د. محمد عباس ناجي
عندما أعلن عن فوز رئيس السلطة القضائية السابق إبراهيم رئيسي بانتخابات رئاسة الجمهورية الإيرانية التي أُجريت في 18 يونيو 2021، تزايدت التكهنات بأن الرئيس الجديد سوف يكون أحد أقوى رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على المنصب منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية في عام 1979. ويعود ذلك إلى اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في أن رئيسي حظي من البداية بظهير سياسي قوي وفره له تيار المحافظين الأصوليين الذي كان قد سيطر على السلطة التشريعية ممثلة في مجلس الشورى الإسلامي بعد أن أقصى منه تيار المعتدلين الذي يضم قوى الإصلاحيين والمحافظين المعتدلين. كما أنه أسس علاقات قوية مع دوائر السلطة الرئيسية في النظام، بداية من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، وابنه مجتبي، مرورًا بالحرس الثوري، وانتهاء بالحوزة الدينية في قم ومؤسسة “آستان قدس رضوي” المسئولة عن الإشراف على ضريح الإمام الشيعي الثامن علي الرضا.
لكن قبل مرور عام على توليه مقاليد منصبه، بدا واضحًا أن هذه التكهنات كان مبالغًا فيها، وتواجه إشكاليات لا تبدو هينة. فقد اتسع نطاق الاحتجاجات الداخلية الإيرانية، وتصاعدت حدة الانتقادات التي تتعرض لها السياسة والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي يتبناها الرئيس، وتفاقمت الضغوط التي يمارسها مجلس الشورى على حكومة بشكل بدا واضحًا في إجراء أول تغيير في الحكومة مع تقديم وزير العمل والتعاون والرعاية الاجتماعية حجة الله عبد الملكي، في 14 يونيو الجاري، استقالته، حيث تم تكليف محمد هادي زاهدي وفا بتولي الوزارة إلى حين تعيين شخصية أخرى في المنصب.
وقد تصاعدت حدة الاحتجاجات في مواجهة الحكومة، في 9 مايو الفائت، عقب قرارها بتقنين حصول الإيرانيين على الخبز وبعض السلع الأخرى، على نحو أدى في النهاية إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية. ولم ينجح إعلان الحكومة عن توفير مساعدة مالية مباشرة تناهز 10 أو 13 دولارًا لكل فرد في العائلات ذات الدخل المحدود أو المتوسط في احتواء تلك الاحتجاجات التي سرعان ما انتشرت في المدن الإيرانية المختلفة، توازت معها احتجاجات أخرى للمتقاعدين، نتيجة تدني نسبة الزيادة في المعاشات التي وصلت إلى 10% فقط، والمعلمين بسبب تدني الرواتب، وتجار البازار بسبب ارتفاع الضرائب.
ورغم أن الاحتجاجات التي توسعت في إيران اتسمت من البداية بطابع معيشي، إلا أنها سرعان ما اكتسبت سمة سياسية، بعد أن حرص المحتجون على الربط بين ما تواجهه إيران من أزمة اقتصادية داخلية بدت جلية في تجاوز معدل التضخم حاجز الـ40%، ووصول الدولار إلى نحو 32 ألف تومان، وبين التدخلات الإيرانية في الخارج، حيث اتهم المحتجون النظام باستنزاف جيوب الإيرانيين في الإنفاق على مغامراته في الخارج. ورغم أن قسمًا من غضب المحتجين وجه إلى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، فإن الرئيس رئيسي نال نصيبه من ذلك أيضًا، على نحو بدا جليًا في الشعارات التي طالبته بـ”الرحيل”.
دلالات رئيسية
هذه الضغوط في مجملها التي يتعرض لها الرئيس رئيسي قبل أن يتم عامه الأول في منصبه، تطرح دلالات رئيسية ثلاثًا ترتبط بتركيبة نظام الجمهورية الإسلامية وموقع الرئيس منها، فضلًا عن التوازنات السياسية التي تجري بين القوى المختلفة.
الدلالة الأولى، أن موقع الرئيس داخل نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية دائمًا ما يتسم بأنه “موقع مأزوم” حتى لو كان شاغل المنصب من المقربين من داوئر النظام أو يحظى بكاريزما سياسية أو دينية. فلا هو رئيس جمهورية بالمعنى الكلاسيكي للمنصب الذي يبدو واضحًا في النظام الرئاسي كالنظام الأمريكي على سبيل المثال، ولا هو رئيس حكومة على النحو الذي يفرضه النظام البرلماني مثل النظام البريطاني. فهو يقع بين الاثنين، على نحو يضع عليه أعباء ومسئوليات كبيرة وفي الوقت نفسه يخصم منه صلاحيات لصالح مسئولين آخرين، ولا سيما المرشد الأعلى للجمهورية.
ومن هنا، دائمًا ما يتعرض رؤساء الجمهورية في إيران لأزمات متتالية، حتى ينتهي بهم المطاف بالخروج من المنصب في نهاية ولاياتهم. ويبدو هاشمي رفسنجاني (توفي 8 يناير 2017) أحد النماذج الدالة على ذلك. فرغم النفوذ الذي كان يمتلكه نتيجة قربه من قائد الثورة ومؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني وتأثيره في آليات صنع القرار في النظام، فضلًا عن نفوذه الاقتصادي على نحو دفع كتابات عديدة إلى وصفه بأنه “ملك الفستق”، فإنه تعرض لانتقادات وضغوط لم تكن هينة أثناء توليه منصبه الرئاسي (1989-1997)، اضطرته في بعض الأحيان إلى إجراء تغييرات في تركيبة الحكومة، بعد أن اضطر إلى قبول استقالة بعض الوزراء على غرار وزير الثقافة والإرشاد آنذاك محمد خاتمي (رئيس الجمهورية فيما بعد) الذي استقال في عام 1992.
وعندما حاول رفسنجاني العودة إلى منصب الرئيس مرة أخرى في الانتخابات الرئاسة التي أجريت عام 2005، تعرض لهزيمة نكراء أمام الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي كان حينها من الشخصيات المغمورة. ولم يوفق عندما حاول مرة أخرى المنافسة على المنصب، في عام 2013، عندما منعه مجلس صيانة الدستور من الترشح بحجة “تقدمه في السن”.
الدلالة الثانية، أن التيارات الرئيسية في إيران تمثل إطارًا واسعًا وفضفاضًا يضم في كثير من الأحيان قوى سياسية تتباين فيما بينها حول العديد من القضايا الرئيسية الداخلية والخارجية. إذ يجمعها في البداية هدف الوصول إلى منصب أو السيطرة على مؤسسة، لكن سرعان ما تتصاعد حدة التنافس فيما بينها، لدرجة تصل إلى مستوى الصراع.
ويبدو ذلك جليًا في الصراع السياسي داخل تيار المحافظين الأصوليين في الفترة الحالية. فقد حاولت جبهة الثبات “جبهه پایداری” -أكبر تكتل أصولي في البرلمان- الإطاحة برئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف من منصبه وعدم التجديد له، في انتخابات هيئة رئاسة المجلس التي أجريت في 26 مايو الفائت، بعد أن تم تسريب فيديو يوضح مظاهر البذخ التي بدت عليها عائلته (زوجته وابنته وصهره) أثناء رحلة إلى إسطنبول لشراء لوازم حفيده، في أبريل الماضي، على نحو وصفته تقارير إيرانية عديدة بـ”سیسمونی گیت”، لكنها لم تنجح في ذلك. وأشارت تقارير إيرانية عديدة إلى أن الرئيس رئيسي نفسه لم يكن بعيدًا عن تلك المحاولات في ظل الخلافات العالقة بين الطرفين. وبالطبع، فإن ضغوط المحافظين هى التي أطاحت بوزير العمل والتعاون والرعاية الاجتماعية حجة الله عبد الملكي من منصبه، حيث طالب بعض النواب باستجوابه متهمين إياه بعدم الكفاءة.
الدلالة الثالثة، أن القيادة العليا في إيران تحرص دائمًا على أن يكون هناك توازن بين القوى السياسية المختلفة. فعندما أُبعِدت قوى المعتدلين من دوائر السلطة، ولا سيما مجلس الشورى ورئاسة الجمهورية، وسيطرت قوى المحافظين الأصوليين عليها، انقسمت الأخيرة -بدعم من النظام- إلى أجنحة سياسية متنافسة، على نحو يمنع أي فصيل منها من الهيمنة على دوائر صنع القرار أو توسيع نطاق نفوذه بشكل يفوق الحدود التي ترسمها القيادة العليا. ومن هنا، ربما يمكن تفسير أسباب التجديد لقاليباف في منصبه كرئيس لمجلس الشورى رغم الأزمة التي واجهها. فقد كان الهدف الأساسي هو مزاحمة رئيسي واستمرار الضغط عليه، باعتبار أن الإطاحة بقاليباف كان من الممكن أن تسفر عن وصول رئيس جديد للبرلمان يتوافق إلى حد كبير مع سياسات الرئيس.
في النهاية، يمكن القول إن ما واجهته حكومة رئيسي في أول عام بعد فوزه بمنصبه، يوحي بأنها سوف تتعرض لمزيد من الضغوط والانتقادات على مدى الفترة المتبقية من ولايته الرئاسية الأولى. وإذا كانت اتجاهات عديدة تشير إلى أن الوصول إلى صفقة نووية في مفاوضات فيينا، التي توقفت منذ 11 مارس الماضي، يمكن أن تكون بمثابة “منقذ” للحكومة من أزماتها المتتالية، خاصة أنها سيرافقها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران وانضمامها مرة أخرى إلى منظومة التعاملات المصرفية الدولية، وحصولها على قسم من أموالها المجمدة في الخارج؛ فإن ذلك قد لا يوفر ضمانة لـ”تحصين” الحكومة في مواجهة خصومها، خاصة أن الصراع يمثل السمة الرئيسية للتفاعلات التي تجري بين القوى والمؤسسات المختلفة وفق نظرية “التوازن” التي يتبناها نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
.
رابط المصدر: