاقتصادية في هذه البلدان، إذ إن لديها مستويات دين عام محلي عالمي تحتاج أن تدخل في مسار هبوطي بشكل سريع، لكن الجانب الإيجابي هو أن تلك البلدان (مصر، وكينيا، وبنجلاديش) أظهرت انضباطًا ماليًا ملحوظًا في العامين الماضيين، وهو ما يعزز من احتمالية صمودها خلال عام 2023 ليكون تمهيدًا لعام الانفراج في عام 2024.

أما عن المغرب وفيتنام، فتلك الدول تتسم اقتصاداتها بالاستقرار النسبي بشكل أكبر على الرغم من بقائها تحت الضغط، لكن أسس الهياكل الاقتصادية القوية والسياسات الكلية المنضبطة تمهد لأن تكون تأثيرات السياسة النقدية التشددية عالميًا أقل حدة من باقي الدول. لكن من جانب آخر، من المتوقع أن تتباطأ اقتصادات تلك الدول في العام المقبل في ظل ضغوط التباطؤ العالمي، وهو ما سيكون له تأثير سلبي على مستويات التجارة الخارجية. لكن ماذا عن أداء الاقتصاد الحقيقي في تلك البلدان.

عام الانتقال

ينعكس هنا الوضع الذي سبقت الإشارة إليه، فالاقتصادات التي وُصفت بأنها أكثر استقرارًا وأقل تأثرًا من السياسات النقدية والأوضاع الاقتصادية عالميًا ستكون الأكبر تأثرًا عند الحديث عن الاقتصاد الحقيقي، حيث إنه من المتوقع أن تستجيب الاقتصادات عالميًا لسياسات التشديد النقدي التي بدأت في عام 2022، ومن المفارقات أن تكون فيتنام من بين الدول الأكثر تأثرًا من التباطؤ المتوقع والركود المحتمل في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية هي سوق التصدير الرئيسي لفيتنام، وتشير البيانات إلى علامات أولية لحدوث ذلك الاتجاه، إذ تقلصت صادرات فيتنام لأول مرة هذا العام في نوفمبر بنسبة 8.4% على أساس سنوي، وهي إشارة واضحة إلى أن الطلبات الخارجية انخفضت بشكل جدي. لكن رغم ذلك التأثر لا يزال من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لفيتنام بنسبة تفوق 5%.

أما بالنسبة للمغرب فإن الوضع يصبح أكثر قلقًا، حيث من المرجح أن يتأثر المغرب بشكل كبير نتيجة لارتباط اقتصادها مع الاتحاد الأوروبي بشكل كبير، يعاني الاتحاد الأوروبي من العديد من المشاكل أولها هو التعافي الضعيف من جائحة كورونا، والحيز المالي الضيق الذي خلفته الحرب الروسية الأوكرانية، وفي ضوء أن المغرب يحصل على معظم دخله من خلال التحويلات والصادرات والسياحة من أوروبا بنسبة تفوق 65% فإن الوضع الاقتصادي المقلق في الاتحاد الأوروبي في ضوء تشديد البنك المركزي الأوروبي للأوضاع النقدية، والآثار السلبية التي خلفها التضخم على صافي دخل الأسر سيكون له تأثير على دخل المغرب. أما عن العوامل الداخلية فقد بدأ الحيز المالي الضيق في البلاد في التآكل بسبب تأجيل قيام الحكومة ببعض الإصلاحات المالية في موعدها، نضيف إلى ذلك الضرائب التي فرضتها المغرب على بعض القطاعات في الاقتصاد خاصة الزراعية منها والتي تأتي جزءًا من سياسة عامة أكبر بالمغرب لتأمين احتياجاتها من المياه، وبالتالي فإنه من المتوقع أن يتأثر الإنتاج الزراعي بالبلاد سلبيًا.

أما عن مصر وباكستان وبنجلاديش، فمن المتوقع أن تكون التأثيرات على الاقتصاد الحقيقي محدودة، إذ تنحصر تلك التأثيرات في ضعف التحويلات المالية المحتمل (تحويلات العاملين بالخارج)، نرى أن مصر شبه مؤمنة من ذلك السيناريو في ضوء حصولها على معظم تدفقاتها من دول الخليج والتي تتمتع بخلفية اقتصادية قوية وتنمو اقتصاداتها بشكل جيد في بيئة عالمية مرتفعة أسعار الطاقة، تنقلب الصورة في حال الحديث عن المغرب وكينيا ونيجيريا والتي من المتوقع أن تتأثر التحويلات المالية بها بشكل كبير إذ إن معظمها يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

أزمات سياسية 

من المحتمل أن تلعب الملفات السياسية دورًا هامًا في تشكيل الاتجاهات المالية والكلية بالاقتصادات الناشئة. الدولتان الأبرز في تلك التأثيرات هما نيجيريا وباكستان، حيث من المقرر أن تكون هناك انتخابات رئاسية في نيجيريا في فبراير من عام 2023 لتنهي فترة الثماني سنوات التي حكمها الرئيس “بوهاري”، ربما ينظر إلى نزول “بوهاري” عن كرسي الرئاسة على أنه خبر جيد للسوق، خاصة وأن سياساته الاقتصادية كانت غير صديقة للسوق، لكن أيًا من الثلاثة المرشحين محل الرئيس الحالي سيغير من سياساته الاقتصادية ليتحكم بالوضع المالي غير المستقل بالبلاد، وهو الأمر الذي يعني تنفيذ إصلاحات مالية تمكنه من تلبية احتياجات الإنفاق الحالية، والتي يمكن أن تكون التخلص من دعم الوقود، وتغيير محافظ البنك المركزي النيجيري، وهو ما يعني احتمالية تغير السياسة النقدية في الفترة المقبلة مقارنة بالسنوات السبع الماضية التي حكمها السيد “جودوين أميفيل”.

أما في حالة باكستان فإنها تعيش مأزقًا سياسيًا منذ أوائل العام، حيث تم عزل رئيس الوزراء السابق “عمران خان”، ومنذ ذلك الحين أصبحت البلاد ممزقة بين معارضة قوية وتحالف حاكم أقل قوة، وهو مزيج سياسي يجعل من الإصلاحات الاقتصادية صعبة للغاية، إذ يجد الائتلاف الحاكم نفسه مضطرًا إلى تنفيذ الحد الأدنى من الإصلاحات الاقتصادية التي تضمن صمود البلاد، لكن ذلك يكلف شعبية ذلك الائتلاف، ولن تحل تلك المشكلة قبل تحديد موعد للانتخابات، وهو أمر لا يرغب فيه الائتلاف الحاكم في ضوء الضعف الحالي، إذ إن الدعوة لانتخابات مبكرة هي مخاطرة لتسليم السلطة لحزب المعارضة الأقوى، لكن من المتوقع أن تتحدد تلك الانتخابات في وقت لاحق من عام 2023 وهو ما يترك البلاد في حالة من عدم اليقين السياسي الكبير، ووضع اقتصادي مزرٍ.

خلاصة القول، ستستمر الأسواق المبتدئة الناشئة في مواجهه تحديات وضغوط اقتصادية خلال عام 2023، سيتعرض بعضها لمزيد من الإصلاحات النقدية التي تشمل خفضًا لأسعار العملة ورفعًا لأسعار الفائدة، بينما يعاني البعض الآخر الأكثر استقرارًا من تأثيرات على مستوى الاقتصاد الحقيقي المتمثلة في التباطؤ الاقتصادي بفعل ارتباطهم بباقي الاقتصادات عالميًا التي من المتوقع أن تشهد عامًا أقل نموًا في 2023، ومن ثم يمكن القول إن عام 2022 كان عام صدمات الأسواق، لكن العام 2023 سيكون صدمات الاقتصادات الحقيقية.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/32252/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M