انخراط محسوب: واشنطن والتطورات العنيفة في السودان

مها علام

 

“إن العنف الذي يحدث في السودان يمثل مأساة وخيانة لمطلب الشعب السوداني الواضح بحكومة مدنية والانتقال إلى الديمقراطية”، جاءت هذه الكلمات في البيان الصادر عن الرئيس الأمريكي “جون بايدن”، في 4 مايو الجاري، تعليقًا على التصعيد المتنامي في السودان. إذ تشهد الساحة السودانية فصلًا جديدًا من فصول العنف المتكررة في تاريخها، يحمل مؤشرات على الدخول في النفق المظلم للحرب الأهلية، بعد انحسار حالة الموائمات بين الجيش السوداني تحت قيادة الجنرال عبد الفتاح، وقوات الدعم السريع التي تتبع محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، وهو ما استتبعه اندلاع الاقتتال بين الجانبين. مما دفع الرئيس “بايدن” إلى التأكيد على أن الولايات المتحدة “تقف إلى جانب شعب السودان”، وتعمل كذلك على دعم التزام السودان “بمستقبل يسوده السلام والفرص”. الأمر الذي يثير التساؤل بشأن أدوات استجابة واشنطن للتعاطي مع العنف المتصاعد في السودان، وكذا الدوافع المحركة له.

استجابة متعددة المسارات:

دخلت السودان مرحلة جديدة من مراحل عدم الاستقرار على خلفية الانزلاق في موجة جديدة من الاقتتال في بلد تعج بالمليشيات وحركات التمرد. مع منتصف شهر أبريل الماضي، اندلع العنف المسلح بين الجيش السوداني تحت قيادة الجنرال عبد الفتاح، وقوات الدعم السريع التي تتبع محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، وذلك بعد شهور من توقيعهما على مسودة اتفاق مدعومة دوليًا في ديسمبر 2022، بهدف وضع خريطة طريق لقيادة مدنية، لكن المحادثات حول تنفيذ تفاصيله فشلت. هذا، وقد أدت الاشتباكات العنيفة الجارية في السودان إلى شلل حياة المواطنين، وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى، ونزوح مئات الآلاف من المواطنين.  وهو الأمر الذي دفع واشنطن إلى استجابة متعددة المسارات لكي تتناسب مع التعقد والتشابك اللذان باتا يغلفان المشهد السوداني.

إجلاء الأمريكيين:

مع إندلاع موجة العنف الجارية في السودان ظهرت مسألة إجلاء الرعايا الأمريكيين كهدف رئيس للإدارة الأمريكية، تجنبًا لتكرار إخفاقات سابقة في بعض المناطق المشتعلة لما لها من انعكاس على شعبية الإدارة الديمقراطية، ولما لها من تأثيرات محتملة على فرص فوز الديمقراطيين خلال السباق الرئاسي لعام 2024. مع دخول المواجهات المسلحة أسبوعها الثاني في 22 أبريل الماضي، قامت الولايات المتحدة بعملية إخلاء لدبلوماسييها في سفارتها بالخرطوم، وذلك بعد أن قامت بنقل قوات أمريكية إلى قاعدة “ليمونييه” في جيبوتي. وفي هذا الإطار، فقد قامت الحكومة الأمريكية بالعمل على تسهيل مغادرة الدبلوماسيين الأمريكيين بمساعدة عسكرية ومغادرة مئات المواطنين الأمريكيين الآخرين عبر قوافل برية وبحرية ورحلات جوية على متن طائرات شريكة. فيما اعتبرت “سي إن إن” أن جهود الإجلاء الواسعة قد جاءت وسط غضب متصاعد من الأمريكيين في السودان لأنهم شعروا بأن الحكومة الأمريكية تخلت عنهم وتركتهم بمفردهم في ظل وضع معقد وخطير.

التحركات الدبلوماسية:

يمكن القول بشكل عام إن إدارة الرئيس “بايدن” قد سعت إلى المشاركة في الجهود الرامية إلى انتقال السودان للحكم المدني؛ وقد قامت بتعيين “جون جودفري” سفيرًا في الخرطوم لأول مرة منذ ربع قرن. علاوة على ذلك، عملت واشنطن من خلال عضويتها في اللجنة الرباعية التي تضم (المملكة المتحدة والسعودية والإمارات)، على تشجيع الأطراف السودانية على قبول الاتفاق الإطاري التي تم التوصل إليه ديسمبر 2022. وفي أعقاب اندلاع أعمال العنف المسلح، قامت واشنطن بعدد من التحركات الدبلوماسية لإحتواء المشهد، فقد كشف المتحدث باسم الخارجية الأمريكية “صامويل وربيرج” عن تواصل واشنطن مع دول الجوار والدول الخليجية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة وغيرها بشأن التطورات على الساحة السودانية. وهو ما ارتبط بقيام وزير الخارجية “أنتوني بلينكين” بإجراء اتصالات مع كل من البرهان و”حميدتي” للتأكيد على الحاجة الملحة للتوصل لوقف إطلاق النار، وكذا الإتصال بنظيريه السعودي والإماراتي من أجل استعادة الأمن والاستقرار في السودان. كما ناقش “كيفين مكارثي”، رئيس مجلس النواب، أثناء زيارته للقاهرة، مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، الأوضاع على الساحة الإقليمية بما فيها التطورات الأخيرة فى السودان. هذا، وقد قامت واشنطن بالتعاون مع الرياض بتقديم مبادرة تهدف إلى إنهاء الصراع، وفتح الباب أمام إجراء مباحثات في جدة بين البرهان و”حميدتي”.

المساعدات الإنسانية:

تعد الولايات المتحدة ضمن أكبر مقدمي المساعدات الإنسانية إلى السودان، وهو مدخل يمكن الاعتداد به في التعامل مع التطورات الجارية، ومنع انزلاق البلاد نحو مزيد من العنف. بعد أسبوع من اندلاع موجة العنف الجارية، قالت “سامانثا باور”، مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، إن الوكالة نشرت فريقًا من خبراء التعامل مع الكوارث من أجل تنسيق المساعدات الإنسانية للسودان في ظل استمرار القتال هناك. وأوضحت كذلك أن الفريق سيعمل من كينيا في المرحلة الأولى، وسيقوم بالتعاون مع المجتمع الدولي والشركاء لتحديد الاحتياجات ذات الأولوية وتقديم المساعدات الإنسانية بأمان.  واتصالاً بذلك، فقد أكد الرئيس “بايدن” في بيان 4 مايو أن الولايات المتحدة تستجيب بالفعل “للأزمة الإنسانية التي تتكشف”، مضيفًا أن واشنطن على استعداد “لدعم المساعدة الإنسانية المعززة عندما تسمح الظروف بذلك”. كما أكد “بلينكين” في تصريح له في 9 مايو الجاري أن واشنطن تعمل في محادثات جدة على تمديد وقف إطلاق النار في السودان، وكذا التوصل لاتفاق بشأن المساعدات الإنسانية.

التلويح بالعقوبات:

لطالما كانت العقوبات أداة واشنطن البارزة للتعامل الصراعات المختلفة، واتساقًا بذلك فقد لفت الرئيس “بايدن”، في بيان 4 مايو، إلى أنه أصدر أمرًا تنفيذيًا جديدًا يوسع سلطات الولايات المتحدة للرد على العنف الذي بدأ في 15 أبريل بــ”فرض عقوبات على الأفراد المسؤولين عن تهديد السلام والأمن والاستقرار في السودان، ويقوضون التحول الديمقراطي في السودان، ويستخدموا العنف ضد المدنيين أو يرتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”. مشيرًا إلى توسيع نطاق حالة الطوارئ الوطنية المعلنة في الأمر التنفيذي 13067 الصادر في 3 نوفمبر 1997 (القاضي بحظر ممتلكات الحكومة السودانية وحظر المعاملات مع السودان)، والموسع في الأمر التنفيذي رقم 13400 الصادر في 26 أبريل 2006 (القاض بحظر ممتلكات الأشخاص المرتبطين بالنزاع في منطقة دارفور بالسودان)، بناءً على المستجدات في السودان، بما في ذلك استيلاء الجيش على السلطة في أكتوبر 2021 واندلاع القتال بين الفئات العسكرية المتناحرة في أبريل عام 2023، حسبما أفاد البيان.

تجنب الانخراط الميداني:

تزامنًا مع تحركات واشنطن السياسية والدبلوماسية المكثفة للتعامل مع العنف الجاري على الساحة السودانية، أعلن “جيك سوليفان”، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في مؤتمر صحفي عقده بالبيت الأبيض، أنه لا خطط للولايات المتحدة لنشر قوات حفظ السلام في السودان. كما أوضح “صامويل وربيرج” في تصريحات خاصة لموقع “سكاي نيوز عربية”، موقف واشنطن من التطورات المتصاعدة وجهودها لإجلاء رعاياها من الخرطوم؛ مستبعدًا وجود نية لدى واشنطن  لإرسال أي قوات إلى السودان. لافتًا إلى أن واشنطن ترى أن الحل يجب أن يأتي من الأطراف السودانية نفسها بالاستناد إلى أن التدخل الخارجي لن يكون في مصلحة السودان والشعب السوداني. لذا، فقد شدد على أن الولايات المتحدة لن ترسل أي قوات إلى السودان. وهو الأمر الذي يعني أن واشنطن تدرك ضرورة تجنب أخطاء الماضي (مثل: عملية الصقر الأسود) عبر استبعاد مسألة الإنخراط العسكري الميداني في النزاعات والصراعات.

مصالح أمريكية متشابكة:

اعتبر الرئيس “بايدن” في بيانه الخاص بفرض عقوبات على الأطراف السودانية أن “المستجدات في السودان، بما في استيلاء الجيش على السلطة في أكتوبر 2021، واندلاع القتال بين الفئات العسكرية المتناحرة في أبريل 2023، تشكل تهديدًا غير عادي وغير طبيعي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة”.  الأمر الذي يعني أن الاستجابة متعددة المسارات نابعة من مجموعة من المحفزات المرتبطة بمصالح واشنطن، والتي يمكن النظر إليها في ضوء التزايد النسبي في اهتمام الإدارة الأمريكية الحالية بأفريقيا. وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

الأهمية الاستراتيجية للسودان: 

تتمتع السودان بموقع استراتيجي يطل على البحر الأحمر، ويمتلك منفذًا بحريًا استراتيجيًا هو ميناء بورتسودان، وتجاوره سبع دول هي مصر وليبيا شمالاً، وفي الجنوب الشرقي إريتريا وإثيوبيا، ودولة جنوب السودان جنوبًا، وفى الغرب والجنوب الغربي دولتي تشاد وإفريقيا الوسطى. وبحكم واقع القرب الجغرافي والتأثير الجيوسياسي، تتصل السودان بعدد من الساحات المهمة، كالشرق الأوسط والخليج العربي والمحيط الهندي.كما يعد السودان من الدول الغنية بالثروات الزراعية والموارد التعدينية؛ إذ يتمتع بوفرة ملحوظة في الموارد والثروات الطبيعية، ومن أبرزها اليورانيوم والذهب والكوبالت والنفط وغيرها. كما يمتلك السودان مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم العربي، ويمتلك كذلك ثروة حيوانية ضخمة. لذا، يبدو من الصعب استبعاد الأهمية الاستراتيجية للسودان عند تحليل تحركات واشنطن تجاه الأزمة الحالية. وذلك في ضوء رغبة واشنطن في تحقيق أقصى استفادة مع العمل على ثنى خصومها عن ذلك.

تجنب المزيد من الاشتعال:

تعكس التطورات العنيفة في السودان قلقًا متزايدًا من تأثير كرة الثلج في محيط يعج بالكثير من الأزمات والمشكلات والنزاعات، سيما في منطقة القرن الأفريقي (إثيوبيا وإريتريا والصومال). فضلاً عن أن الدول المحيطة بالسودان بما في ذلك جنوب السودان وتشاد وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى يعانون بالفعل من اضطرابات داخل حدودهم، وقد تتزايد هذه التحديات بعد تفاقم الأوضاع على الساحة السودانية.  وهو الأمر الذي دفع بعض المحللين، ومنهم “آلان بوسويل” من مجموعة الأزمات الدولية إلى القول بإن “ما يحدث في السودان لن يبقى في السودان”؛ لذا، فإن تشاد وجنوب السودان معرضتان بشكل آني لخطر التداعيات المحتملة للقتال الجاري. وفي هذا السياق، فقد علق “حزقيال لوال جاتكوث”، وزير النفط السابق بجنوب السودان، قائلاً إن “عدم الاستقرار في السودان يعني عدم استقرار المنطقة، وقد يكون جنوب السودان، الذي انفصل عن السودان بعد عقود من الحرب الأهلية، أول المتضررين”. ومن ناحية أخرى، فمن المتوقع أن الصراع في السودان سيؤخر  المفاوضات الثلاثية الجارية حول السد الإثيوبي. ومن ثم، فإن انعكاس العنف الجاري في السودان على دوائره المحيطة الهشة بالفعل يعني دخول القارة الأفريقية في حالة من عدم الاستقرار الذي لن تتوقف آثاره عند حدود القارة، وإنما قد تطال الساحة العالمية. ويمثل هذا دافعًا ومحفزًا لواشنطن لبذل مزيد من الجهود وتحقيق قدرًا من الانخراط من أجل تجنب هذا المصير.

تحجيم تمدد الخصوم:

تمثل مسألة تحجيم  دور الخصوم هدفًا متكررًا لواشنطن في تعاملها مع أكثر من مشهد، ومنها التطورات على الساحة السودانية، بالاستناد إلى إدراك واشنطن بأن أي فراغ أمريكي سيقابله صعود مماثل لدور خصومها (روسيا والصين). ومن ثم، يمكن النظر إلى الاستجابة الأمريكية متعددة المسارات في ضوء رغبتها في تأطير دور أمريكي واضح يغطي على التحركات المتوقعة لخصومها. واتصالاً بذلك، تخشى الولايات المتحدة من احتمال تدشين قاعدة روسية على البحر الأحمر، تم التخطيط لإنشائها منذ عام 2019، ولا تواجه ممانعة من أي من الطرفين المتناحرين في السودان. ناهيك عن قلق واشنطن من اتساع حجم التعاون بين شركة “فاجنز” الروسية وقوات الدعم السريع التي تسيطر على الجزء الأكبر من مناجم الذهب السودانية. وعلى الجانب الآخر، تربط السودان والصين علاقات اقتصادية عميقة في مجالات متنوعة (بما فيها الزراعة والطاقة والتعدين)، وتعتبر بكين ضمن أكبر الشركاء التجاريين للخرطوم ولديها استثمارات كبيرة في البلاد؛ هذا وتعد السودان جزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية. ومن ثم، يبدو أن سعي واشنطن لتكون طرف في المسار السياسي للأزمة نابع من رغبتها في قطع الطريق على خصومها أمام تمهيد مسار سياسي آخر، وكذا فإن حرصها على التركيز  التلاعب بأداتي العقوبات والمساعدات يمثل ضغطًا على الاستغلال أو التقارب الاقتصادي الذي يسعى الخصوم لتعزيزه.

الاستمرار في مكافحة الإرهاب: 

لطالما كان البعد الأمني مسيطر على رؤية واشنطن تجاه أفريقيا، إذ مثلت مواجهة الإرهاب الآخذ في التمدد والاتساع في أفريقيا هدفًا رئيسًا لواشنطن في تعاملها مع القارة السمراء، وذلك في ضوء هدفها العالمي المتعلق بالحرب على الإرهاب. تعتبر بعض التحليلات أن استمرار الأزمة السودانية على النحو الحالي ربما يرسخ حواضن للتنظيمات الإرهابية توفر لها فرصة مواتية لإعادة تموضعها من خلال اتصال شبكاتها في السودان وعلى امتداد جوارها الجغرافي ومحيطها الإقليمي. ومع إعلان تنظيم “داعش” بأن إفريقيا باتت ملاذًا آمنًا بعد هزيمته فى معاقله الرئيسة  بالعراق وسوريا، بجانب تزايد أنشطة تنظيم “القاعدة” بمنطقة القرن الأفريقي، خاصة في الصومال، يتضح أن هشاشة السودان الناجمة عن استمرار العنف الجاري توفر فرصة لهذه التنظيمات لتعزيز قوتها ونفوذها. ناهيك عن إمكانية تحول السودان إلى مرتكز لجماعات العنف والتطرف الموجودة في مناطق الساحل والصحراء والقرن الأفريقي. علاوة على ذلك، فإن الحدود المشتركة للسودان مع مصر وليبيا وتشاد وإثيوبيا يمكن أن تساعد في نقل خطر الإرهاب إلى منطقة الشرق الأوسط وربما إلى داخل أوروبا. وهو الأمر الذي يعني تضرر النفوذ والمصالح الأمريكية ليس في القارة الأفريقية، ولكن ربما أيضًا في منطقة الشرق الأوسط ولدى حلفائها الأوروبيين.

تأمين الملاحة وطرق التجارة:

نظرًا لموقع السودان المطل على البحر الأحمر الذي يحظى بأهمية قصوى بالنسبة لواشنطن، كونه يربط أفريقيا والشرق الأوسط، ويجعل من السودان نقطة إلتقاء لتفاعلات النظامين الإقليمي والدولي، فإنه يمثل محفزًا واضحًا لتدخل واشنطن في الصراع الجاري. تؤكد استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، الصادرة في أكتوبر 2022، التزام الإدارة الأمريكية بمنع القوى الأجنبية أو الإقليمية من تهديد حرية الحركة عبر باب المندب، الممر المائي الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي. وهو ما يمكن النظر إليه أيضًا في ضوء تحذير السفير الأمريكي “جودفري” للسودان من السماح لروسيا ببناء قاعدة بحرية في بورتسودان. ومن ناحية أخرى، قد تساهم هشاشة الأوضاع في السودان في التأثير سلبًا على الملاحة في البحر الأحمر، بل وتحفيز موجات جديدة من القرصنة التي كانت منطقة القرن الأفريقي قد شاهدتها لسنوات. فغالبًا ما تؤثر هجمات القرصنة على مصالح العديد من الدول، بما في ذلك المالكة للبضائع ودول إعادة الشحن ودول المقصد. لذلك،ففي عام 2008، صدقت الحكومة الأمريكية على سياسة لمعالجة تهديدات القرصنة في القرن الأفريقي بشكل فعال من أجل الإدارة السلسة للاقتصاد العالمي والملاحة البحرية.

تعزيز مسار التطبيع الإسرائيلي:

خلال السنوات الأخيرة، تبنت واشنطن نهجًا تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قائمًا على دمج إسرائيل في المنطقة عبر دفع سلسلة متعاقبة من حلقات التطبيع بين دول المنطقة وإسرائيل. وقد جاءت السودان ضمن هذه السلسلة بعدما أعلنت وزارة الخارجية السودانية أن الدولتين اتفقتا على المضي في جهود تطبيع العلاقات بينهما خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي “إيلي كوهين” الذي وصل إلى السودان في فبراير 2023. وقد سبق ذلك قيام كل من البرهان و”حميدتي” بإرسال مبعوثين عسكريين رفيعي المستوى إلى إسرائيل قبل سقوط حكومة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021، بالاستناد إلى الأهداف القائمة على إقامة علاقات استخباراتية وأمنية مشتركة مع إسرائيل. وهو ما ترتب عليه إغلاق مكتب حركة حماس في السودان، والذي تصنفها كل من إسرائيل والولايات المتحدة كمنظمة إرهابية. وهو الأمر الذي اعتبرته بعض التحليلات كوسيلة من قبل النخبة السودانية الحاكمة لحمل إسرائيل للضغط على الولايات المتحدة للاستجابة للمطالب التي تسعى هذه النخبة لتحقيقها. وبالتالي، يصعب النظر إلى موقف واشنطن من التطورات العنيفة الجارية دون النظر إلى رغبتها في استمرار مسار التطبيع في المنطقة.

دعم القيم الأمريكية:

أعلنت إدارة “بايدن” منذ وصولها لسدة الحكم عن أهمية استعادة الدور الأخلاقي لواشنطن، أو استعادة السياسة الأمريكية القائمة على القيم، سيما الديمقراطية وحقوق الإنسان. لذا، تدرك واشنطن جيدًا ضرورة التحرك وفقًا لهذا المبدأ حتى لا يتم الإضرار بصورتها على الساحة الدولية، وذلك في ضوء سعيها المتكرر للتأكيد على استمرار قيادتها العالمية. وارتباطًا بذلك، تضغط قوى داخلية وخارجية على الولايات المتحدة، بما فيها المجتمع المدني السوداني والمنظمات الحقوقية الدولية، لوقف الدعم للنخبة الحالية بالاستناد إلى دورهم في الإضرار باستقرار السودان. فوفقًا لموقع “الحرة”، أطلق سودانيون أمريكيون مبادرة قانونية وإنسانية في الولايات المتحدة من خلال عريضة وقعها ناشطون وحقوقيون تطالب الأمم المتحدة والولايات المتحدة بالتحرك سريعًا للتحقيق في الانتهاكات القائمة بالسودان في الصراع الحالي. وطالب أمريكيون من أصول سودانية وآخرون من الأمم المتحدة تقديم طرفي النزاع العسكريين لمحاكمة دولية وتحميلهما مسؤولية الأوضاع المتردية، والفشل في تأمين الانتقال السلمي للسلطة المدنية. كما دعوا الولايات المتحدة والأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جميع أنحاء العالم إلى تحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه الشعب السوداني الذي يعاني من أوضاع إنسانية معقدة جراء الحرب.

احتواء الأزمة الانسانية:

من المتوقع في ضوء العنف المتنامي في السودان أن يتسع نطاق اللجوء والنزوح في أفريقيا؛ فقبل اندلاع الاشتباكات كانت السودان تستضيف ما يتجاوز 1.1 مليون لاجئ في عام 2022، وفقًا لبيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. وفي أعقاب اندلاع أعمال العنف، أوضحت المفوضية عبر موقعها الإلكتروني أن أعداد كبيرة من المدنيين اضطرت للفرار من القتال “بما في ذلك أشخاص كانوا قد نزحوا داخليًا بسبب نزاعات سابقة في السودان، ولاجئون من دول أخرى ممن التمسوا الأمان في السودان”. مشيرة إلى حالات النزوح الداخلي الجديدة فر فيها أكثر من 100,000 شخص، من اللاجئين السودانيين والعائدين، من السودان إلى البلدان المجاورة – لا سيما تشاد وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومصر وإثيوبيا. هذا، وقد حذر “برنامج الأغذية العالمي” من أن العنف الدائر في السودان يمكن أن يتسبب في أزمة إنسانية في كامل منطقة شرق أفريقيا؛ فيما أعلنت الأمم المتحدة أن الأمين العام قد قرر إرسال منسق الشؤون الإنسانية “مارتن جريفيث” “فورًا” إلى المنطقة على خلفية تدهور الأوضاع في السودان. وعلى هذا النحو، يبدو أن السودان ومحيطها الإقليمي مرشحون بقوة لأزمات إنسانية متشابكة ومركبة ستحمل انعكاسات واضحة على معدلات العنف ومسارات الهجرة غير الشرعية ونطاقات الجريمة المنظمة. ما يستدعي ضرورة قيام واشنطن بدور ملموس لتفادي أو على الأقل احتواء هذه التبعات الخطيرة. وهو ما يمكن استقراؤه في تصريح “بلينكين”، الصادر في 9 مايو الجاري، الذي أوضح فيه أن  واشنطن تعمل في محادثات جدة على تمديد وقف إطلاق النار والتوصل لاتفاق بشأن المساعدات الإنسانية.مجمل القول، إنه بالنظر إلى الدوافع والمحفزات السابق الإشارة إليها يبدو من الصعب الجزم بقيام الولايات المتحدة بالتعاطي البارد مع التطورات العنيفة بالسودان قياسًا على مواقفها تجاه الصراعات والنزاعات الأخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا خلال العقد الآخير. إذ يظل المحدد الرئيس لتعاطي واشنطن مع تطورات الساحة السودانية مرتبط بحدود انعكساته على مصالحها. مما يعني أن حدود ونطاق الإنخراط الأمريكي في السودان يبقى مرهون بالمصالح التي ترسمها الإدارة في ضوء الدوافع والمحفزات السابق الإشارة إليها. وذلك مع الوضع في الاعتبار أن السياسة التي تتبناها واشنطن حيال الصراع في السودان خلال الأشهر القادمة ربما تبدو مرشحة للتغيير – بقدر ما – في ضوء تغير القيادة في البيت الأبيض كنتيجة للسباق الرئاسي 2024.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34211/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M