في أول رد فعل روسي على ما يجري في الأراضي الفلسطينية المُحتلة عقب الضربات المتبادلة بين المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، وما نجم عندها من عمليات قتل وتدمير وقصف متبادل؛ تحدث الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن الأزمة مُشيرًا إلى أنها تأتي نتيجة لفشل السياسة الأمريكية في المنطقة، وأن الحل الوحيد للخروج من تلك الأزمة يتمثل في ضرورة العودة إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة، ودعا طرفي النزاع إلى تقليل الأضرار التي تلحق بالمدنيين إلى أدنى حد مُمكن.
على صعيد آخر، صرح الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” عن خشيته من أن تؤدي الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحماس إلى “صرف أنظار” المجتمع الدولي عن ما وصفه “بالغزو الروسي” لبلاده، متُهمًا موسكو بتوفير الدعم للحركات الفلسطينية، وهو الأمر الذي نفته موسكو. هذا وسنحاول في السطور التالية قراءة الموقف الروسي من الأزمة الراهنة، وهل تعمل روسيا على استغلالها لصالحها؟ أم تلعب دورًا في جهود الوساطة نظرًا لعلاقاتها المتوازنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
محددات الموقف الروسي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
هناك عدة عوامل ومحددات رئيسة للموقف الروسي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، منها المصالح الجيوسياسية الروسية في الشرق الأوسط ورغبتها في استعادة دورها التاريخي كقوة إقليمية، فضلًا عن العلاقات التاريخية والثقافية القوية مع العديد من الدول العربية.،إضافة إلى وجود أقلية عربية كبيرة في روسيا تؤثر على سياساتها الخارجية. فضلًا عن موقفها من القضايا الدولية ذات الصلة مثل القضية السورية والملف النووي الإيراني.
ويُحدد الموقف الروسي أيضًا، المنافسة الجيوسياسية مع الولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل. على صعيد آخر، تحتفظ روسيا بعلاقات اقتصادية وتجارية متزايد مع إسرائيل. هذا المزيج من العوامل يؤثر على تكوين موقف مُحدد لروسيا من القضية الفلسطينية والصراع بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، واعتمادها على الحياد النسبي لزيادة تأثيرها كوسيط بين الأطراف.
وبناء على ذلك، يمكن الإشارة إلى أن الموقف الروسي التاريخي من الصراع العربي الإسرائيلي محكوم بعدد من العوامل؛ إذ ترى روسيا نفسها دولة محايدة في هذا الصراع، ولا تؤيد أيًا من الطرفين بشكل كامل. وتسعى إلى لعب دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة من أجل تسوية سلمية للصراع.
وتدعو روسيا باستمرار إلى حل الدولتين وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، وتحافظ على علاقات دبلوماسية واقتصادية مهمة مع كل من إسرائيل والبلدان العربية. وأيضًا تعارض روسيا القرارات والإجراءات الإسرائيلية المنفردة مثل الاستيطان، وتتهم الولايات المتحدة بالتحيز لإسرائيل وعدم الالتزام بالحياد.
ويتضح من ذلك أن الموقف الروسي تغلب عليه المرونة ويعتمد على مصالح موسكو الجيوسياسية في المنطقة. وحول الصراع الجاري حاليًا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فدعا وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” جميع الاطراف المعنية إلى تكثيف الجهود من أجل ضمان الظروف الملائمة للاستئناف السريع لعملية المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي ينبغي أن تتوج بإنشاء دولة فلسطينية مُستقلة داخل الأراضي، والتعايش بسلام بين الدولتين. وبحكم العلاقات التاريخية وطويلة الأمد التي تتمتع بها روسيا مع الفلسطينيين والإسرائيليين، تواصل روسيا الاتصالات على مستويات مُختلفة من أجل وقف التصعيد بين الجانبين.
استغلال الازمة
في الوقت الذي تمتد فيه الحرب الروسية الأوكرانية حتى يومنا الراهن مُنذ ما يقرب من عام ونصف، ولا نهاية تلوح في الأفق، ونتيجة للدعم الغربي والأمريكي لأوكرانيا من أجل الصمود في المعركة ضد روسيا؛ ربما ترى روسيا في الأزمة الراهنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين فرصة ذهبية نظرًا لانشغال الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بدعم إسرائيل، وفي هذا السياق قد تعمل روسيا على استغلال هذه الأزمة في عدد من الأمور منها:
إلقاء اللوم على الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذا السياق أوضح الرئيس الروسي أن هذا التصعيد الخطير بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، هو “مثال واضح على فشل السياسة الامريكية في المنطقة“ واتهم واشنطن بأنها لم تسع إلى إيجاد حلول وسط تناسب طرفي الصراع، بل مارست ضغوطها على الفلسطينيين ولم يتم أخذ المصالح الأساسية للشعب الفلسطيني في الاعتبار. بل قام الغرب والولايات المتحدة بدعم اسرائيل بدلًا من المطالبة بوقف الأعمال العدائية.
وكذلك تنتقد روسيا الولايات المتحدة نتيجة احتكار جهود الوساطة وتحويل الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعيدًا عن التسوية السياسية، وبعيدًا عن إنشاء دولة فلسطينية مُستقلة وذات سيادة. وترى روسيا أن حل المشكلة الفلسطينية لابد أن يكون وفقًا لمبدأ الدولتين وفقًا لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة واحترام حقوق الشعب الفلسطيني.
تكثيف الهجمات الروسية على أوكرانيا؛ قد تستغل روسيا انشغال العالم بما يجري على الأراضي الفلسطينية، وتعمل على تكثيف هجماتها على أوكرانيا، وهذا يعكس استراتيجية روسيا في استخدام التحويل الاستراتيجي لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية وتحقيق أهدافها الاستراتيجية. وهذا الأمر قد أشار إليه الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” مُتهمًا روسيا بدعم حركات المقاومة الفلسطينية من أجل “صرف أنظار” المجتمع الدولي عن ما وصفه “بالغزو الروسي” لبلاده، مُعربًا عن تخوفه من انشغال العالم بما يجري في فلسطين ويتغافل عما يحدث في أوكرانيا.
دور دبلوماسي: تسعى روسيا عادةً إلى لعب دور دبلوماسي في القضايا الإقليمية والدولية، وقد يستخدم الرئيس “بوتين” الأزمة لزيادة تأثير روسيا في الشرق الأوسط وتقوية موقفها كوسيط دبلوماسي؛ في محاولة للتوسط وتعزيز دورها في تحقيق السلام.
تعزيز التأثير الجيوسياسي: فبالمشاركة في جهود تسوية النزاع في الشرق الأوسط، يمكن لروسيا تعزيز تأثيرها الجيوسياسي والحفاظ على وجودها في المنطقة، هذا يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على مكانتها كقوة إقليمية وعالمية، وخدمة هدفها الاستراتيجي بالدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب لا تسيطر فيه الولايات المتحدة على القضايا الجوهرية إقليميًا ودوليًا وحدها.
هل يمكن أن تكون روسيا وسيطًا فعالًا في الأزمة؟
على الرغم من تعقيدات الأزمة هذه المرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومع رغبة كلا الطرفين في زيادة وتيرة التصعيد، ورفض أي دعوات للتهدئة؛ لكنًّ روسيا يُمكن أن تكون وسيطًا فعالًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لعدة أسباب، منها:
- ترى روسيا أنها دولة محايدة نسبيًا ليس لها مصالح مباشرة في الصراع مثل الولايات المتحدة.
- لديها علاقات جيدة مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء.
- لديها خبرة طويلة في إدارة النزاعات والوساطة في مناطق أخرى مثل سوريا.
- ترغب في زيادة تأثيرها ودورها الإقليمي، وهذا يتطلب النجاح في مهمة التوسط.
- الإحباط الفلسطيني من دور الوساطة الأمريكية قد يفتح المجال لدور روسي بديل.
ولكن نجاح روسيا في هذا الدور سيعتمد على مدى جديتها وحياديتها الفعلية، وتعاون الأطراف الأخرى، وقبول دورها لا سيّما من جانب إسرائيل. وربما تقود الجهود الروسية إلى إمكانية الوساطة فقط، ولكن يبدو أن التوصل إلى تسوية للنزاع أمر صعب في الوقت الراهن. وفي الأخير، ربما تكون روسيا الطرف الأكثر ربحًا من الأزمة الراهنة في الفلسطينيين والإسرائيليين، فهي من ناحية ستصرف أنظار الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عن الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي سيسمح لروسيا بالتحرك بحرية في مسرح العمليات في ظل انشغال المجتمع الدولي بالأزمة، وايضًا ستعمل روسيا على مواصلة هجومها وانتقادها للولايات المتحدة الأمريكية وتبرز فشل واشنطن في إيجاد توسية سلمية للصراع أو تنفيذ قرارات مجلس الأمن والترويج لدول المنطقة على أنها قوة قادرة على قيادة جهود الوساطة الدولية وتعزيز الاستقرار بخلاف الغرب. يضاف إلى ذلك أن الأزمة -حال استمرارها- ستقود إلى زيادة أسعار النفط بما يخدم مصالح موسكو كونها من أكبر الدول إنتاجًا للنفط على مستوى العالم.
.
رابط المصدر: