عندما يدعم الدين القانون وعندما يعارضه

تتميز ‫ ‏الدول الاسلامية‬ بقوة مؤثرة في ‫ ‏المجتمع‬ لا نجدها في اغلب بل ربما في كل ‫ ‏دول العالم‬ وهي قوة ‫ ‏الدين‬، وتتباين هذه القوة من دولة الى اخرى، فنجدها شبه منعدمة في بعض الدول الاسلامية ونراها مؤثرة جداً في دول اخرى مثل دول ‫ ‏الشرق الاوسط‬.
وهذا التأثير يدفعنا الى التعامل معه بايجابية لتحقيق ‫ ‏دولة مدنية عادلة‬، فحتى من يرى ان الدين يعرقل بناء ‫ ‏دولة مدنية‬ عليه ان يترك الامنيات وان يتعامل بواقعية مع ‫ ‏الحدث‬، اذ لا فائدة من السعي لتغيير المجتمع من ديني الى علماني حتى يحقق ‫ ‏الدولة المدنية‬ لان ذلك سيكلفه الكثير من دون اي تأثير، فالدولة المدنية لا علاقة لها باسلامية المجتمع او علمانيته، فيمكن تحقيقها بكلا الاتجاهين.
على كل حال، علينا ان نستفيد من هذه القوة ايجابيا كي نحقق اسمى الغايات بأقل الخسائر، فالدين يتفق مع ‫ ‏القانون‬ الذي يعتبر اساس اي دولة مدنية ما دام القانون في خدمة ‫ ‏المجتمع والانسان‬، وكما هو معروف فإن للدين ‫ ‏تشريعات واحكام‬ لا يمكن لاي فقيه ان يغيرها او يشرع احكاما مخالفة لأحكام الدين، وليس من حقه أن يقبل بشرعية ‫ ‏قوانين وتشريعات‬ وأحكام غير التي جاءت من ‫ ‏السماء‬ الا ان يسمح الدين له بذلك وفق ما أنزل من ضوابط لفهم الدين ولوازم ‫ ‏الافتاء‬.
وكل ما على ‫ ‏الفقهاء‬ فعله تجاه القانون الذي يحكم ‫ ‏البلاد‬ هو ان يعرضه على ‫ ‏الشرع‬ فإذا وافقه بعمومياته او جزئياته اعطى ‫ ‏الإذن الشرعي‬ للتعامل معه، اما في موارد تعارض القانون مع الدين بعناوينها الاولية او الثانوية فيأذن بمخالفته بل ليس من حقه ان يعطي الشرعية لقانون يخالف الدين.
وقد يفهم البعض أن ما بيناه لا يكون تطبيقه الا في ‫ ‏النظام الإسلامي‬، وهذا الكلام صحيح اذا كان النظام كله وفق الشريعة الإسلامية، وهذا لا يعني ان الخيارات التي امامنا اثنين فقط اما يكون النظام اسلاميا 100% او علمانيا 100%، فقد تكون الخطوط العامة للنظام السياسي والقانون موافقة للشرع فتكون مخالفتها مخالفة للشرع او بالعكس ، او ان تفاصيل ‫ ‏النظام السياسي‬ والقانون ‫ ‏مخالفة للشرع‬ فيكون الالتزام بها مخالف ايضاً للشرع، او بالعكس، او ان يكون تطبيق القانون بعنوانه الأولي موافق للشرع ولكن العنوان الثانوي مخالف له او بالعكس.
ولا بد من توضيح ما تقدم بأمثلة حتى تتضح الفكرة، فمثلاً اذا كان القانون المعمول به يحافظ على ‫ ‏النظام العام‬، وبما أن حفظ النظام العام امر مطلوب شرعاً ومخالفته ‫ ‏مرفوض شرعاً‬ فيكون ‫ ‏تأييد الشرع للقانون‬ في هذا المفصل بهذا المستوى، او ان وظيفة ما في ‫ ‏نظام سياسي‬ معين يحكم البلاد تكون مرفوضة شرعاً بسبب مخالفة ظرف هذه الوظيفة للشرع، ولكن نفس الوظيفة في نظام سياسي اخر تكون مقبولة شرعاً لان دورها ايجابي في  المجتمع.
وهنا لا بد من ان يكون ‫ ‏الفقيه‬ الذي يقوم بمهمة ‫ ‏الإفتاء‬ وتمييز ‫ ‏الموقف السياسي‬ الموافق للشريعة من المخالف لها متضلعا في الفقه وأصوله من جهة و الأنظمة السياسية وتفرعاتها من جهة أخرى، وكلما اتقن الفقيه الجهتين تمكن من تخليص الشعب من الشقاء والذل في الدارين، والعكس بالعكس.
فإذا افتى الفقيه في موضع ما من القانون بحرمة الالتزام به في تلك الجزئية او على الاقل انه اجاز مخالفته في ذلك فإن هذا سيعرقل مسير تأسيس الدولة المدنية المبنية على أساس احترام القانون وعليته، وفي الوقت نفسه إذا لم يفت بتلك الفتوى فقد خالف الشرع واصبح مرفوضا لدى الشارع المسلم.
و ان كان الوصول إلى دولة علمانية 100% امر شبه مستحيل فكذلك الوصول الى دولة اسلامية 100% امر شبه مستحيل ايضاً، او ان الوصول الى احداها يتطلب المزيد من الوقت والكثير من التضحيات، لذلك فإن الحل الأمثل في الوقت الحالي هو ان تكون الخطوط العامة للنظام مطابقة للشرع ومخالفة له في التفاصيل ان اضطررنا لذلك، لأن التزام الشعب بدينه على حساب القانون امر لا يمكن القضاء عليه، وبالتالي لتكن تلك المخالفة في التفاصيل وليس في العموميات، وبدون هذا الحل فإن تطبيق النظام الإسلامي هو الحل رغم التضحيات، وستكون خسارة العلمانيين عندها اكبر من خسارة الإسلاميين، إذ سيخسر الإسلاميون دنياهم فقط في هذه الحالة وسيربحوا آخرتهم، وهذا هو معتقدهم وما يدفعهم للالتزام بالدين.
فعلى العلمانيين إن كانوا يفكرون في دولة مدنية مستقرة ان يحافظوا في الدول الإسلامية التي تتمتع بقوة كبيرة للفقهاء على ان لا يعارض النظام العام الدين الإسلامي او ثوابته، وأن لا يحاربوا القوانين التي تثير وتستفز الإسلاميين، لأن ذلك سيؤثر على أسس الدولة المدنية الموعودة.

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M