فن إدارة الغضب

محمد علي جواد تقي

 

كل شيء تفكر به العائلة لتنشئة الطفل، بدءاً من بدنه، والحرص على تغذيته الخالصة والسليمة المؤدية الى نمو الاسنان والعظام والاطراف وجميع أعضاء البدن ليفرحوا به وهو يتحرك بنشاط وحيوية، ثم تنميته عقلياً وتوسيع مداركه وفهمه لما يدور حوله، والأمر الآخر، الاهتمام البالغ بعلميته والحرص الشديد على نجاحه في الدراسة، بل التفوق على أقرانه في المدرسة والجامعة وفي الاختصاص المرموق اجتماعياً.

ولكن! يبقى أمرٌ واحد تتجاهله بعض العوائل بحق ابنائها –إن لم نقل الغالبية منهم- وهو نفس الطفل، وما تنطوي عليه من نوازع وغرائز وحالات ذات مدخلية مباشرة في جميع تلكم الجوانب المكلفة في الحرص والاهتمام، والنفس تمثل القوة الباطنية الكبرى التي تتحكم في السلوك والتفكير، وعندما تم البحث في هذا الجانب من قبل العلماء في القرن السابع عشر ليتحول فيما بعد الى علم مستقل في اطار العلوم الانسانية، أضفوا عليه طابع السلبية، وأنه يؤشر دائماً على حالات القلق والخوف والغضب والشعور بالدونية، بيد أن المعالجة السابقة على هذا بقرون عديدة رأت في النفس القوة والنعمة الإلهية العظيمة، كما هي نعمة الماء والهواء، يمكن الاستفادة منها لما فيه الخير والصلاح، اذا ما تم تقويمها وتهذيبها.

وما يجعل النفس غير مثيرة للانتباه في النظام التربوي، كونها باطنية، ليس لها علائم ملموسة مثل تحولات البدن، وتحولات العقل والإدراك بما يمكن التمييز من خلاله بين قوي وضعيف، وبين عالم وجاهل، فعندما ينمو البدن، وينمو العقل، ويضخ العلم والمعرفة، يكبر الانسان وتكبر معه هذه القوى، ولكن تبقى نفسه صغيرة وضعيفة غير قادرة على التحكم بالنوازع والغرائز والحالات النفسية، ومنها؛ الغضب، فكما نجد الطفل الصغير يغضب لعدم حصوله على الحلوى او اللعبة التي يطلبها، فان الرجل الكبير ستنتابه ذات الحالة عندما تزاحمه سيارة مسرعة في الشارع وتحاول اجتيازه، فينسى علمه ومعرفته ومكانته الاجتماعية ويتحول الى ذلك الطفل الصغير مع الفارق الكبير برد الفعل الذي يكون في معظم الاحيان كارثياً.

هل الغضب حالة سلبية دائماً؟

بسبب النتائج المترتبة على صعيد الواقع، يبدو أن الغضب بات يُعد من الحالات النفسية السيئة والمذمومة لابد من اقتلاعها ليكون الانسان في حالة رضى دائم وهدوء تام في حياته، في حين إن العلماء بينوا خطأ هذا الفهم، وأن الغضب مثل سائر الميول والغرائز المودعة في النفس البشرية، فكما هو ميل الانسان الى البقاء وتحاشي الموت، وايضاً وجود غريزة الجنس، والسعي لاشباعها، فان الغضب ايضاً حالة طبيعية لا يمكن ان تنفصل عن حياة الانسان، لأن “الخير هو جوهر الميول التي صنعها و أوجدها الله سبحانه في البشر”، (من محاضرات آية الله السيد محمد رضا الشيرازي في بناء الشخصية)، وهذا الخير يتجسد عندما يتجنب الانسان مخاطر السقوط من شاهق، او الوقاية من الامراض القاتلة، فالميل الى البقاء يحفظ وجود الانسان ويضمن استمرارية الحياة، ونفس الأمر في الميول الجنسية التي يحتاجها كل انسان للتكاثر من خلال عقد الزواج بتأسيس مجتمعات صغيرة (الأسرة) بموصفات راقية، ثم طلب النسل والذرية.

أما الغضب وهو حالة نفسية تصدر من رد فعل على عمل أو موقف في الواقع الخارجي، فانه هو الآخر يحتاجه الانسان لاتخاذ موقف معين إزاء قول أو عمل يراه خاطئاً، وهو الخير الذي يشير اليه سماحة الفقيه الشيرازي –طاب ثراه- وإلا ما الذي يدفع الشباب الواعي للمشاركة في عملية التغيير السياسي، والاجتماعي ايضاً؟ وما الذي يدفع نفس هؤلاء الشباب للالتحاق بصفوف المقاتلين لمواجهة العدوان الخارجي والتضحية بالنفس؟ وما الذي يدفع افراد في المجتمع للوقوف بحزم أمام ظواهر خاطئة في المجتمع، مثل التنّمر، وانتهاك الحرمات والمقدسات وحقوق الناس؟

وقد عرفنا الإسلام على الاتجاه الخيّر للغضب عندما يكون لله –تعالى- وليس لذات الانسان، وقد جسّد أمير المؤمنين، عليه السلام، المثال الأعلى والخالد في هذا المجال بموقفه مع عمرو بن ودّ العامري الذي بصق في وجهه فيما كان يهمّ بحزّ رأسه في تلك المنازلة التاريخية العظيمة، فتوقف الإمام عن قتله، ونهض عنه وسط دهشة واستغراب جموع المسلمين والمشركين المتقابلين في معركة الخندق، ثم سار خطوات وعاد اليه واحتزّ رأسه، ولما سأله المسلمون عن السبب في ذلك، فقال –مضمون الرواية- حتى يكون قتلي إياه غضباً لله وليس لي شخصياً عندما أثارني بفعلته.

التحكم بالغضب ونجاح عملية التغيير

كتب الكثير من علماء الأخلاق وبحثوا في حالة الغضب تحديداً، وحذروا إن إطلاق العنان لهذه الحالة في كل الاتجاهات من شأنها التسبب بكوارث هائلة، تبدأ من داخل الأسرة وما نسمعه يومياً من حوادث العنف الأسري المريع، ولا تنتهي في المحلة، والشارع والسوق والدوائر الحكومية ومختلف الاماكن، بيد أن ثمة مخاطر مستجدة من انفلات الغضب من عقاله تتصل بالواقع السياسي عندما تكون الحاجة الى التغيير بأشكال واساليب متعددة تبدأ بالوقفات الاحتجاجية والمطلبية، ولا تنتهي بالمظاهرات والاصطدام بقوى الأمن، وتطور الأمر الى تشنج العلاقة بين جماهير الشعب و النظام السياسي الحاكم في ظل النظام الديمقراطي.

من الناحية النفسية نلاحظ وسم حالة الغضب بمشاعر ذاتية في الشارع، ولا تعبر –في كثير من الاحيان- عن مطالب عامة، او أن “الحراك الجماهير” يعبر عن ضمير الغالبية العظمى من الشعب، و مردّ ذلك الى أن القوة الغضبية في الشارع ستبحث عن الانتصار والغلبة على السلطات الحاكمة وإجبارها على تحقيق المطالب مهما كلف الثمن، وهذا ما يجعل الغضب المتضمن لتضحيات جسام، وبطولات وتحديات، مجرد صاعق ينفجر لوحده دون المواد المتفجرة، وسرعان ما يختفي كل شيء وتعود الامور الى طبيعتها في الشارع دون أن يتغير شيء في النظام السياسي، كما حصل في فرنسا مع حركة “السترات الصفر” التي انطلقت عام 2018 احتجاجاً على عزم الحكومة الفرنسية تعديل قانون التقاعد بما يضر بالعمال والموظفين، كما انفجر الشارع بعد زيادة اسعار المحروقات وتفاقم الوضع المعيشي، ورغم التنظيم الذي رافق هذه الحركة وقوة الضغط في الشارع إلا ان الحكومة أصرت على قرارها غير عابئة بموجات الغضب من اصحاب السترات الصفراء الذين ما برحوا انسحبوا من الشوارع وانتهى كل شيء.

إن عملية تهذيب النفس وانعكاسها المباشر على تقويم حالة الغضب وتوجيهها الوجهة الصائبة، يمكن تطبيقها على عملية تقويم الافكار وتحديد الاهداف والأولويات بما يخدم الصالح العام ليكون الغضب سلاحاً ناجحاً لتغيير الواقع الفاسد في نظام الحكم، ولا يكون مجرد انفعالات تعبر عن مشاعر وعواطف خاصة بمجموعة افراد، لان الهدف هنا ليس محدوداً بشاب باحث عن عمل، وإنما يتعلق بالرجل والمرأة والطفل، والعالم والجاهل وجميع افراد المجتمع المتضررين من السياسات الخاطئة، فالغضب والشجب يجب ان يعبر عن هموم وآلام جميع هؤلاء، وهنا يكون فاعلاً ومؤثراً كما حصل في ثورات جماهيرية ناجحة في التاريخ الحديث.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/community/25006

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M