د. توفيق أكليمندوس
تنفّس قادة العواصم الغربية وغيرهم الصعداء بعد فوز الرئيس ماكرون بولاية ثانية فوزًا واضحًا. صحيح أن الفارق بينه وبين مرشحة اليمين الراديكالي مارين لوبن أصغر مما كان عليه سنة ٢٠١٧، ولكنه أكبر مما توقعه المراقبون، لم تفاجئ هذه النتيجة المحللين، لأنها جاءت تؤكد الديناميكية التي أبرزتها استطلاعات الرأي. فمنذ اليوم التالي للجولة الأولى الفارق بين المرشحين يكبر يوميًا، من ٥١/٤٩ يوم الاثنين ١١ إبريل، إلى ٥٨ ونصف/٤١ ونصف يوم ٢٤؛ مما دفع المراقبين إلى التروي، وإلى التحذير من مفاجأة، هو احتمال تغيير الممتنعين عن التصويت لرأيهم والذهاب لانتخاب أحد المرشحين، والشكوك حول خيارات وسلوك الكتلة الضخمة التي انتخبت في الجولة الأولى مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون الذي احتل المركز الثالث يوم ١٠ إبريل، فهذا التيار حارب ماكرون بشراسة طوال ولايته الأولى، ويكرهه كراهية تحريم، ولكنه يجد صعوبات فكرية وأيديولوجية بالغة في انتخاب مرشحة تنتمي إلى عائلة كانت -وما زالت- رمز اليمين المتطرف حتى لو كان برنامجها الاجتماعي جذابًا للفقراء وللبرجوازية الصغيرة، وفي الواقع منح أكثر من ٤٠٪ من ناخبي ميلانشون أصواتهم للرئيس، وامتنع أكثر من ٣٥٪ عن التصويت.
وعلى العموم فإن أكثر من ٢٨٪ من المقيدين على جداول الانتخابات امتنعوا عن التصويت، أي فوق ١٣ مليونًا ونصف المليون ناخب، وأبطل أكثر من ٢ مليون ناخب أصواتهم متعمدين. وإضافة إلى ذلك اعتبر ٩٠٠ ألف صوت باطلين، أي رفض ثلث الناخبين اختيار أحد المرشحين، وهذه النسبة المرتفعة تشير إلى أزمة حادة في النظام الديمقراطي الفرنسي. فهذا النظام يعتمد على نظام انتخابي يقر النظام الفردي وجولتين من التصويت، وهو نظام يسهل الحصول على أغلبية برلمانية، ولكنه لا يضمن تمثيلًا عادلًا لكل التيارات. فعلى سبيل المثال، يمكن مقارنة نتائج لوبن وميلانشون في انتخابات الرئاسة سنة ٢٠١٧ وتمثيل حزبيهما في مجلس الأمة.
جاءت النتيجة لتؤكد الانقسام الشديد في المجتمع الفرنسي، في اختصار يعيبه التبسيط هناك على الأقل ثلاث مجتمعات في فرنسا؛ المدن الكبيرة التي استفادت من العولمة، والمدن المتوسطة والصغيرة والقرى التي همشتها العولمة والتي تسبب انهيار بعض قطاعات الصناعة في إفقارها وتهميشها، والضواحي الفقيرة والمهمشة. ومع التبسيط، تميل الأولى إلى انتخاب ماكرون ويليه ميلانشون، وتنتخب المجموعة الثانية لوبن، والثالثة ميلانشون. فعلى سبيل المثال، حصل الرئيس على ٨٥٪ من الأصوات الصحيحة في باريس.
بعض الأرقام ستوضح ما يتم التطرق له عن الانقسام، ففي المدن التي يسكنها أكثر من مئة ألف حصل ماكرون على ٦٥٪ من الأصوات، وفي غيرها من المدن والقرى حققت لوبن ٥٢٪. وكلما كان محل الإقامة بعيدًا عن مدينة كبيرة ارتفع التصويت للوبن (لأن الحصول على خدمات الدولة من تعليم وصحة يقل والتهميش يزيد)، أكثر من ٦٥٪ من كبار السن (من هم فوق الـ٦٥) انتخبوا ماكرون، وأكثر من ٤٠٪ من الشباب (١٨/٢٥) امتنعوا، و٦٦٪ ممن ذهبوا انتخبوا ماكرون، ٧٦٪ من الميسورين انتخبوا ماكرون، وفضّل ٥٦٪ من الفقراء انتخاب لوبن، و٧٠٪ من حاملي الشهادات العليا أعطوا أصواتهم لماكرون، و٦٥٪ من العمال لوبن. ورغم فوز الرئيس ماكرون الواضح فإن المشهد ما زال ضبابيًا.
هناك انتخابات تشريعية في يونيو القادم وعلى الرئيس أن يحصل على أغلبية إن أراد الحكم وفقًا لتصوراته، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن أكثر من نصف الناخبين يفضلون ألا يعثر الرئيس على أغلبية، فهم لا يثقون فيه ويعلمون أنه لن يستطيع ترشيح نفسه سنة ٢٠٢٧، أي إن الرأي العام لن يقيده كثيرًا فلا هموم انتخابية لديه، وقد يكون متعجلًا في فرض تصوراته لترك بصمته، ومشهد الانتخابات التشريعية بالغ التعقيد، فالأحزاب التقليدية (الجمهوريون والاشتراكيون وبدرجة أقل الشيوعيون) لديهم تواجد مناطقي قوي جدًا، وشبكة أعيان فعالة جدًا. هم عجزوا معًا عن الحصول على ١٠٪ من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ولكن منطق الانتخابات التشريعية مختلف. وفي المقابل، أول ثلاثة في الانتخابات الرئاسية يعانون من عدم التجذر في الأقاليم، وبالتالي يحتاجون إلى بناء تحالفات مع الأحزاب التقليدية، ومشكلة الرئيس أنه يحتاج إلى أصوات من هم على يمينه وعلى يساره، ومن الصعب كتابة برنامج يُرضي الطرفين، وتشكيل فريق يلقى تأييدهما.
من جهة أخرى فإن مشكلة لوبن ألا أحد يريد التحالف معها باستثناء زيمور وهي رافضة له، ولذلك من المستبعد حصولها على أغلبية، وأقرت هي بهذا عندما قالت إنها ستتزعم المعارضة، ولكنّ تمثيلًا برلمانيًا محدودًا جدًا لحزبها كما حدث في ٢٠١٧ سيقلل من شرعية النظام.
الوضع أقل صعوبة فيما يتعلق بميلانشون ولكنه معقد جدًا نظرًا لسوء علاقاته الشخصية مع قادة أحزاب اليسار، وأعتقد أن الأحوال الحالية غير مواتية لنصر تحالف يساري، فتوجهات الرأي العام يمينية فيما يتعلق بالأمن والإرهاب والهجرة والعلاقات الدولية ويسارية فيما يتعلق بالاقتصاد والقضايا الاجتماعية، أي إن تدهور الوضع الدولي ليس في صالحه، ورغم هذا فقد أعلن ميلانشون أنه سيحاول الحصول على أغلبية، وهذا يقتضي تحالفات نراها بالغة الصعوبة، ويخلق انطباعًا بأنه ينكر نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية.
وقد أشارت تقارير صحفية إلى أن هناك اتفاقًا بين ماكرون والرئيس السابق ساركوزي يضمن للأول تأييد جزء كبير من الجمهوريين مقابل ترك عدد من الدوائر لهم، والسؤال: هل يستطيع ساركوزي إقناع الجمهوريين بهذه الصفقة وهم في حالة غضب شديد منه بعد تقاعسه عن تأييد مرشحتهم للرئاسة بيكريس؟ سيتوقف الرد على عوامل كثيرة، منها سخاء العرض، وتصور الفرقاء لحقيقة موازين القوة. وقد تلعب الضائقة المالية للحزب الذي فوجئ بعجز بيكريس عن تخطي نسبة ٥٪، وهي شرط لتمويل الدولة لحملتها، دورًا في حسم خيارات أقطابه. والأمر نفسه ينطبق على الاشتراكيين والخضر.
رغم وضوح نتيجة الانتخابات إلا أن ما يزيد على ٤٠٪ ممن انتخبوا الرئيس ماكرون فعلوها لمنع لوبن من الوصول إلى الرئاسة، ويقولون صراحة إنهم لا يحبون الرئيس ولا توجهاته، ويزيد من الطين بلة كون الرئيس لم يقدم برنامجًا واضحًا. والنقطة الوحيدة الواضحة نسبيًا في برنامجه (ضرورة إصلاح نظام المعاشات) تلقى رفضًا جماهيريًا كبيرًا. ما أقصده أن كلام المعارضين الذاهب إلى أن الرئيس لم يحصل على ولا يملك أي تفويض لفرض أو خوض إصلاحات سيلقى صدي كبيرًا لدى الرأي العام، ويعني هذا الوضع أن الرئيس سيضطر إما إلى إجراء حوار موسع قبل أي إصلاح، في بلد لم يعرف -على عكس ألمانيا مثلًا- بناء التحالفات ولا ثقافة الحلول الوسطى، وإما إلى التمرير بالقوة على مخاطر هذا في بلد لها ثقافة احتجاجية كبيرة والتي شهدت انتفاضة “السترات الصفراء”. وطبعًا لا نستطيع التعميم ولا نتسرع في التنبؤ، ولكن الأرجح أن الرئيس سوف ينجح في بعض الملفات ويفشل في غيرها (على فرض أنه حصل على أغلبية برلمانية وهو ما نرجحه).
هناك تعبير فرنسي غير مقبول، ولكنه يشير إلى حقيقة، يفيد بأن “دائرة العقل” تصارع “دائرة التطرف”، والحديث عن “عقلاء” و”متطرفين” أدق وأصدق، والمقصود أن هناك أحزابًا تمتلك ثقافة الحكم وإدارة الملفات وتدرك حقائق الاقتصاد ومقتضيات الأمن والموازين العالمية، وأحزابًا أخرى لها ثقافة احتجاجية قائمة على النزول إلى الشارع والجعجعة، وهي أحزاب تقدمت في الانتخابات ببرامج تثير الذهول. المشكلة أن قاعدة تأييد “دائرة العقلاء” تضيق مع كل انتخابات، وفي الجولة الأولى من الانتخابات جمع المرشحون المنتمون إلى دائرة التطرف ما لا يقل عن ٥٧٪ من الأصوات وغالبًا أكثر (سيختلف المراقبون على تقييم الخضر والاشتراكيين وفي أي دائرة يقعون)، أي إن الرئيس شأنه شأن سلفه يمثل أقلية تحكم لعجز المتطرفين عن التحالف معًا، وهو عجز لن يتغير في المستقبل المنظور. وفي المقابل، يمكن القول إن قاعدته الانتخابية أكثر تنوعًا من قاعدة كلٍّ من لوبن وميلانشون.
من المتوقع في ضوء ما سبق أن يحصل أنصار الرئيس وحلفاؤهم على أغلبية برلمانية مريحة، رغم عدم ارتياح أغلبية الفرنسيين للفكرة. والسؤال المطروح هو عن علاقات القوة داخل التحالف المؤيد له.
قال الرئيس لصحفيين إنه سيعطي نفسه مهلة للتفكير وللإعلان عن اسم رئيسة أو رئيس وزرائهم وعن تشكيل حكومته، ويجتهد المعلقون في محاولات لتخمين اسم الأولى أو الأول. من يرى أن الرئيس سيختار من يجيد فن الحوار مع الفرقاء، وهذا يدفع وزيرة العمل السيدة إليزابيث بورن إلى المقدمة، ومن يرى أنه سيختار كفاءة اقتصادية تؤمن بالليبرالية وتُطَمْئِنُ العالم، ويشيرون إلى اسم كريستين لاجارد محافظة البنك المركزي الأوروبي. وهناك من يرى أن خريطة التصويت تثبت أن ناخبي اليمين مع ماكرون، وأنه لا يحتاج إلى تطمينهم، وأن تعيين شخصية تنتمي إلى وسط اليسار أفضل لكسب ود أكبر قدر من ناخبي اليسار، ويطرحون عددًا من الأسماء من بينها سياسيون وشخصيات من المجتمع المدني. وأخيرًا هناك من يقترح اسم وزير المالية الحالي اليميني برونو لومير الذي أبلى بلاءً حسنا، ولكن الرئيس قال إنه سيغير من أسلوبه ومن محتوى سياساته، وسيسعى إلى توحيد الفرنسيين. إن كان هذا الكلام جادًا يبدو لي أن لومير لن يكون رئيس الحكومة.
هناك جدال في أروقة الحزب الحاكم حول فكرة رفع المرتبات والإعانات قبل الانتخابات التشريعية، وهذا يستوجب استدعاء البرلمان الحالي، وهناك من يرى أن الحصافة تقتضي انتظار انتخاب البرلمان الجديد وتشكيل الحكومة، وفي النهاية فإن الاحتقان والتوتر لن يختفيا، وماكرون يدرك هذا فقال مساء الأحد، لن تكون السنوات القادمة هادئة، ولكنها ستكون تاريخية.
.
رابط المصدر: