علم اجتماع المخاطر :علم الاجتماع الجديد

 

د/ لبنى لطيف

 

 

علم اجتماع المخاطر هو ذلك العلم الذي يهتم بفهم و تفسير ظاهرة المخاطرة باسبابها و نتائجها في السياق التاريخي و المجتمعي ككل ، تفسيرا سوسيولوجيا ، كما أنه معنى تحديدا بدراسة المخاطر الأخطار المنبعثة من عصر الحداثة و ما بعدها ، أي أنه يتناول بالدراسة المخاطر التي يعرفها عالمنا اليوم و أثرها على المجتمع الإنساني ، و هو يرتبط بشكل كبير بإسهامات عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك الذي يعزى له الفضل في صياغة مفهوم ” مجتمع المخاطرة ” . كما يبرز في هذا المجال ايضا علماء اجتماع مثل الانجليزي أنتوني جيدنز ، و الألماني نيكلاس لومان ، و الفرنسي دافيد لوبروتون ..

و رغم أن المخاطرة و الخطر وجدا منذ وجود الانسان على هذه البسيطة مع أن ذلك يختلف حتما من حيث الدرجة و النوع و الإدراك و التحكّم .. إلا أن أولريش بيك و أنتوني جيدنز يتفقان في كون أن ( فكرة المخاطرة ) بالمعنى الذي ارتبط بمجتمعات الحداثة قد ظهرت فجر النهضة الأوروبية في القرنين السادس عشر و السابع عشر ، اذ ارتبطت بظهور الاحتمالية في الحساب ، حيث سجل تاريخ العلم ان القرن السابع عشر مولد حساب الاحتمالية 1651 .. اي مولد أول محاولة في التحكم فيما هو غير متوقع و ذلك بحساب إمكانية النجاح و الخسارة مقابل المكان و الزمان ، حيث يقول جيدنز أن المخاطرة ارتبطت أولا بالمكان ( الإبحار ) ثم بالزمان ( الاستثمارات ) .

و إنه من الأهمية بمكان ، أن نوضح أن البحث في موضوع المخاطر في الفترة المعاصرة كان وليد ظروف مجتمعية و مشكلات جمة طفت على السطح على مختلف الاصعدة أهمها الصعيد البيئي ، و كذا الصعيد الأمني و السياسي ، و الاقتصادي ، و الثقافي ، و الاجتماعي .. و كل ذلك كان من مخلفات الحداثة التي وجهت المؤسسة العلمية- التكنولوجية و الاقتصادية نحو خدمة و تحقيق انتصاراتها في الوقت الذي كان المجتمع يدفع ثمن تلك الانتصارات (العلمية خاصة ) فبدأت تظهر في الجهة المقابلة إخفاقات مُقَابِل تلك الانتصارات ، تمثلت اكثر ما تمثلت في الدمار البيئي ( إنسان – حيوان – أرض – هواء – مياه ..) في صورة دراماتيكية رسمت ملامحها سياسة التصنيع و التجارب النووية و الحروب الكيماوية و غيرها ، و هو الأمر الذي أثر بدوره على البعد الاجتماعي و الثقافي من جهة أخرى ، و ذلك من حيث انقطاع الرباط الاجتماعي ، فباتت العلاقات الاجتماعية كما أصفها “علاقات طيارة ” فمن جهة هي تتشكل و تنتهي بسرعة بصورة تنذر بالخطر ، و من جهة أخرى هي غير محدودة و ثابتة و إنما تتمدد و تتطاير متحدية المكان و الزمان بفضل تكنولوجيا الاتصالات الرقمية خاصة تلك العلاقات “الافتراضية ” و التي شكلت أخطارا على العلاقات الاجتماعية “الحقيقية ” إظافة الى أن توسع شبكة العلاقات الاجتماعية عبر الفضاءات الالكترونية قد يحمل في طياته مخاطر توسع شبكة العلاقات ” الإجرامية ” .. و كذا تغذية صراعات و نزاعات إثنية و عرقية ذات بعد ثقافي – ديني مما قد يترتب عنه أيضا مخاطر و أخطار أخرى عالمية على صعيد آخر ، و هكذا ..

و يرى أولريش بيك أن “مجتمع المخاطرة ” قد ظهر مع منتصف القرن العشرين ، و هو مجتمع ساخط على تبعات الحداثة السلبية ، يبحث في كيفية إدارة المخاطر (Risk management) و الأخطار بالوقاية و العلاج معا . و هو ما أوضحه في كتابه ( مجتمع المخاطرة ) الذي كتبه عام 1986 ، مشيرا إلى أن مجتمعات النصف الثاني من القرن العشرين باتت مرغمة على مواجهة سلبيات الحداثة و إيجاد الحلول و البدائل المناسبة لمجابهة تحدياتها و إدارتها، و هو ما أسماه ب ” عقد المخاطرة ” اي مدى القدرة على التحكم في التهديدات و الأخطار الناجمة عن الصناعة و القدرة على تعويضها .. غير أنه في كتابه الآخر الذي كتبه بعد عشرون سنة من ذلك ، و هو كتاب ( مجتمع المخاطر العالمي : بحثا عن الأمان المفقود ) عام 2006 ، قد فرق فيه بين مجتمع المخاطرة و مجتمع المخاطر العالمي ، حيث هنا يظهر جليا أنه يتحدث عن “مجتمع عالمي ” تنتشر فيه المخاطر و الأخطار في مختلف الأقطار أو كما أصفها ( المخاطر الطيارة ، اي التي تطير من مكان الى مكان آخر دون أن نقدر على مسكها و إخضاعها أو التحكم فيها ! ) لعبت فيها العولمة و انسيابية التدفق و تخطي الحدود القومية دورا بالغا في : عولمة المخاطر و الأخطار ، و منه توسيع نطاق عدم الأمان المصطنع .

إذن ، مجتمع المخاطر العالمي هو المجتمع العالمي الذي اشترك في احتضان المخاطر و الاخطار ، بعدما كانت المخاطر و الاخطار لا تتعدى حدود الدولة القومية ها هي اليوم في عصر العولمة قد تخطت الحدود القومية لتتدفق في مختلف الاتجاهات و مثال ذلك الجماعات الإرهابية “المصنعة ” . و هنا يستوقفني عالم الاجتماع البولندي سيجموند بومان أثناء حديثه عن عصرنا الحالي فيصف حالة “ما بعد الحداثة ” بوصف مميز و يسميها ب ” الحداثة السائلة ” بعدما كانت “حداثة صلبة “، ففي سلسلة كتبه عن الحداثة السائلة عَنْوَن واحدا منهم ب ( الخوف السائل ) إشارة منه أن المخاطر و الاخطار التي كانت تدور في حدود الدولة القومية قد سالت اليوم في عصر العولمة ليتعدى سيلانها حدوده فيسيل الى مدى أبعد من ذلك فيصل إلى مناطق و أمكنة أخرى ، و سيلان الاٍرهاب و الأضرار البيئية و غيرهما سيترتب عنه لا محالة سيلان الخوف ! .

و يعرف أولريش بيك مجتمع المخاطر بأنه “حالة من توافق الظروف أصبحت فيها فكرة إمكانية التحكم في الآثار الجانبية و الأخطار التي يفرضها اتخاذ القرارات محل شك ” . و هنا نلاحظ أن المخاطرة مرتبطة باتخاذ القرار بشأن سلوك ما قد يحقق لنا : إما فرصة و إما خطرا . و مع تفاقم المخاطر و الأخطار مقابل الفرص فإن مجتمع المخاطرة بات يعيش حالة من عدم الأمان و أيضا الشك و فقدان اليقين بخصوص إمكانيته و مقدرته على مواجهة تلك المخاطر (risks ) و الأخطار ( dangers) و التحكم فيها مكانيا و زمنيا . و لهذا يتفق علماء المخاطرة على أن عالمنا اليوم يعيش حالة من فقدان اليقين العالمي .

و هو أي بيك يفرق بين المخاطرة و الكارثة ، فالمخاطرة حسبه تعني التنبؤ بالكارثة أي هي إمكانية أن تطرأ احداث و تطورات مستقبلية و اذا ما تحققت تصبح إذن كارثة . فالمخاطرة حدث متنبأ بحدوثه أما الكارثة فهي حدث فعلي .

أما نيكلاس لومان فإنه يفرق بين المخاطرة و الخطر في كتابه ( المخاطرة : نظرية سوسيولوجية ) ، إذ يعرف المخاطرة risk على أنها : أَذًى محتمل يخيف الفرد و يرتكز على قرار اتخذه بنفسه ، إنها عملية حسابية تأخذ بالاعتبار الخسارة و الفائدة المُحتملة بالاستناد الى الزمن . أما الخطر danger فهو : الأَذى المحتمل الذي يتعرض له الفرد بفعل مؤثرات خارجية ، اي دون أن يتخذ الفرد نفسه قرارا بفعل كذا .

كما يعرف أنتوني جيدنز في كتابه ( عالم منفلت : كيف تعيد العولمة صياغة حياتنا ) المخاطرة على أنها : تلك المجازفات التي يتم تقويمها فعليا في علاقتها بالاحتمالات المستقبلية . كما يقول أنها هي القوة الدافعة للمجتمع الذي يصر على التغير و الذي يريد ان يحدد مستقبله ولا يتركه للدين او التقاليد أو لقوى الطبيعة .

و هو أي جيدنز يرى أن المخاطر نوعان :

-مخاطر خارجية ، و هي ما ارتبط بالتقاليد و الطّبيعة ( الأوبئة و الفياضانات و المجاعة و الجفاف و البيئة وو) ، و التي تحدث خارج إرادة الانسان

– مخاطر مصنعة ( مخلقة ) ، هي التي يتدخل فيها الانسان بارادته ، و التي تنجم عن قصور و قلة خبرة الانسان .

كما و يرى جيدنز أن عصرنا ليس اكثر خطورة من العصور السابقة و لكنه شهد تحولا في توازن المخاطر و الاخطار ما جعل المخاطر المخلقة التي نخلقها بايدينا أشد خطرا و اثرا من المخاطر الخارجية ، هذه المخاطر المخلقة ( المصنعة ) جعلت النظرة للعلم تتغير حيث تراجعت النظرة العلمية و العقلانية .. و هو يسمي مجتمعنا اليوم ب ” عصر ما بَعْد نهاية الطبيعة ” و ” مجتمع ما بعد نهاية التقاليد ” ، و هو لا يعني أن الطبيعة قد انتهت تماما و انما هو يقصد أن ما بقي من الطبيعة و البيئة من الشيء القليل جدا جعل العالم يبدو و كأنه يعيش حالة من مابعد الطبيعة ، و نفس الامر بالنسبة للتقاليد .

أما أولريش بيك فينطلق في نظريته من ثلاث منظورات و هي :

– العولمة : حيث عملت على عولمة المخاطر و الأخطار و تجسيد اللحظة الكوزموبوليتانية ( اللاقومية ) مع تراجع الدولة القومية ، فبات ضروريا أن يتم فهم المخاطر في سياق عالمي و هو ما يسميه ب ” الكوزموبوليتانية المنهجية ” ، بعدما كانت تفهم في سياق قومي داخلي ” القومية المنهجية ” .

– التصوير و الإخراج : و هو يعني أن المخاطرة و التي هي أمر كارثي متوقع و متنبأ به يتم إخراجه و تصويره بوصفه ” توقعا ذَا مصداقية ” ما يكسبه الصفة ” الحقيقية ” فيشكل صورة نمطية ذهنية في عقول الناس بأن الكارثة حاضرة بينهم ، اي أن مستقبل الكارثة حاضرا ، الأمر الذي يهدف غالبا إلى منعها و تفاديها . و التصوير السينمائي للمخاطرة لا يعني تزوير الحقيقة من خلال تزوير مخاطر غير حقيقية و انما هو عرض سياسي -إعلامي للجمهور و للعالم حتى يدركوا مستقبل المخاطرة و منه يتم تفادي الوقوع في الكارثة من خلال التأثير على القرارات الحالية ، و حسن إدارة الوضع و التحكم فيه .

– المقارنة بين المخاطر البيئية و الاقتصادية و الإرهابية : بحيث أن بيك انطلق في تحليله من ثلاث منطقيات للمخاطر الكونية و هي : مخاطر بيئية – مخاطر اقتصادية مالية – مخاطر الإرهاب . فاعتبر أن المخاطر البيئية و الاقتصادية تأتي (صدفة ) اي عن حسن نية ، أما مخاطر الاٍرهاب فهي ( مقصودة ) أي عن سوء نية .

و يربط بيك كل هذه المخاطر بثقافة المجتمع الناشئة فيه وفق ما أسماه ب ” الإدراك الثقافي للمخاطرة ” و هو أن كل مجتمع له تقييمه الخاص لمستوى المخاطرة و درجتها ، و كلما قلت إمكانية تقدير الخطر إكتسب الإدراك الثقافي المتنوع للمخاطرة ثقلا أكبر .

و تتنوع المخاطر و الأخطار التي يعكف علم اجتماع المخاطر على دراستها لتشمل مخاطر الدمار البيئي مثل تلوث الهواء و البحار ، الغازات الدفيئة و الاحتباس الحراري و ثقب الأوزون ، و الأمطار الحمضية و الزراعة الوراثية ، و تناقص الثروات الباطنية و المياه الجوفية ، تقلص المساحات الغابية و الثروة السمكية …الخ ، اظافة الى مخاطر التجارب النووية و تخصيب اليورانيوم و أسلحة الدمار الشامل و الحروب الكيماوية ، و الأوبئة الفتاكة مثل انفلونزا الخنازير و الطيور و جنون البقر و الإيدز و غيرها ، الاستنساخ و الانتقاء الجيني مختلف التكنولوجيا الحيوية ، كما هناك مخاطر متعلقة بالأمن القومي و العالمي مثل التطرّف الايديولوجي و الاٍرهاب الدولي ، النزاعات الاثنية بين الطوائف و الاقليات ،والصراع العرقي و الجندري . اظافة الى تهجين الهويات ، النزعة الفردانية و انقطاع الرباط الاجتماعي ، و المشكلات الاقتصادية مثل الأزمات المالية العالمية ، أزمات البترول ….و غيرها من المخاطر التي شهدها العالم مؤخرا والتي أثرت لا محالة على المجتمع الإنساني أفرادا و جماعات ، حيث تراكمت و اتسعت إلى أن طفت على السطح منذرة بمستقبل كارثي يهدد أمن العالم دون استثناء ، أغنياء العالم و فقراءه .

 

رابط المصدر:

https://www.makalcloud.com/post/8wv7mb0id

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M