وافقت الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد اشتيه في جلستها الـ 63 بتاريخ 29 / 6 / 2020، على انضمام دولة فلسطين إلى ميثاق “منتدى غاز شرق المتوسط ورفعته إلى الرئيس محمود عباس للمصادقة. فما هي فوائد هذا القرار وما هي مثالبه؟
مقدمة
يأتي هذا القرار – الانضمام – في ظل ظروف دقيقة وصعبة وتحديات جوهرية تتعرض لها القضية الفلسطينية برمّتها، بدءاً من انحياز الإدارة الأميركية ضد الحقوق والمصالح الفلسطينية ممثلاً في إعلان خطة السلام أو ما يُسمى صفقة القرن التي وصفها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بذاته بأنها خطته،[1] وقطع المساعدات الأميركية بهدف الضغط على القيادة الفلسطينية لقبول بنود الصفقة، مروراً بالممارسات العنصرية للاحتلال الإسرائيلي على الأرض مثل تسريع وتيرة الاستيطان والاستعداد لتنفيذ خطوة ضم ما يعادل 30% من أراضي الضفة الغربية، وكذلك تهويد مدينة القدس، وقرصنة أموال المقاصة الفلسطينية بصورة سافرة، وقطع التيار الكهربائي بشكل متكرر عن بعض مدن الضفة الغربية بذريعة الديون المستحقة على شركة الكهرباء الفلسطينية، علاوة على استمرار الحصار الخانق منذ 14 عاماً على قطاع غزة، وصولاً إلى حالة الانقسام الداخلي الكارثي على الكل الفلسطيني.
تحاول هذه المقالة مناقشة أبعاد قرار انضمام فلسطين رسمياً إلى منتدى غاز شرق المتوسط، وخصوصاً البعدين السياسي والاقتصادي، وذلك من أجل استكشاف الفوائد المحتملة أو الخسائر المترتبة لمثل هذه الخطوة على واقع القضية الوطنية الفلسطينية ومكانتها.
تمهيد
منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) هيئة تأسست في كانون الثاني / يناير 2019، ويقع مقرّها الرئيسي في العاصمة المصرية القاهرة، وجرى إشهاره رسمياً بعد عام تقريباً، وأُحيلت اتفاقية تأسيسه إلى حكومات الدول الأعضاء للمصادقة. وقد تحول المنتدى إلى منظمة دولية حكومية وليدة في مجال الطاقة بعد إطلاق الإطار التأسيسي خلال الاجتماع الوزاري الثالث في مدينة القاهرة في 16 كانون الثاني / يناير 2020، ففي ختام هذا الاجتماع أكدت الدول الأعضاء المؤسسة للمنتدى، وهي مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا، أن المنتدى يستهدف “إنشاء منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء بشأن مواردها الطبيعية بما يتفق ومبادىء القانون الدولي، وتدعم جهودهم في الاستفادة من احتياطاتهم واستخدام البنية التحتية وبناء بنية جديدة، وذلك بهدف تأمين احتياجاتهم من الطاقة لصالح رفاهية شعوبهم.”[2] ويسعى منتدى غاز شرق المتوسط أيضاً لتحقيق جملة من الأهداف المعلنة:[3]
– العمل على إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد على الوجه الأمثل، وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية.
– ضمان تأمين العرض والطلب للأعضاء مع العمل على تنمية الموارد على الوجه الأمثل والاستخدام الكفء للبنية التحتية القائمة والجديدة مع تقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية.
– تعزيز التعاون من خلال خلق حوار منهجي منظم، وصوغ سياسات إقليمية مشتركة بشأن الغاز الطبيعي، بما في ذلك سياسات الغاز الإقليمية.
– تعميق الوعي بالاعتماد المتبادل والفوائد التي يمكن أن تُجنى من التعاون والحوار فيما بين الأعضاء، بما يتفق ومبادىء القانون الدولي.
– دعم الأعضاء أصحاب الاحتياط الغازي والمنتجين الحاليين في المنطقة في جهودهم الرامية إلى الاستفادة من احتياطهم الحالي والمستقبلي من خلال تعزيز التعاون فيما بينهم ومع أطراف الاستهلاك، والعبور في المنطقة، والاستفادة من البنية التحتية الحالية، وتطوير مزيد من خيارات البنية التحتية لاستيعاب الاكتشافات الحالية والمستقبلية.
– مساعدة الدول المستهلكة في تأمين حاجاتها، وإتاحة مشاركتهم مع دول العبور في وضع سياسات الغاز في المنطقة، وهو ما يتيح إقامة شراكة مستدامة بين الأطراف الفاعلة في مراحل صناعة الغاز كافة.
– ضمان الاستدامة ومراعاة الاعتبارات البيئية في اكتشافات الغاز وإنتاجه ونقله، وفي بناء البنية الأساسية، علاوة على الارتقاء بالتكامل في مجال الغاز.
وقد أكد الأعضاء المؤسسين منذ الاجتماع الأول للمنتدى في كانون الثاني / يناير 2019، على توفر إمكان انضمام أعضاء جدد إلى أي من دول شرق البحر الأبيض المتوسط المنتجة أو المستهلكة للغاز ، أو إلى دول العبور، ممّن يشاركون المنتدى في الرؤى والأهداف، وذلك طبعاً بعد استيفاء إجراءات العضوية بحسب الأصول المتّبعة.[4]
إلّا إن هذا الإعلان لم يحيّد حالة التوتر والاستقطاب المتصاعدة في المنطقة، فقبل نحو عقد من الزمان في سنة 2010، قدّرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية كمية الاحتياط الكامن في شرق البحر الأبيض المتوسط بنحو 122 تريليون متر مكعب من الغاز، ونحو 107 مليارات برميل من النفط، وهي ثروة هائلة في منطقة مليئة بنزاعات سياسية معقدة، الأمر الذي يجعل من هذه الثروة مصدراً للتوتر على أكثر من صعيد وبين أطراف مختلفة، كما جعل منها موضوع استقطاب بين محورَين رئيسيين هما: مصر وتركيا، التي ترى كل واحدة منهما أنها مؤهلة لتكون نقطة عبور ومركزاً لنقل الغاز من منابعه في الشرق إلى قارة أوروبا.[5]
اكتشاف الغاز الفلسطيني وأهميته
يحظى الغاز الطبيعي باهتمام متزايد في أسواق الطاقة العالمية، ووفقاً لتوقعات وكالة الطاقة الدولية في نهاية سنة 2019، فإن الطلب العالمي على هذا المصدر سيستمر في الارتفاع خلال العقد المقبل.[6]
كما أن توقعات وجود النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط تعود إلى أواسط القرن الماضي، ففي أواخر التسعينيات اكتُشف حقلان من الغاز على بعد 30 كيلومتراً من شواطىء غزة وعلى عمق 600 متر تحت سطح البحر، وأُطلق على الحقل الأول اسم “غزة مارين” ويقع كلياً ضمن المياه الإقليمية الفلسطينية قبالة مدينة غزة، أمّا الحقل الثاني فهو الحقل الحدودي “مارين 2” الذي يقع ضمن المنطقة الحدودية البحرية بين قطاع غزة وإسرائيل.[7]
وبعد إجراء مسوحات جيوفيزيائية أولية قامت بها شركة بريتش غاز “بي بي”، قدّرت احتياط حقل “غزة مارين” الأوّلي بنحو 1,4 تريليون قدم مكعبة، الأمر الذي أسال لعاب الدول الأُخرى في شرق البحر الأبيض المتوسط، وخصوصاً إسرائيل، فبدأت عمليات استكشاف محمومة أفضت حتى الآن إلى اكتشاف حقول ضخمة دخل بعضها مرحلة الاستغلال، مثل: “ليفياثان” و”تمار” الإسرائيليين باحتياط يقترب من 900 مليار متر مكعب، وحقل “ظهر” المصري باحتياط 850 مليار متر مكعب، و”أفروديت” القبرصي باحتياط يُقدّر بنحو 140 مليار متر مكعب، علاوة على حقول أُخرى، مصرية وإسرائيلية وقبرصية، مكتشفة أو معروفة وهي في مراحل التطوير ولم تدخل مرحلة الاستغلال بعد. ومع أن حقل الغاز الفلسطيني “غزة مارين” كان أول حقل يتم اكتشافه في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، إلّا إنه لم يشهد أي تطور يسمح باستغلاله جرّاء الإجراءات الإسرائيلية غير المشروعة، وبالتالي حرمان الفلسطينيين من واحد من أهم مواردهم وثرواتهم الطبيعية، في وقت يعانون انعدام الأمن في مجال الطاقة، على الرغم من أنه في فلسطين تتمثل الركيزة الأساسية لأمن الطاقة في تأمين الكهرباء بكميات كافية وأسعار عادلة، ومن مصادر موثوق بها.[8]
فوفقاً لبيانات سلطة الطاقة بشأن استهلاك فلسطين في سنة 2018 للطاقة الكهربائية، وذلك بحسب القطاعات، فإنه بلغ (1,179,5 غيغا واط / ساعة) استهلاكاً منزلياً، (665,9 غيغا واط / ساعة) تجارياً، (608,5 غيغا واط / ساعة) صناعياً، (492,1 غيغا واط / ساعة) قطاعات أُخرى، بمجموع يساوي 2,946 غيغا واط / ساعة.[9]
أمّا مصادر الطاقة المستوردة في السنة نفسها (2018)، فأتت على النحو التالي:[10]
كمية الطاقة الكهربائية المستوردة بحسب المصدر (غيغا واط / ساعة) للضفة الغربية والقدس بلغت: 4,329 من شركة كهرباء إسرائيل، و88 من المملكة الأردنية.
وقد بلغت الطاقة الكهربائية المستوردة والمشتراة (غيغا واط / ساعة) إلى قطاع غزة: 1031 من شركة كهرباء إسرائيل؛ 254 من شركة كهرباء غزة؛ 36 من جمهورية مصر العربية؛ وهذا كله بمجموع يساوي 1321.[11]
يتضح من خلال البيانات الواردة أن 86% من إجمالي استهلاك فلسطين من الكهرباء يأتي من إسرائيل، و12% من الأردن ومن محطة توليد غزة لتغطية جزء محدود من حاجات القطاع. وبينما يعيش قطاع غزة أزمة كهرباء خانقة منذ أعوام طويلة، فإن الأزمة انتقلت إلى الضفة الغربية بسبب بدء شركة كهرباء إسرائيل بقطع الكهرباء عن بعض محافظات الضفة الغربية بدءاً من تشرين الأول / أكتوبر 2019، بحجج مختلفة، وهو ما جعل أمن الطاقة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.[12]
ويكتسب الغاز الفلسطيني أهمية متزايدة، ففضلاً عن أن حقل “غزة مارين” يحتوي على 1,4 تريليون قدم مكعب، بحجم إنتاج يُقدّر بنحو مليار متر مكعب سنوياً، أي 50 مليار قدم مكعب تقريباً، فقد وُصفت جودة هذا الغاز بأنها عالية، وأنه نقي، الأمر الذي يسهّل بيعه، وقريب من الشاطىء، وهو ما يسهّل عملية استخراجه بأقل التكاليف، وبالتالي فإن عملية استخراجه مجدية من الناحية التجارية.[13]
كما أن للغاز الفلسطيني أهمية استثنائية وحاجة ملحة بالنسبة إلى الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية والقدس، وبصورة أكبر في قطاع غزة نظراً إلى الظروف الصعبة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي من تضييق وحصار وقطع التيار الكهربائي – ظروف ذُكرت سابقاً – فتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني سيؤدي إلى:[14]
– حل معضلة الكهرباء، إذ من المعلوم حجم معاناة قطاع غزة جرّاء انقطاع التيار الكهربائي منذ نحو 14 عاماً، وذلك نتيجة توفر 47% فقط من حاجة المواطنين إلى الكهرباء. ولا تُستثنى سائر المحافظات من هذه المعضلة، فها هي مدن الضفة الغربية تتعرض لقطع التيار الكهربائي بشكل متكرر بحجة الديون المستحقة لشركة الكهرباء الإسرائيلية، ولو جرى استغلال الغاز الفلسطيني فإن معضلة الطاقة ستُحل بصورة عامة، وكذلك القدرة على تلبية الطلب المحلي، والاكتفاء الذاتي أيضاً في المحافظات الفلسطينية كافة.
– رفد الموازنة العامة، فالتقرير السنوي لصندق الاستثمار الفلسطيني لسنة 2012 يشير إلى حجم الفوائد الكبيرة في العديد من القطاعات الرئيسية من خلال استغلال ناجح لحقل غاز “غزة مارين”، إذ تُقدّر درجة التوفير بأكثر من 560 مليون دولار سنوياً في فاتورة الطاقة للسلطة الفلسطينية، فضلاً عن عائدات مباشرة بنحو 2,5 مليار دولار على مدى عمر المشروع الذي يصل إلى 20 عاماً للحقل، وهذا علاوة على توقعات بفرص استثمار ضخمة للشركات العالمية في مجال الطاقة.
فوائد انضمام فلسطين إلى منتدى الغاز
لقد بدأت الحكومة الفلسطينية تنفيذ خطة لضمان أمن الطاقة من خلال تنويع المصادر، وأحد أبرز مكوناتها توليد الطاقة محلياً، سواء بالطرق التقليدية أو من مصادر نظيفة، وتحديداً الطاقة الشمسية، لكن القيادة الفلسطينية طلبت من صندوق الاستثمار تكوين تحالف لبناء محطة توليد أُخرى في جنين شمالي الضفة الغربية، بقدرة 450 ميغاوات تغطي نحو 50% من حاجات الضفة الغربية مثلما هي الآن، إلى جانب محطة التوليد العاملة في قطاع غزة بقدرة 140 ميغاوات، لكن كلا المشروعين يواجهان تحدّيين كبيرين: الأول: غياب شبكة ضغط عالٍ فلسطينية قادرة على نقل الطاقة المتولدة إلى مراكز الأحمال، والثاني: عدم القدرة على استغلال الغاز الفلسطيني لتشغيلهما.[15]
لذا، يمكن القول إن الأولوية القصوى تتمثل في تزويد هاتين المحطتين بالغاز للاستهلاك المحلي من حقل “غزة مارين” الذي يكفي احتياطه تلك المحطتين لـ 140 عاماً (من دون تصدير)، إلّا إن تطوير الحقل واستغلاله لا يزال دونهما عقبات كبيرة تفرضها إسرائيل، سواء في إتمام عمليات المسح السيزمي / الزلزالي، والحفر بغرض الاستكشاف للتأكد من الاحتياط، وصولاً إلى استخراج الغاز أو النقل لأغراض تشغيل محطتَي غزة وجنين.
لقد جاء قرار الحكومة الفلسطينية بالموافقة على انضمام فلسطين إلى منتدى غاز شرق المتوسط كخطوة حيوية متممة لما سبقها، وداعمة لما بعدها من خطتها المنبثقة من استراتيجيا القيادة الفلسطينية التي تمثلت في تدويل القضية الفلسطينية، وكسر الوضع القائم، وصولاً إلى تغييره جملة وتفصيلاً. وعناصر هذه الاستراتيجيا تتلخص بـ:[16]
1- استصدار قرار من مجلس الأمن يؤكد المرجعيات والقانون الدولي، أي أن دولة فلسطين صاحبة سيادة، وهي ناجزة الاستقلال على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967، والقدس الشرقية عاصمة لها.
2- دعوة أطراف اتفاقية جنيف لسنة 1949 إلى الانعقاد، والتشديد على تنفيذ وتطبيق هذه المواثيق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، أي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة.
3- دعوة السكرتير العام للأمم المتحدة إلى العمل على إنشاء نظام خاص للحماية الدولية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة.
4- الانضمام إلى المواثيق والمعاهدات والبروتوكولات الدولية، وعلى رأسها محكمة الجنايات الدولية.
5- السعي للحصول على الاعتراف بدولة فلسطين على حدود سنة 1967، وبعاصمتها القدس الشرقية، وخصوصاً من طرف دول الاتحاد الأوروبي التي لم تعترف بعد، وذلك على ضوء التغييرات الإيجابية للرأي العام في أوروبا.
6- توسيع دائرة التعاون مع الأحزاب والحركات السياسية والمنظمات الشعبية ومؤسسات المجتمع الدولي إقليمياً وقارّياً ودولياً، وذلك لحشد أكبر دعم لعزل سلطة الاحتلال وتعزيز تدويل القضية الفلسطينية.
7- داخلياً:
أ – إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، جوهرياً وليس شكلياً، إذ إن ذلك يُشكل نقطة ارتكاز للاستراتيجيا الفلسطينية.
ب – استمرار بناء مؤسسات الدولة وتعزيز صمود أبناء الشعب الفلسطيني، وتعزيز وتقوية المقاومة الشعبية السلمية.
في ضوء ما سبق، يتضح بشكل جليّ أن قرار الحكومة المذكور هو محاولة للاستفادة من المنتدى من أجل إقناع دول الإقليم بحقوق الشعب الفلسطيني، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، ولقد تم تثبيت هذا في الميثاق، فالدول الأعضاء تعترف بحقوق الأطراف الأُخرى في حدودها ومواردها، وفي تمكينها من الاستفادة منها. كما طُلب من الدول التي شاركت في الاجتماع دعم تطوير مشروع “غزة مارين”، وقد أقرّت كلها بذلك، بما فيها إسرائيل، وبالتالي تُعدّ مسألة انضمام فلسطين رسمياً إلى منتدى غاز المتوسط خطوة مهمة إلى الأمام من أجل اعتراف هذه الدول بحقوق الشعب الفلسطيني في موارده وتطويرها، ثم القدرة على استغلالها.[17]
مثالب انضمام فلسطين إلى منتدى الغاز
إشكاليات إقليمية
إن حقول الغاز الإسرائيلية والقبرصية والمصرية المكتشفة حتى الآن من شأنها أن تُحدث تغييراً في خريطة المنطقة، ومعادلة الطاقة التي فيها، كما أنها تتقاطع مع المنافسة العالمية في سوق الغاز، ولا سيما على السوق الأوروبية التي تمدها روسيا بالغاز، والتي دخلت تركيا على خطّها من خلال خط الأنابيب الجديد (ترك – ستريم) الممتد إلى تركيا.[18] ولا ننسى طبعاً المساعي التركية لضمان حقوق قبرص الشمالية (التركية)، وقيام تركيا بالفعل بعمليات بحث وتنقيب في البحر الأبيض المتوسط منذ آذار / مارس 2019، وفي مناطق متعددة حول جزيرة قبرص، علماً بأن تركيا لا تعترف باتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص، وتقول إن لها حقوقاً في بعض قطاعات المنطقة الاقتصادية التابعة لقبرص اليونانية، وإن ثمة حقوقاً لقبرص التركية في بعض قطاعات المنطقة الاقتصادية التابعة لقبرص اليونانية.[19]
كما أن حالة الاستقطاب والصراع في شرق البحر الأبيض المتوسط أخذت بعداً جديداً مع التدخل العسكري التركي في ليبيا، والذي استند إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الليبية – التركية، فضلاً عن تزايد احتمالات اندلاع المواجهة التركية – اليونانية، وهو ما قد يستدرج بعض الدول الأوربية المعنية كفرنسا وإيطاليا إلى الدخول على خط المواجهة.[20]
وفي خضم هذه الحالة من احتدام الصراع في شرق البحر الأبيض المتوسط، تنظر تركيا إلى منتدى غاز شرق المتوسط على أنه مؤامرة أو تحالف ضدها لإخراجها من معادلة الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.[21] ومن هنا، يبرز بعض المخاوف والشكوك المرتبطة بانضمام فلسطين إلى منتدى غاز المتوسط لأنه سيكون بمثابة اصطفاف فلسطين إلى جانب المحور المصري المفترض ضد المحور التركي بشكل أو بآخر، والذي ربما يكون له تبعات سلبية على القضية الفلسطينية. فالدعم التركي لفلسطين يتوزع بين منح مالية، وإعفاءات جمركية على عديد الصادرات الفلسطينية، ومئات المنح الدراسية، كما أنه في أيار / مايو 2017 أعلن سفير فلسطين لدى تركيا ، فائد مصطفى، تقديم هذه الأخيرة منحة إلى خزينة السلطة بقيمة 10 ملايين دولار. ومن أبرز المشاريع التي دعمتها تركيا خلال الأعوام السابقة، افتتاح مقارّ لجمعيات إغاثية وخيرية تدعم عدة مشاريع إغاثية تمولها الحكومة التركية، ومن أبرزها مؤسسة الإغاثة الإنسانية (IHH)، وجمعية ياردم إلي، بالتنسيق مع وكالة التعاون والتنسيق (تيكا) التابعة للحكومة التركية، عدا توقيع الاتفاقيات الاقتصادية بين البلدين،[22] فضلاً عن العديد من مواقف تركيا المساندة للحقّ الفلسطيني في المحافل الإقليمية والدولية.
وفي الوقت نفسه، من الممكن أن يتم استغلال هذا الانضمام الفلسطيني إلى منتدى غاز المتوسط لخدمة المصالح الإسرائيلية المتعددة اقتصادياً وسياسياً، وذلك من خلال تعزيز مكانة إسرائيل في مجال الطاقة عالمياً، والمساعدة في عملية دمجها في المنطقة، فضلاً عن إضفاء نوع من الشرعية على تصدير الغاز الإسرائيلي إلى بعض الدول العربية – مصر والأردن – ومن المحتمل فيما بعد إلى دول خليجية.[23]
إشكاليات وعراقيل إسرائيلية
في الاجتماع الأخير للمنتدى، أطلق وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينيتس تصريحات فحواها أن إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية بدأتا مفاوضات بشأن إمكان أن تشتري السلطة الغاز الإسرائيلي، ملمحاً كذلك إلى تطوير مشترك لحقل “غزة مارين”، وتم نفي الخبر من جانب محمد مصطفى، رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني والمكلف من الرئيس الفلسطيني برئاسة الوفد المشارك في اجتماعات المنتدى، إذ قال: “إن تطوير حقل غزة لن يكون بشراكة مع طرف إسرائيلي، وإن الهدف هو استغلال الغاز الفلسطيني لتلبية الاحتياجات الفلسطينية.”[24]
بناء عليه، يمكن القول إنه من الممكن أيضاً، ألّا يوجد ضامن يمنع دولة الاحتلال الإسرائيلي من ممارسة سياساتها المعرقلة في هذا الملف حتى بعد انضمام فلسطين إلى منتدى غاز شرق المتوسط، وبالتالي يصبح قرار الانضمام إلى المنتدى خالي المضمون وشكلياً فقط، بل يشكل عبئاً إضافياً على كاهل القيادة الفلسطينية، إذ سيتم استغلال عضويتها في المنتدى لتحقيق أهداف الأطراف الأُخرى من دون فائدة حقيقة لها.
وفي هذا الجانب يوضح رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني القضية فيقول: “نحاول الاستفادة من المنتدى من أجل إقناع دول الإقليم بحقوقنا، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وقد ثبتنا في الميثاق أن الدول الأعضاء تعترف بحقوق الأطراف الأُخرى في حدودها ومواردها، وتمكينها من الاستفادة منها، حيث طُلب من الدول التي شاركت في الاجتماع الأخير دعم تطوير مشروع ‘غزة مارين’ وأقرّوا بذلك بما فيهم إسرائيل. القادم هو خطوات عملية وهذا يتطلب تسهيلات إسرائيلية. خطونا خطوة مهمة إلى الأمام باعتراف هذه الدول بحقوقنا في مواردنا وتطويرها، واستراتيجيتنا هي الاستفادة من جميع ما ورد في هذا الميثاق للانتقال من مرحلة المطالبة إلى مرحلة المباشرة في تطوير المشروع.”[25]
ولتفنيد ما ورد من تحفظات على قرار الانضمام، يمكن القول: فيما يتعلق بالإشكال الإقليمي، فإن قرار الحكومة الفلسطينية بالانضمام إلى منتدى غاز المتوسط هو خطوة بديهية في عالم السياسة الواقعية التي تُعتبر الأساس الذي تنطلق منه أغلبية الدول والأطراف الأُخرى في العلاقات الدولية، ذلك بأن من أهم مرتكزات الواقعية السياسية مبدأ المصلحة الوطنية الذي من المفترض أن يسعى كل طرف في المجال الدولي للمحافظة عليها وتعظيمها بشتى السبل. علاوة على هذا، فإن لتركيا الحق في أن تنسج مواقفها وتحالفاتها من أجل الحفاظ على مصالحها الوطنية وتعظيمها، غير أن العلاقات الطيبة التي نسجتها مع سورية والسعودية ومصر ولبنان بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في سنة 2002 لم تدم سوى فترة محدودة، وما لبثت أن تبدلت بسبب ما يُسمى بالربيع العربي، وانقلبت رأساً على عقب. فقد تدخلت أولاً في الشأن الداخلي السوري معتبرة الحرب في سورية شأناً داخلياً تركياً كي تبرر تدخلها، كما انقلبت تجاه مصر رأساً على عقب بُعيد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، ووصلت إلى درجة وصفت فيها ثورة 30 حزيران / يونيو بالانقلاب العسكري.[26]
ومع أن تاريخ علاقات تركيا بالكيان الصهيوني متذبذبة، إلّا إنها لم تصل إلى درجة القطيعة، فتركيا كانت من أوائل الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل في سنة 1949، كما أنها لم تتردد في أن تعيد تطبيع العلاقات مع إسرائيل في 27 / 6 / 2016 بعد حادثة سفينة “مافي مرمرة” التي قامت فيها قوات الكوماندوس البحري الإسرائيلي بقتل تسعة أتراك على متن السفينة في عرض البحر في 31 أيار / مايو 2010 لمنع ما عُرف بأسطول الحرية من الوصول إلى سواحل قطاع غزة، وذلك مع أن كسر الحصار عن قطاع غزة كان شرطاً مركزياً من شروط تركيا لإعادة تطبيع العلاقات، وهو ما لم يتحقق من جانب إسرائيل.[27]
كذلك، فإن من حق الأطراف الأُخرى أيضاً أن تحافظ وتعظّم من مصالحها الوطنية بالأسلوب والشكل اللذين تراهما ملائمَين. وفضلاً عن ذلك، فإن مسألة الدعم الاقتصادي لا تُعتبر عاملاً ثابتاً في العلاقات الدولية، ذلك بأن هذا الدعم يخضع لعوامل التغير والتبدل بتغير مصالح الدول، وبتبدّل سياساتها الخارجية، وحتى الداخلية.
أمّا فيما يتعلق بإشكالات الاحتلال الإسرائيلي وعراقيله، فمن المعلوم أن القيادة الفلسطينية اتخذت من الساحة العالمية والقانون الدولي ميداناً للعمل في إطار استراتيجيتها بتدويل القضية، فبعد اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين عضواً مراقباً في 29 / 11 / 2012،[28] أتيح لهذه الأخيرة الانضمام إلى المنظمات والاتفاقيات الدولية كعضو كامل العضوية على قدم المساواة مع سائر الدول، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والذي يشكل الأساس القانوني لترسيم الحدود البحرية بين الدول.[29] وبناء عليه، سعت وزارة الخارجية لتحديد إحداثيات الحدود البحرية الفلسطينية، سواء للمياه الإقليمية أو المتاخمة أو المنطقة الاقتصادية الخالية، من خلال مبادرة فلسطين إلى ترسيم حدودها البحرية وتعيين نقاط إحداثياتها، وقد أودعتها لدى الأمين العام للأمم المتحدة في 31 آب / أغسطس 2015، وتشمل 12 ميلاً من المياه الإقليمية، تليها 24 ميلاً من المنطقة المتاخمة، ثم 200 ميل من المنطقة الاقتصادية الخالصة، مرفقة بخريطة تشمل المناطق الثلاث. كما طلب الرئيس محمود عباس من الأمين العام توزيعها على الدول الأعضاء وفقاً للإجراءات المرعية كي يتسنّى لأي من الدول المشاركة لفلسطين في الحدود من الاعتراض، وبالتالي الدخول في مفاوضات لاتفاق ثنائي على ترسيم الحديد، ومنذ ذلك الحين حتى الآن، لم تعترض أي دولة، وتحديداً: مصر، وإسرائيل، وقبرص.[30]
صحيح أن عدم اعتراض إسرائيل على الخطوة الفلسطينية ليس من باب الإقرار والاعتراف بالحدود الفلسطينية على ما يبدو، وإنما هو نابع عدم اعتراف بها من الأساس. غير أنه يمكن اعتبار قرار انضمام فلسطين إلى منتدى غاز شرق المتوسط خطوة بالغة الأهمية تنسجم مع جهود القيادة السياسية لرفع يد الاحتلال الإسرائيلي عن الغاز الفلسطيني، وذلك من خلال إلزامه بما ورد في ميثاق المنتدى الذي وافقت عليه الدول الأعضاء، فالدول الأعضاء تعترف بحقوق الأطراف الأُخرى في حدودها ومواردها، وبتمكينها من الاستفادة منها، كما طُلب من الدول دعم تطوير مشروع “غزة مارين”، وقد أقرّت كلها بذلك، بما فيها إسرائيل نفسها.
أمّا فيما يتعلق بمسألة استغلال الوجود الفلسطيني في المنتدى كذريعة للتطبيع مع إسرائيل، فكلام مرسل وبعيد كل البعد عن الواقع والمنطق، إذ لا يخفى على أحد أن جميع الدول الأعضاء في منتدى غاز المتوسط تربطها علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، سواء قبرص أو اليونان أو إيطاليا، أو حتى الدول العربية في المنتدى مثل مصر والأردن اللتين تربطهما معاهدات سلام وتمثيل دبلوماسي كامل، وليستا بحاجة إلى وسيط من أجل تسهيل أو شرعنة التعامل مع دولة إسرائيل.
خاتمة
في ضوء ما ورد من أفكار ومعلومات، يمكن القول إن قرار الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد اشتيه الموافقة على انضمام فلسطين إلى منتدى غاز شرق المتوسط رسمياً ورفعه إلى الرئيس عباس للمصادقة هو قرار صائب ومنسجم مع القرارات والسياسات السابقة للقيادة الفلسطينية لتنفيذ رؤيتها الاستراتيجية المعلنة منذ سنة 2015 على الأقل، بشأن تدويل القضية ، وذلك لاستثمار العمل في المحافل والمنظمات الدولية والقانون الدولي من أجل إحقاق الحقوق الوطنية الفلسطينية، وصولاً إلى إقامة الدولة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف، وهذا بعد انهيار عملية التسوية السلمية وتوقّف مفاوضات الحل النهائي مع الجانب الإسرائيلي منذ أعوام.
المصادر:
[1] محمود مجادلة، “دونالد ترامب يعلن بنود ‘صفقة القرن’ “، موقع “عرب 48” الإلكتروني، 28 / 1 / 2020: https://www.arab48.com/
[2] تقرير “منتدى غاز شرق المتوسط بالقاهرة.. الدول المشاركة والأهداف”، موقع “سكاي نيوز عربية” الإلكتروني، 14 / 1 / 2019: https://www.skynewsarabia.com/
[3] حسن هريدي، “ننشر أهداف منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF)”، موقع جريدة “أخبار اليوم” الإلكتروني، 14 / 1 / 2019: https://akhbarelyom.com/
[4] مركز رؤية للتنمية السياسية، “منتدى غاز المتوسط: المشاركة الفلسطينية بين الحقوق والشكوك”، سلسلة المشهد الفلسطيني، 3 / 2 / 2020، ص 4.
[5] جعفر صدقة، “منتدى غاز شرق المتوسط: ساحة مواجهة جديدة لتثبيت الحقوق الفلسطينية”، 10 / 3 / 2020، موقع وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية “وفا”، في الرابط الإلكتروني.
[6] إسراء دعاس وحنين شعت ولينة أبو خبيزة، “نحو سياسات لتحرير الغاز الفلسطيني في مياه قطاع غزة”، برنامج 10 / 6 / 2020 (التفكير الاستراتيجي وإعداد السياسات)، الدورة السادسة 2019 / 2020، ص 5، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، في الرابط الإلكتروني.
[7] الموسوعة الإلكترونية “ويكيبيديا”، “حقل غزة مارين للغاز”، في الرابط الإلكتروني.
[8] صدقة، مصدر سبق ذكره.
[9] الأرقام الواردة مستقاة من تقرير سلطة الطاقة والموارد الطبيعية الفلسطينية لسنة 2018، ص 19، في موقع سلطة الطاقة في الرابط الإلكتروني.
[10] المصدر نفسه.
[11] المصدر نفسه.
[12] صدقة، مصدر سبق ذكره.
[13] Simon Henderson, “Natural Gas in the Palestinian Authority: The Potential of the Gaza Marine Offshore Field”, The Washington Institute for Near East Policy, Policy analysis, The German Marshall Fund of the United States, 28 March 2014, p. 4.
[14] دعاس وشعت وأبو خبيزة، مصدر سبق ذكره، ص 3.
[15] صدقة، مصدر سبق ذكره.
[16] صائب عريقات، “الاستراتيجية الفلسطينية: تدويل القضية”، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، 21 / 9 / 2015، في الرابط الإلكتروني.
[17] صدقة، مصدر سبق ذكره.
[18] “الغاز الروسي يصل إلى أوروبا عبر تركيا”، “سكاي نيوز عربية”، 5 / 1 / 2020، في الرابط الإلكتروني.
[19] محمد منصور، “شرقي المتوسط: مواجهة عسكرية قريبة”، قناة “الميادين” الفضائية، 21 / 10 / 2019، في الرابط الإلكتروني.
[20] مركز رؤية للتنمية السياسية، مصدر سبق ذكره، ص 9.
[21] انظر: “منتدى غاز المتوسط تصفه بالمؤامرة”، برنامج “الحصاد الإخباري”، قناة “الجزيرة” الفضائية في موقع يوتيوب، 17 كانون الثاني / يناير 2020، في الرابط الإلكتروني.
[22] يحيى عياش، “هكذا تساهم تركيا في دعم الميزانية الفلسطينية (أرقام)”، “عربي 21″، 12 / 1/ 2018، في الرابط الإلكتروني.
[23] مركز رؤية للتنمية السياسية، مصدر سبق ذكره، ص 10.
[24] صدقة، مصدر سبق ذكره.
[25] المصدر نفسه.
[26] المصدر نفسه.
[27] محمد نور الدين، “تحالفات تركيا”، صحيفة “الخليج”، رأي ودراسات، 2 / 6 / 2018، في الرابط الإلكتروني.
[28] “أسطول الحرية 1″، “الجزيرة نت”، 30 / 6 / 2015، في الموقع الإلكتروني.
[29] انظر: موسوعة “ويكيبيديا” في الموقع الإلكتروني.
[30] صدقة، مصدر سبق ذكره.
رابط المصدر: