سارة فوير
في 19 تموز/يوليو، وافق البرلمان المصري بصفة مؤقتة على مشروع قانون تنظيم “دار الإفتاء” – الهيئة الرئيسية في البلاد المسؤولة عن إصدار فتاوى دينية – ينص على تبعيتها لمجلس الوزراء. وإذا تم تنفيذ هذا القانون، فسيفقد الأزهر – الجامعة الدينية القائمة منذ عدة قرون والتي تعتبر على نطاق واسع المؤسسة الدينية الرائدة في التعليم الإسلامي في العالم السنّي – صلاحية الإشراف على الفتاوى. بإمكان هذه الخطوة أن تمنح الرئيس عبد الفتاح السيسي وأنصاره فوزاً كبيراً في الصراع المستمر للسيطرة على المجال الديني في مصر.
لماذا يحاول السيسي تجاوز الأزهر؟
يعود تاريخ الصراع على النفوذ بين السلطات الدينية والمدنية في مصر إلى قيام الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر، لكن الفصل الأخير من هذا الصراع بدأ عام 2012. فبعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، منح القادة المؤقتون في “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” جامعة الأزهر مسؤولية اختيار فضيلة مفتي الجمهورية في “دار الإفتاء”، وهي صلاحية كانت منوطة بالرئيس سابقاً عملاً بالإصلاحات التي جرت في الستينيات. واعتُبرت خطوة “المجلس الأعلى” كمحاولة استباقية لإعاقة جهود جماعة «الإخوان المسلمين» – التي كانت تستعد آنذاك للسيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية – لممارسة تأثير إضافي في المجالات الدينية والقانونية في مصر. وبالفعل، يقوم فقهاء تابعون لـ “دار الإفتاء” بإصدار آراء قانونية غير ملزمة بشكل روتيني استجابة لطلبات الأفراد والوكالات الحكومية والمحاكم، وبالتالي يمارسون تأثيراً كبيراً على الحياة اليومية للمصريين.
وقد رحب الأزهر بقرار “المجلس الأعلى للقوات المسلحة”؛ وفي خضم الاضطرابات السياسية في السنوات التالية، سعى الأزهر إلى زيادة استقلاليته عن الحكومة بغض النظر عمن كان مسؤولاً. وبدا أن انتخاب السيسي رئيساً للبلاد عام 2014 يبشر بالخير لهذا المسعى. فالدستور الجديد الذي اعتُمد في ذلك العام رسّخ مكانة الأزهر كهيئة دينية رائدة في البلاد، معرّفاً إياه بأنه “هيئة إسلامية علمية مستقلة تختص حصرياً بشؤونها” و”المرجع الرئيسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية”. من جانبه، أقر السيسي بفوائد الحفاظ على علاقات إيجابية مع الأزهر. وفي عام 2013، على سبيل المثال، دُعي شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب لحضور خطاب السيسي الذي رسم خارطة طريق سياسية جديدة بعد عزل الرئيس محمد مرسي من السلطة – وهي خطوة هدفت بلا شك إلى إضفاء الشرعية على انتخاب السيسي اللاحق.
لكن ما بدأ كعلاقة متبادلة المنفعة أخذ في إظهار علامات التوتر في عام 2015. وعلى خلفية صعود تنظيم «الدولة الإسلامية في بلاد الشام»، وحدوث تمرد جهادي شرس في شبه جزيرة سيناء، وازدياد الهجمات الإرهابية التي استهدفت مواطنين أقباط، ألقى السيسي خطاباً نُشر على نطاق واسع دعا فيه علماء الأزهر إلى قيادة “ثورة دينية” تهدف إلى “تجديد” الخطاب الإسلامي والتصدي للأيديولوجيات المتطرفة التي تعيث فساداً في المنطقة. وتبع ذلك العديد من المناشدات الأخرى للأزهر، أشارت معظمها إلى أن الحكومة كانت معنيّة بتحقيق هدفين بشكل أساسي: القضاء على أي آثار متبقية لـ «الإخوان المسلمين»، وتمكين النخبة الدينية التي يمكنها دحض الفكر الجهادي بقوة، والترويج للتسامح مع الأقليات الدينية، وشرعنة الإصلاحات المتعلقة بالنساء وقوانين الأحوال الشخصية بشكل عام.
وبفضل الشبكة الواسعة للأزهر التي تضم أكثر من 9 آلاف مدرسة ابتدائية وثانوية تتولى تعليم أكثر من مليوني تلميذ، وجامعة تحتوي على عدد كبير من معاهد البحوث التي تدرب سنوياً الآلاف من الذين يتوقون إلى أن يصبحوا واعظين وخطباء، كان الأزهر في مكانة فريدة لممارسة هذا النوع من النفوذ الذي كان يسعى إليه السيسي. ومع ذلك، فقد رفض الأزهر ذلك إلى حد كبير، معرباً عن استيائه من التعدّي الملحوظ على شؤونه.
لذلك، حاول السيسي اللجوء إلى وسائل أخرى. ففي عام 2016، أطلقت وزارة الأوقاف، الهيئة التابعة للسلطة التنفيذية المسؤولة عن الإشراف على الأوقاف الدينية وتنظيم المساجد، مبادرة لتبسيط وتوحيد محتوى عظات يوم الجمعة في كافة أنحاء البلاد. وكان الهدف الظاهري من هذه الخطوة هو السيطرة بشكل أكبر على المساجد من أجل الحدّ من نفوذ الواعظين المتطرفين (الذين شملهم من وجهة نظر الحكومة، السلفيين المحافظين والمتعاطفين مع «الإخوان المسلمين»). غير أن الأزهر رفض الاقتراح باعتباره إهانة لحرية التصرف الفكرية لأئمة الصلاة، ووفقاً لبعض التقارير رفض عدد من الأئمة التابعين للأزهر الالتزام بهذه التوجيهات.
وفي العام نفسه، رفض الإمام الأكبر أحمد الطيب مطالب الأزهر بالإعلان بأن أفراد تنظيم «الدولة الإسلامية» الإرهابي “مرتدون”، رغم أنه شجب أنشطة التنظيم بأشد العبارات. ورسم منتقدو الطيب أوجه تشابه بين موقفه ومواقف سابقة أصدر خلالها الأزهر فتاوى تتهم أشخاصاً بالتجديف بسبب تشكيكهم بصحة التقاليد المنسوبة إلى النبي محمد، أو تصفهم بالكفار لدفاعهم عن حق المرأة في اختيار ارتداء الحجاب من عدمه. وفي عام 2017، أشار السيسي علناً إلى الحاجة إلى تشريع يخفف من ممارسة الطلاق الشفهي، الذي يسمح للرجل أن يترك زوجته بمجرد قوله “أنت طالق”. واعتبر أن هذه الممارسة يجب أن تكون غير قانونية ما لم تكن بحضور المأذون، لكن الأزهر رد على ذلك مؤكداً أن القوانين القائمة تتوافق مع الشريعة الإسلامية.
وفي وقت لاحق من ذلك العام، طالب العديد من أعضاء البرلمان الساخطين على ما يبدو بتقديم تشريع لفرض مدة زمنية على ولاية الإمام الأكبر وإلزام “هيئة كبار العلماء” في الأزهر بضم خبراء غير دينيين. لكن الأزهر ما لبث أن حشد داعميه في مجلس النواب لرفض مشروع القانون، وذلك إلى حد كبير من خلال التضرّع بالأحكام الدستورية التي رسخت استقلالية الأزهر ومنعت الحكومة من إقالة الإمام الأكبر (المادة 7).
إلا أن مشروع القانون الجديد الذي طُرِح الشهر الماضي لا يذكر مباشرة الإمام الأكبر، مما يشير إلى أن حلفاء السيسي اتّعظوا ربما مما حصل في عام 2017. عوضاً عن ذلك، يسعى القانون إلى تجريد الأزهر من سلطته الحصرية على الهيئة الرئيسية المسؤولة عن إصدار الفتاوى، وإعادة الكلمة الفصل في اختيار رجل الدين البارز في “دار الإفتاء” إلى الرئيس، وفرض حدود زمنية لولايته (التي يمكن للرئيس أن يختار تمديدها)، ووضع برامج تدريب جديدة للأئمة تحت رعاية “دار الإفتاء” لمنافسة الأزهر. ورغم معارضة الأزهر الشديدة لمشروع القانون، يبدو أن الحكومة تفوّقت هذه المرة على خصمها.
الاتجاهات المستقبلية
في هذه المرحلة، لا يزال يتعين على البرلمان إقرار مشروع القانون المقترح بالكامل، ثم إرساله إلى الرئيس للموافقة عليه، وهي عملية ستستغرق وقتاً على الأرجح. ولكن حتى في حال إقرار مشروع القانون وتنفيذه، ستواجه الحكومة صعوبات هائلة في تطبيق الإصلاحات المتوخاة. ومن غير المرجح أن تتزعزع مكانة الأزهر في أي وقت قريب، كما أن القانون الجديد قد يحشد شرائح من المجتمع المصري للدفاع عنه، مما يجعل مهمة إجراء إصلاحات ذات مصداقية أكثر صعوبة.
ومع ذلك، في حين أن رفض الأزهر تلبية دعوات السيسي إلى الإصلاح ربما يكون قد ساعد الجامعة في الحفاظ على قدر من الشرعية في أوساط بعض المصريين، إلا أنه بالنسبة للبعض الآخر أكّد فقط أن الأزهر عاجز عن تقديم إجابات مقبولة للمواطنين الذين يسعون للحصول على إرشادات بشأن المعايير المتطورة. وتمتد هذه المخاوف إلى ما يتخطى حدود مصر أيضاً. ففي وقت سابق من هذا العام، عندما أصدر أستاذ في الأزهر فتوى أثنى فيها على مسوّدة قانون تونسية للمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، أعلنت جامعة الأزهر على الفور أن هذه الفتوى تتعارض مع كل من القرآن وموقف الأزهر الشريف الرسمي من هذه القضية. وأشارت هذه الواقعة إلى أنه على الرغم من بقاء قيادة الأزهر محافظة، إلا أن الإصلاحيين داخل المؤسسة ينظرون إلى الأمور بشكل مختلف.
ولم يتضح بعد ما إذا كانت الحكومة المصرية ستنجح في دعم الأصوات المنادية بالإصلاح وإعداد بديل مقنع للنسخة المحافظة للأزهر. ومع ذلك، إذا نجحت، فمن المرجح أن تعزز استقرار مصر وتدفع قدماً بالمعركة الإقليمية الأوسع بين التياريْن المعتدل والمتطرف للفكر الإسلامي – وهما نتيجتان لدى واشنطن مصلحة واضحة فيهما. وتستحق حكومة السيسي الكثير من الانتقادات بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان وسجلها السيئ في التمسك بالمبادئ الديمقراطية الأساسية. لكن في مجال الإصلاح الديني، يمكن أن تكون السيطرة المتزايدة للدولة خطوة في الاتجاه الصحيح.
رابط المصدر: