زينب شُكر
تُعَدُّ الهجرة بسبب تَغَيُّرْ المناخ مشكلة ناشئة وغير مفهومة تماماً. وأشارت التقارير الصادرة عن مركز مراقبة النزوح الداخلي إلى أن الكوارث والظروف الجوية القاسية تسببت في أكثر من 50% من عمليات النزوح الداخلي حول العالم خلال عام 2021؛ أي نحو 23.7 مليون نازح بسبب الكوارث. ويُعَرّفُ المهاجرون بسبب تَغَيُّرْ المناخ على أنهم الأفراد -أو المجموعات- الذين يضطرون لترك منازلهم المعتادة بسبب تَغَيُّرْ مفاجئ أو تدريجي في البيئة يؤثر بشكل سلبي في حياتهم أو ظروفهم المعيشية.
وكشف بحث مؤخراً أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُعَدُّ أكثر المناطق عرضة للتأثيرات المادية لتَغَيُّرْ المناخ، الأمر الذي يضع أسباب عيش البشر ونشاطاتهم وقدرة الدولة على التكيف عرضة لمخاطر كبيرة. وتنطوي عملية استكشاف العلاقة بين التراجع البيئي والنزوح على أهمية خاصة، حيث يتعين وضع التفاعل بين الظروف المناخية السيئة والقيود الهيكلية الموجودة أصلاً في مناطق لم تخضع للكثير من الدراسة ضمن أولويات البحث المستقبلي.
وتتناول هذه الورقة العلاقة بين النزوح الداخلي والتراجع البيئي مع تركيز خاص على حالة العراق. وبحسب المبادئ التوجيهية للنزوح الداخلي، فإن النازحين الداخليين هم “الأشخاص أو الجماعات الذين أُكرهوا على الهرب أو ترك منازلهم أو أماكن إقامتهم المعتادة أو اضطُّروا إلى ذلك، لاسيما نتيجةً أو سعياً لتفادي آثار نزاع مسلح أو حالات عنف عام أو انتهاكات حقوق الإنسان أو كوارث طبيعية أو كوارث من فعل البشر، ولم يعبروا الحدود الدولية المعترف بها للدولة.” وتشكل الأحداث المرتبطة بالمناخ من بين العوامل الرئيسة، التي يزداد تأثيرها، للنزوح الداخلي.
الاتجاهات في الشرق الأوسط
يُعَدُّ النزوح قضية كبرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجود نحو 12 مليون نازح، من بينهم 5 ملايين طفل نتيجة للصراعات. ويُعَدُّ النازحون أكثر عرضة لمواجهة مزيد من الصراعات والعنف إلى جانب معدلات وفيات مرتفعة نظراً لانعدام المأوى والغذاء والموارد المناسبة. كما تُعَدُّ النساء والأطفال وأصحاب الهمم والأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات فقيرة أصلاً أكثر عرضة للنزوح والتعرض لمزيد من الصعوبات بسبب محدودية الشبكات وموارد الدولة المخصصة لهم. ويُعَدُّ الأطفال بشكل خاص في موقف ضعيف لأنهم أكثر عرضة للإساءة والعنف والاستغلال.
وعادة ما يجد النازحون أنفسهم في وضع “التهميش المضاعف”، نظراً لعدم القدرة على تلبية احتياجاتهم من جانب دولتهم، ما يضطرهم للهجرة إلى مكان جديد. وأشار تقرير مركز مراقبة النزوح الداخلي لعام 2019 إلى أن معدل الكلفة الاقتصادية المباشرة السنوية للنازح الواحد تصل إلى 310 دولار استناداً إلى دراسة حالات في ثماني دول نامية. ويراوح معدل الآثار الاقتصادية السنوية المرتبطة بالنزوح الداخلي بين 1%-11% من الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة بناء على عدد النازحين، ومستوى الأزمة، وطول مدة النزوح. وخلصت منظمة الصحة العالمية إلى أن الدول ذات الدخل المتدني عُرضة بشكل خاص للنزوح، حيث تقدر التكاليف الاقتصادية المباشرة لرعاية النازحين بنحو 2.4 مليار دولار، أو نحو نصف النفقات الحكومية الإجمالية على الصحة عام 2017. ووصلت التكاليف الاقتصادية للنزوح الداخلي عام 2020 إلى نحو 20.5 مليار دولار، وهو رقم لا يشمل التكاليف بعيدة الأمد التي ستتكبدها المؤسسات الاقتصادية.
وتُعَدُّ هذه التكاليف أعلى في الدول الأكثر ضعفاً مثل الصومال، حيث أن نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدولة عرضة للمخاطر بسبب النزوح. ونتيجة لذلك ينطوي النزوح الداخلي واللجوء على تكاليف مباشرة كبرى إلى جانب تكاليف غير مباشرة، الأمر الذي يُشَكِّل دورة لا تنتهي من العرضة للمخاطر والنزوح.
وتُعَدُّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عرضة بشكل خاص لتقاطع الصراعات والنزوح لأسباب بيئية. وأدى تصاعد الصراع في سورية وليبيا وفلسطين عام 2020 الى نزوح 2.1 شخص جديد لأسباب ترتبط بالنزاع والعنف، إضافة إلى نزوح 341,000 شخص بسبب الكوارث. وتشهد سورية، على سبيل المثال، حالة من الصراع والعنف الذي يحد من قدرة الأشخاص على التكيف مع الظروف المناخية المتغيرة. كما ساهم استخدام الأسلحة والمواد السامة ضد السكان في تدهور الظروف المناخية. كما يُعَدُّ اليمن مكاناً آخر خطراً، حيث يعيش 75% من سكان البلاد في مناطق ريفية ويعتمدون كثيراً على الظروف المناخية المستقرة للحفاظ على أسباب عيشهم. وأدى التفاعل بين الصراع والمناخ منذ تصاعد الصراع في اليمن قبل 7 سنوات إلى أزمة إنسانية جعلت من البلاد مكاناً لأحد أهم أزمات النزوح الداخلي في العالم.
العراق بوصفه حالة خاصة
في الوقت الذي تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا برمتها ضغوطاً إضافية ناجمة عن التراجع البيئي بسبب المستويات المرتفعة للصراع وعدم الاستقرار، يُمثِّل العراق حالة خاصة؛ فقد أدّى ضعف المؤسسات وتدهور الظروف المناخية ومحدودية أدوات التخفيف من ذلك إلى تشكيل عاصفة مثالية لمزيد من التراجع البيئي والنزوح وضعف الدولة. ويعود التراجع البيئي في العراق إلى زمن بعيد بدأ باستخدام نظام صدام حسين منطقة الأهوار في جنوب العراق أداةً للانتقام والسيطرة على المتمردين خلال انتفاضة الشيعة مطلع تسعينيات القرن الماضي. وأثَّرَ التراجع البيئي الذي تسببت به الدولة في المجتمعات التي تعيش في الأهوار، حيث نزح الكثير منهم إلى مراكز المدن القريبة، الأمر الذي أضاف إلى ضعف هذه المجتمعات الذي طالما عانت من التهميش.
وتركت أغلبية سكان الأهوار أراضيهم، حيث أصبح عشرات الآلاف منهم في عداد النازحين داخلياً في مناطق أخرى من العراق، في حين عبر أكثر من 40,000 آخرين الحدود إلى إيران للعيش في مخيمات اللجوء. وفي الوقت الذي كان فيه 250,000 من عرب الأهوار يعيشون نهاية ثمانينات القرن الماضي على مساحة 20,000 كيلومتر مربع من الممرات المائية والأهوار، تراجع هذا العدد إلى 40,000 فقط عام 2003. وكانت الأهوار في ذروتها تعد أكبر نظام بيئي حيوي من الأراضي الرطبة في الشرق الأوسط يغطي مساحة تزيد عن 10,000 كيلومتر مربع، ويدعم تنوعاً نباتياً وحيوانياً.
حافظت الأهوار على الاستقرار البيئي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من خلال تصفية النفايات والمُلوّثات الأخرى من نهري دجلة والفرات، وحماية النظام البيئي لساحل الخليج. ولعل أحد الدروس التي يُمكن أن نتعلّمها من هذه الأحداث، أن الضعف البيئي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعكس سلوكيات مشكوك فيها من قبل الحكومات والفاعلين من دون الدولة، والصراع والعنف، وقدرة الدولة المحدودة في جميع أنحاء المنطقة، حيث يكون للتدهّور البيئي في بلد ما تداعيات تتجاوز حدود ذلك البلد.
لم تُبذَل الجهود لاستعادة الأهوار والسماح بعودة السكان النازحين إلا بعد حوالي عقد من الزمن. وكانت هذه الخطط بعد عام 2003 لاستعادة الأهوار ومعالجة التدهور البيئي الناتج عن ذلك ناجحة إلى حدٍ ما. وفي حين عاد العديد من عرب الأهوار بعد جهود إحياء المنطقة، لم يتمكّن عدد كبير من النازحين من العودة، ما يدلّ على أنّه كلما طالت فترة نزوح السكان من مُجتمعاتهم، زادت صعوبة عودة الجيل الجديد إلى موطنهم الأصلي مع التغيرات في أنماط المعيشة، والمهارات المُكتسبة، والشبكات الاجتماعية الجديدة. ويوضّح هذا الأمر أيضاً أن استعادة النظم البيئية ومُعالجة التدهور البيئي وحده لن يكونا كافيين لتسهيل عودة آمنة وضمان نوعية حياة لائقة للمُجتمعات الأصليّة من دون ضمان الفرص الاقتصادية والموارد والبنية التحتية التي يُمكن أن تُلبّي بشكل كافٍ حاجات السكان الأصليين والأجيال الجديدة التي طوّرت مهارات جديدة واحتياجات جديدة كذلك.
واليوم، يواجه جنوب العراق مرة أخرى تهديدات كبيرة مُتعلّقة بالمناخ والتدهور البيئي، حيث تتعرّض البلاد لتحولات شديدة في أنماط الطقس. وعلى سبيل المثال، فقد خسر العراق على الأقل ما يقترب من 50% من ايراداته المائية السنوية من نهر الفرات، و40% من نهر دجلة خلال السنوات الأربعين الأخيرة. في عام 2022، حذّرت وزارة الموارد المائية العراقية من أن احتياطي المياه في البلاد قد انخفض إلى النصف منذ العام السابق. وفي وقت لاحق من العام نفسه، أدّت موجات الحر الشديدة، وتراجع هطول الأمطار، والعواصف الترابية الشديدة والمُتكرّرة، والملوحة إلى فقدان 60.000 فدان من الأراضي الزراعية و30.000 شجرة، ما أدّى إلى نزوح حوالي 3000 أسرة في ثماني مُحافظات.
إن تغيّر المناخ ليس العامل الوحيد الذي يُسهم في تفاقم التدهور البيئي في البلاد، بل يقترن تدهوّر الظروف المناخية بقيود هيكلية، مثل تقادُم البنية التحتية للري واهترائها، ومحدودية قدرة الدولة على التفاوض مع الدول المُجاورة مثل تركيا وإيران، ونظام صرف صحي مُنهار يتسبب بصبّ المخلفات السامة وغير الصحية مُباشرةً في النهرين الرئيسين في البلاد. علاوة على ذلك، أدّى الفساد المتغلغل في جسد الدولة إلى زيادة تأثير تغيّر المناخ، وتفاقم التدهور البيئي، وتقليل قدرة المُجتمعات المُتأثّرة على الاستجابة لهذه الظروف، ما يزيد من الهجرة الداخلية والخارجية والضغوط الناتجة عنها، وقابلية تأثّر النازحين عموماً.
وعلى سبيل المثال، في صيف 2018، شكّل تلوث المياه مُشكلة صحيّة عامة، ما أدّى إلى دخول 118 ألف شخص إلى المُستشفيات في البصرة وحدها بسبب مشكلة تتعلّق بجودة المياه، وهي مشكلة أسهمت فيها السياسات الخاطئة في إدارة الصناعة النفطية وتصريف مياه الصرف الصحي، فضلاً عن تراجع منسوب المياه في شط العرب نتيجة لثنائية التغير المناخي والسياسات المائية لدول الجوار. أخيراً، وفي حين أن تأثيرات التدهور البيئي أكثر وضوحاً في بعض المُجتمعات، بخاصة تلك الموجودة في جنوب العراق والأهوار، فإن تأثير هذه الظروف يكون محسوساً كذلك خارج هذه المُجتمعات. وهذا صحيح بشكل خاص، لأن مصدر مياه الشرب الرئيس في العراق هو نهري دجلة والفرات. ففي عام 2022، كشفت الإحصائيات العراقية الرسمية أن مستوى مياه نهر دجلة التي تدخل إلى العراق قد انخفض إلى 35% فقط من متوسّطه خلال القرن الماضي، حيث سيكون لذلك تأثير كبير على السكان ككل.
التغير المناخي والنزوح في العراق
ليس من المُستغرب، إذاً، أن يشهد العراق أزمة نزوح داخلي وهجرة بسبب تدهّور الظروف المناخية فيه. فقد أظهر تقرير صادر عن المُنظّمة الدولية للهجرة أن المنظّمة سجّلت في نهاية عام 2021 ما يقرب من 20 ألف نازح في 10 من مُحافظات العراق الـ 19 بسبب تدهور الظروف المناخية ومحدودية قدرة الدولة على الاستجابة للأزمة. وفي الوقت نفسه، وجدت دراسة أجراها المجلس النرويجي للاجئين في عام 2021 أنه في المناطق المُتأثّرة بالجفاف، أُجبرت أسرة واحدة من كل 15 أسرة على الهجرة بحثاً عن عمل. وقد شهدت مُحافظات البصرة وميسان وذي قار في جنوب العراق، أكبر عدد من عمليات النزوح الداخلي الناجمة عن المياه خلال العقد الماضي.
وأظهرت الأبحاث أن 8% من الأسر في هذه المُحافظات الثلاث تعتمد كلياً على الزراعة أو الثروة الحيوانية أو صيد الأسماك. وفي السنوات الخمس الماضية، تخلّى العديد من هذه العائلات تماماً عن الزراعة سبيلاً للعيش، حيث غالباً ما يقترن هذا الأمر بالهجرة. وفي الواقع، أفاد 20% من الأسر في جنوب العراق الذين تخلّوا عن الزراعة أن أحد أفرادها هاجر في السنوات الخمس الماضية، وهي نسبة أعلى بكثير مقارنة بالعائلات غير الزراعية. وجنوب العراق ليس المكان الوحيد المُعرّض للخطر في البلاد. فعلى سبيل المثال، في عام 2019، نزح 5,922 شخصاً في كربلاء والقادسية والمثنى والنجف وواسط من هذه المحافظات بسبب ندرة المياه وارتفاع الملوحة والتلوّث. في الوقت نفسه، وفي حين أن مناطق أخرى في العراق مُعرّضة أيضاً لخطر كبير نتيجة التدهور البيئي، لا يتوافر سوى الحد الأدنى من البيانات حول الهجرة وظروف النازحين، ما يجعل الأزمة غير واضحة المعالم. نتيجة لذلك، يُشير النزوح في العراق إلى وجود تحدّيات بيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية وديموغرافية تواجه البلاد، بخاصة عندما تقترن المسألة بعدم وجود بيانات كافية ما يجعل الحالة العراقية فريدة ومُعقّدة.
الاستنتاجات
بينما يُمكن أن يُمثّل النزوح الداخلي والخارجي مصدر تهديد للرفاهية العامة للنازحين والمُجتمعات والبُلدان، فإن النزوح المُرتبط بالمناخ يُمكن أن يكون مُقلقاً بشكل خاص. فهذا النزوح قد يُفضي إلى زيادة مُستويات الصراع والمُنافسة على الموارد نتيجة انخفاض مستويات المياه، وتقلّص مساحة الأراضي الصالحة للزراعة. ولعل أكثر أشكال النزوح شيوعاً بسبب تغيّر المناخ والتدهّور البيئي هو النزوح الداخلي، والصراع العرقي -السياسي والمُنافسة. علاوة على ذلك، وخلافاً للاعتقاد السائد، تميل الأنماط العامة للنزوح العالمي إلى أن تكون حركات محليّة بدلاً من كونها عمليات نزوح خارجية واسع النطاق، ويُمكن أن تكون طويلة الأجل وليست قصيرة الأجل، ويُمكن أن يكون للأحداث الصغيرة تأثير كبير على استقرار المُجتمع بقدر الأحداث الكبيرة. وغالباً ما تكون العودة إلى هذه المواقع مُستحيلة عند حدوث تغير بيئي بطيء أو عند وقوع كارثة واسعة النطاق.
نتيجة لذلك، لا يُمكن مُعالجة التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لمثل هذه الأحداث على السكان إلّا عبر مؤسسات حكومية قوية قادرة على تطبيق برامج فعّالة لإعادة الدمج الاجتماعي أو إعادة التوطين المخطط له. وأخيراً، فإن المناطق والبُلدان المُعرّضة للخطر، مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام، والعراق على وجه الخصوص، تُعد نقاطاً ساخنة حالية ومُستقبلية، سواء أكان ذلك بسبب الظروف المناخية المُتغيّرة بسرعة، أو تدهّور المؤسّسات الاجتماعية، أو محدودية توافر البيانات، وكل هذه العوامل تُعطي هذه المناطق الأولوية للبحث والتدخّل.
.
رابط المصدر: