عدوى الأزمات: حسابات ومواقف تشاد من الأزمة السودانية

نسرين الصباحى

 

تعتبر تشاد دولة جوار مضطرب للسودان من ناحية الغرب، حيث تشهد عدم استقرار سياسي منذ وفاة الرئيس السابق “إدريس ديبي إتنو” في عام 2021، وكان جيش “ديبي” القوة القتالية الأكثر فاعلية في المنطقة في محاربة الجماعات الإرهابية نظرًا لقدراتها الاستخباراتية والأمنية، وباعتبارها ركيزة استقرار في منطقة هشة وقوس أزمات ممتدة. تم الاتفاق على جدول زمني للفترة الانتقالية مدتها 18 شهرًا، وإجراء الانتخابات في أكتوبر 2024. ضمن هذا السياق، كلما طال أمد الصراع في السودان، زادت احتمالية امتداده عبر الحدود التشادية التي يسهل اختراقها، وزعزعة استقرارها والتأثير على منطقة الساحل الأفريقي بأكملها، في ظل التاريخ والتراث المشترك والحدود المتشابكة بين البلدين.

حسابات مُعقدة وارتدادات مُتشابكة 

انطلاقًا من سوابق الصراعات المسلحة المستعصية على الحل في القارة الأفريقية وامتدادها إلى دول الجوار. تبرز الأزمة السودانية وتداعياتها وشظايا الصراع على جُملة من الانعكاسات السلبية على دولة تشاد، تتمثل في تفاقم الأزمات الإنسانية والأمنية، وتأليب البعد القبلي، وتعطيل حركة التجارة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية. سيتم تفصيل ذلك على النحو التالي:

أولًا- تأثير مُضاعف للأزمات الإنسانية وتصاعد تدفقات اللاجئين:

يُهدد التدفق السريع لآلاف اللاجئين السودانيين الجدد بقلب هذا الوضع الهش في تشاد، مما يعرض حياة أعداد كبيرة من النازحين للخطر، في ظل تحديات استضافة اللاجئين الوافدين، فالحكومات المحلية لا تستطيع دعمهم ماليًا، حيث يوجد أربعة في المائة فقط من السكان يحصلون على الكهرباء، والخدمات الأساسية مثل مياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي نادر في البلاد. وعواقب الهجرة الجماعية المُختلطة من منطقة غرب دارفور التي اتخذت نمطًا من النزوح الدوري على مدى 20 عامًا منذ بدء الصراع في الإقليم، ودينامياتها جنبًا إلى جنب مع حالة الطوارئ الإنسانية.

في هذا السياق، يستضيف شرق تشاد أكثر من مليون شخصًا أجبروا على ترك منازلهم، بما في ذلك ما يقرب من 400 ألف لاجئ سوداني، وقدرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين أن ما بين 10 إلى 20 ألف شخص فروا من الصراع عبروا الحدود الغربية للسودان إلى تشاد، وتقدر الأمم المتحدة أن أكثر من 250 ألف شخص يمكنهم العبور إلى تشاد من السودان خلال الأشهر المقبلة مع استمرار الصراع، ومخاوف تداعيات الصراع إلى زيادة الضغط على مواردها المحدودة، والدعم المحدود للاجئين، واحتمال حدوث نقص كبير في تمويل المساعدات؛ إذ حذر برنامج الغذاء العالمي من أن إمدادات الغذاء للاجئين في تشاد ستنخفض إلى النصف اعتبارًا من بداية شهر مايو الجاري بسبب نقص الدعم المالي، وقد يواجهان صعوبة في التأقلم مع الظروف إذا عبروا إلى تشاد، وسيكون هناك تدهور الوضع الإنساني في تشاد للاجئين إذا لم يحشد المجتمع الدولي ما يكفي من المساعدات في الوقت المحدد، ولا تزال احتمالات العودة الآمنة وإعادة الاندماج في السودان قاتمة للغاية، وبدلًا من ذلك تتزايد أعداد اللاجئين.

يأتي تدفق اللاجئين قبل أسابيع من بداية موسم الجفاف، ومن المتوقع أن يُترك ما يقدر بنحو 1.9 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد. تهدد الأمطار التي تهطل في الوقت نفسه تقريبًا بتحويل مساحات من الصحراء إلى أنهار، مما يعرض للخطر تسليم المساعدات الغذائية الرئيسية للاجئين وغيرهم من الفئات الضعيفة. كما يسلط النزوح الجماعي إلى تشاد الضوء على المشكلات المتزايدة في دول منطقة الساحل المضطربة من مالي وبوركينافاسو إلى السودان، بما في ذلك عدوى الانقلابات العسكرية، وتنامي الجماعات الإرهابية، وعدم فعالية عمليات حفظ السلام الغربية والأمم المتحدة، فضلًا عن نشاط القوى الجديدة مثل روسيا، إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار.

ثانيًا- تداعيات التداخل السكاني بين تشاد والسودان:

تشترك تشاد في حدود طويلة تبلغ 1300 كيلومتر مع السودان؛ إذ عانت المناطق الشرقية من تشاد على الحدود مع دارفور في غرب السودان من تداعيات القتال والحرب الأهلية في تلك المنطقة عام 2003. كما تسببت مليشيات الجنجويد في مقتل عدة مئات في مقاطعات وادي فيرا وواداي وسيلا. كما توجد مجموعة من المجتمعات التي لم تُوقف الحدود الإدارية حركتها، وتشمل مختلف القبائل العربية والزغاوة والتاما والمساليت، تم حشدهم في السابق من قبل حركات مسلحة وقامت الجنجويد بتعبئة الجاليات العربية بشكل أساسي، وكانت الحركات المسلحة المتمردة في دارفور مثل حركة العدل والمساواة بقيادة “خليل إبراهيم” من قبيلة الزغاوة. وتحولت الصراعات في دارفور على مدى العقدين الماضيين إلى حرب إقليمية. وهذا يجعل مأزق السودان الحالي مقلقًا بالنسبة لتشاد.

إلحاقًا بالسابق، لدى قائد مليشيا الدعم السريع “محمد حمدان دقلو” الشهير بحميدتي، جذور في تشاد وحتى أفراد من العائلة في المجلس العسكري التشادي الانتقالي. وحميدتي حريص على تقوية قاعدة سلطته ليس فقط في السودان، لكنه يريد أيضًا بناء مجال نفوذ أوسع عبر منطقة الساحل الأفريقي، حيث تضم الدعم السريع العديد من المقاتلين العرب التشاديين، ومتمردين تشاديين سابقين مناهضين للحكومة التشادية. كان “بشارة عيسى جاد الله”، أحد أفراد عائلة “حميدتي”، وزيرًا للدفاع التشادي خلال أزمة دارفور، وهو الآن عضو مؤثر في المجلس العسكري التشادي الانتقالي.

قد يترتب على تصعيد العنف في دارفور انعدام الأمن على نطاق أوسع بالنظر إلى البعد القبلي، يظهر ذلك جليًا في استضافة دارفور العديد من الجماعات المتمردة النشطة والسابقة والمليشيات القبلية، والتي سيتم جرها بشكل متزايد إلى القتال الدائر بين طرفي الصراع. ينحدر “حميدتي” والدعم السريع من قبيلة الرزيقات العربية جزء من عرب البقارة الرحل الموجودة أيضًا في أجزاء من تشاد وليبيا، وستعزز الدعم السريع روابطها العرقية والسياسية في تشاد لتجنيد المليشيات المسلحة لتعزيز صفوفها، وإحداث توترات قبلية. لذا، في الأيام الأولى للاشتباكات المسلحة أصدر مجلس القبائل العربية في تشاد بيانًا ينتقد فيه الدعم السريع لتجنيدها مقاتلين تشاديين شباب من القبائل. كما تنتمي الأسرة الحاكمة في تشاد إلى جماعة الزغاوة، بينما ينتمي العديد من كبار أعضاء المجلس الانتقال إلى الجماعات العربية.

في سياق آخر، أعلنت جبهة التغيير والوفاق في تشاد، الجماعة المتمردة المسئولة عن مقتل الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو في أبريل 2021، عدم دعمها لأي طرف في الصراع في السودان، ونفت أية صلة بالدعم السريع، لكن قد تسعى قوات المعارضة المسلحة إلى شكل من أشكال التحالفات مع الدعم السريع.

ثالثًا- تفاقم الأزمات الأمنية:

تشعر السلطات التشادية بالقلق من أن الاشتباكات الجارية في السودان قد تفاقم الوضع الأمني​ داخل أراضيها والتهديدات التي تتعرض لها حدودها الشرقية، حيث قال وزير الدفاع التشادي “داود يايا إبراهيم”، إنه قلق بشأن تدفق اللاجئين، و”لدينا أكثر من 400 ألف لاجئ سوداني ظلوا معنا منذ عام 2003، وتشاد ستعاني من الناحية الأمنية”، حيث يخلق الوضع الأمني ​​المتدهور في السودان مخاطر غير مباشرة على تشاد بسبب حركة عدد كبير من اللاجئين، وانخفاض الوجود الأمني ​​في المناطق الحدودية، وتدهور الأوضاع الإنسانية. ومخاوف انتشار الأسلحة عبر الحدود التي تعبر الحدود المليئة بالثغرات الأمنية، وتعمل الجماعات الإرهابية في هذه المناطق، وستؤدي الأسلحة الجديدة إلى تدهور الوضع الأمني ​​في منطقة الساحل ككل، حيث يتم شحن الأسلحة بانتظام على طول طرق التهريب القائمة على الحدود، ومن المرجح أن يستمر تدفق الأفراد المسلحين والأسلحة مع تصاعد الصرع في السودان، وسيصبح الأشخاص المتنقلون أكثر اعتمادًا على المهربين، من أجل المرور الآمن عبر مناطق الصراع وحولها، مما يؤدي إلى زيادة رسوم التهريب وربما ترتيبات أكثر استغلالية مع المهربين في إطار تنامي ديناميات عمليات التهريب والإتجار بالبشر، واتساع تجارة الأسلحة غير المشروعة بسبب إنشاء ممرات تهريب جديدة.

في يناير 2023، اتفق زعماء المرحلة الانتقالية في السودان وتشاد على تعزيز الدوريات المشتركة للجيشين على طول الحدود بعد تفاقم انعدام الأمن والهجمات الإرهابية في منطقة المثلث الحدودي مع جمهورية أفريقيا الوسطى ومنطقة غرب دارفور، زادت ميلشيا الدعم السريع من أنشطتها على طول هذه المنطقة الحدودية وتهميش القوة الحدودية المشتركة التي أنشأتها تشاد والسودان عام 2010. كما وقعت حكومتا جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومليشيا الدعم السريع، اتفاقية تعاون لمحاربة مجموعات متمردة مختلفة بشكل مشترك في المناطق الحدودية بدعم من قوات فاجنر الروسية، وتعد مناجم الذهب الكبيرة في المنطقة الحدودية مركزًا لتهريب الأسلحة والمخدرات التي تديرها الجماعات المتمردة جزئيًا، وأحد المصادر الرئيسية للإيرادات غير المشروعة للدعم السريع، ولم تكن القوات المسلحة الوطنية موجودة منذ فترة طويلة إلا بشكل ضئيل في هذه المناطق.

بالإضافة إلى ذلك، تعقد الوضع في تشاد بسبب تسريب معلومات استخباراتية أمريكية تُشير إلى أن قوات فاجنر الروسية يعملون مع المتمردين المناهضين للنظام في جمهورية أفريقيا الوسطى للإطاحة بديبي وعلاقتهم بحميدتي، وأعرب وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين” عن قلقه العميق بشأن تواجد فاجنر في السودان، وأفادت تقارير بأن قوات فاجنر شاركت في فبراير ٢٠٢٣ في إطار تجنيد المتمردين التشاديين وإنشاء موقع تدريب لـ 300 مقاتل في أفريقيا الوسطى، وتسعى فاجنر إلى تشكّيل اتحاد كونفدرالي من الدول الموالية لروسيا والمناهضة للغرب تمتد عبر القارة الأفريقية.

رابعًا- الخسائر الاقتصادية من توقف حركة التجارة العابرة للحدود:

أدى إغلاق الحدود إلى جفاف الصادرات الغذائية الرئيسية من السودان إلى دول الجوار، وارتفاع أسعار المواد الغذائية المحلية. وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، بالقرب من حدود تشاد مع السودان ارتفع سعر كيلو الذرة الرفيعة بنسبة 50 في المائة في خلال أسبوع واحد، ولا يقتصر التأثير فقط على الحدود، ولكن سيؤثر على شرق تشاد بشكل عام، والتأثير الاقتصادي، في ظل اعتماد تشاد بشكل أساسي على الكاميرون في صادراتها ووارداتها، إلا أن المقاطعات الشرقية التشادية تتأثر بالتجارة مع السودان وبالتالي يمكن أن تتأثر. فضلًا عن التداعيات السلبية على استفادتها من ميناء بورتسودان، وهو ما قد يُشكّل أزمة اقتصادية لها باعتبارها دولة حبيسة في منطقة الساحل.

الحياد الحذر

يحاول المجلس العسكري في انجامينا الحفاظ على توازن واضح بدعوة طرفي الصراع إلى الحوار وفتح إمكانية إجراء محادثات بين الأطراف في انجامينا؛ إذ لم تتخذ السلطات التشادية جانبًا رسميًا حتى الآن في الاشتباك بين الطرفين، فإن الحكومة الانتقالية لم تتخذ موقفًا بعد لضبابية المشهد الراهن، لكن بالنسبة لها، استيلاء قوة غير نظامية على السلطة مثل الدعم السريع التي ينشط في صفوفها العديد من الجماعات العربية على الحدود التشادية السودانية، وبعض المتمردين التشاديين السابقين، سيشكلون تهديدًا وجوديًا للنخبة الحاكمة في البلاد، ويعزز الطموحات داخل العشائر الأخرى- ولا سيما قبيلة الرزيقات التي ينتمي إليها “حميدتي” نفسه-للمجتمع العربي التشادي الكبير على حساب عشيرة الزغاوة، الذين سيطروا على مقاليد السلطة لأكثر من ثلاثين عامًا في تشاد.

ارتباطًا بالسابق، التخوف من تراجع “حميدتي” إلى معاقله في دارفور إذا خسر معركة الخرطوم، ومع وجود علاقات وثيقة مع مجموعة فاجنر، فإن “حميدتي” ورجاله سيكونون في الواقع قادرين على خلق بؤرة لزعزعة الاستقرار بدعم من جمهورية أفريقيا الوسطى، وهي دولة تقع بالفعل في المدار الروسي. علاوة على ذلك، داخل القوة التشادية، فإن وجود قوات فاجنر في ثلاث دول مجاورة (السودان وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى) يُشكّل بالتالي مصدر قلق كبير للنخبة الحاكمة في أنجامينا.

على هذا، تم اتخاذ العديد من الإجراءات والترتيبات لتأمين الحدود ولاحتواء التداعيات المُحتملة، من خلال إرسال قوات إضافية لتأمين الحدود مع السودان وأغلقتها في بداية الاشتباكات، وأعلنت أن حوالي 320 جنديًا سودانيًا منشقًا، كانوا يخشون أن تقتلهم الدعم السريع، عبروا الحدود واستسلموا للسلطات التشادية في 17 أبريل ٢٠٢٣. ويأتي إغلاق الحدود مع السودان وسحب القوات التشادية من الآلية العسكرية المشتركة بين السودان وتشاد المعنية بمراقبة الحدود ومُعالجة الاختلالات الأمنية من أجل قطع الطريق أمام أي إمدادات للدعم السريع من حواضنه الاجتماعية الإقليمية.

ضمن هذا الإطار، شدّد وزير الدفاع اللواء داود إبراهيم على أن “الصراع لا يعني تشاد، والأمر بين السودانيين ويجب أن نظل يقظين ضد كل الاحتمالات”. كما استقبل قائد المجلس العسكري “محمد ديبي” البرهان ثم حميدتي يومًا بعد الآخر في انجامينا في شهر يناير ٢٠٢٣بهدف إظهار الحياد. علاوة على ذلك، تقوم تشاد بالتنسيق المشترك مع مصر بشأن التطورات الجارية في السودان، ودعم جهود وقف القتال، وتحقيق وقف إطلاق نار مستدام وشامل يسمح بإيصال المساعدات الإنسانية، ويمهد الطريق لحوار بناء لحل الخلافات بين الأطراف السودانية.

حاصل ما تقدم، يتضح أن عدم حسم المنافسة القبلية طويلة الأمد للوصول إلى الموارد، يخلق ارتدادات مستقبلية للأزمات وخطر التداعيات المحتملة للأزمة السودانية على دول الجوار وتحديدًا تشاد، بما في ذلك تدفقات الأسلحة عبر الحدود المفتوحة، وتصاعد ظاهرة المقاتلين الأجانب، وتفاقم أزمة اللاجئين على الحدود. وبالتالي، يتفاقم الوضع الأمني وظاهرة النزوح الجماعي ​​في منطقة الساحل ككل، وحوض تشاد بالنظر إلى قرب السودان من تشاد، مما يوفر وسيلة محتملة لتجنيد مزيد من الفئات السكانية الضعيفة من قبل الجماعات الإرهابية بما في ذلك بوكو حرام والجماعات المنشقة عن تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا. لذا، تتعامل تشاد مع خطر مباشر ومزيج من تداعيات الصراع المستمر في ظل القبائل المتداخلة وتعقد العلاقات بين البلدين.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34216/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M