نرمين سعيد
مشاهد جديدة ترتبت على العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا وتضمنت توظيف الغذاء كسلاح جيوسياسي مؤثر؛ فقد مثل الغذاء أداة للتعبير عن نفوذ موسكو المتنامي وارتباطه بالعديد من الاقتصادات النامية في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، والتي شكلت طوق نجاة لروسيا ضد العقوبات الاقتصادية الغربية، بل أن الكرملين صرح بأن روسيا لن تمنح النفط والحبوب سوى للدول الصديقة، في انعكاس صريح لتوظيف مواردها الاقتصادية لكسب القبول السياسي عالميًا.
وقد دخلت موسكو إلى صفقة الحبوب التي تم توقيعها مع الجانب الأوكراني بوساطة تركية ورعاية أممية مدفوعة بعدة محركات أهمها تفويت الفرصة على الغرب في الدعاية المضادة لها وإثارة بروباجندا تتضمن أن موسكو تتسبب في أزمة غذاء عالمية. أما السبب الذي دفع كييف إلى الدخول للصفقة فهو تصريف الملايين من أطنان الحبوب المكدسة لديها منذ الموسم الماضي.
ولا شك أن روسيا وإن كانت قد استفادت طويلًا من مخزونها من الغاز ووظفته كسلاح مسلط على الدول الأوروبية تحديدًا، فها هي اليوم تضيف سلاحًا آخر وهو سلاح الغذاء، وإن كانت في هذه المرة تلجأ للمساومة؛ بمعنى السماح بتصدير الحبوب مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها.
ويبدو أن روسيا قد وجدت مواءمتها المناسبة في هذا الإطار، ومما يستدل به على ذلك أن حضور الرئيس الأمريكي إلى جدة لم ينتزع إجماعًا من الحاضرين على التنديد بالعلمية العسكرية الروسية على أوكرانيا، وعدا عن ذلك فقد شهدت بعض الدول الأفريقية حضورًا روسيًا لافتًا في الأيام الأخيرة في تأكيد على أن روسيا ليست معزولة سياسيًا مثلما تحاول الولايات المتحدة الترويج، بل أن مخزونها من الحبوب يحافظ على الاستقرار والسلم المجتمعي في دول أخرى يعد القمح فيها سلعة استراتيجية.
بين الوساطة التركية والنفوذ الروسي
على الرغم من أن أنقرة قد نجحت بالفعل في تحقيق اختراق لم يحدث منذ أن بدأت العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا في فبراير الماضي، إلا أنه لا ينبغي أن يُفهم ذلك في غير إطاره لعدد من الأسباب يمكن إجمالها فيما يأتي:
• سبق للأمم المتحدة أن دعمت خطط تركيا للتقريب في وجهات النظر بين موسكو وكييف وكان أحدها ما تم في أبريل من العام الجاري والذي انصب حول دعم أنقرة لتنسيق إزالة الألغام البحرية المنتشرة في البحر الأسود، لكن المحادثات أفضت إلى لا شيء؛ لأن كييف تخوفت من أن توظف موسكو الأمر لصالحها. الشاهد هنا أنه عندما لم يكن للطرفين مصلحة حقيقية أو بالأحرى عندما كانت لديهم تخوفات حقيقية باءت الصفقة بالفشل.
• الأطراف جميعها داخل صفقة الحبوب مدفوعون بحالة من القلق من حصول أزمة غذاء عالمية، خصوصًا أن الغرب وحده غير قادر على الوفاء باحتياجات الحبوب في الدول النامية. ولا شك أن الأزمة لو تفاقمت فسينتج عنها مجاعات واضطرابات وعدم استقرار في أنظمة الحكم.
• من المتوقع أن الغرب قد ضغط لإتمام هذه الصفقة لأن البديل لا تحمد عقباه؛ فقد اقترحت أوروبا على سبيل المثال بالتعاون مع الولايات المتحدة وبولندا “كمحطة تخزين” نقل الحبوب الأوكرانية بالطرق البرية وهو ما سيتيح نقل من 1.5 إلى 2 مليون طن شهريًا وهو أقل بكثير من المعدل الطبيعي الذي كان يتراوح بين 6 إلى 7 مليون طن شهريًا- وبالتالي ستتعالى الأصوات لفتح ممر آمن في البحر الأسود لنقل مخزون الحبوب الأوكراني، وهو ما قد يؤدي إلى حالة تشبه وجود منطقة حظر جوي من الناتو والدخول في صراع مباشر مع موسكو.
• مع الأخذ بالحسبان أن الولايات المتحدة لا تفرض عقوبات على صادرات القمح والأسمدة من روسيا، وإنما ما يتم الترويج له هو جزء من حرب دعائية تستخدمها روسيا ضد واشنطن لإلقاء اللوم عليها في بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا بوصفها مسؤولة عن نقص الحبوب. والهدف الأساسي لموسكو كما سبقت الإشارة يتضمن المساومة بالسلع الاستراتيجية التي تمتلكها لرفع العقوبات الاقتصادية عنها في مجالات أخرى ومنها إعادة فرض نفسها على نظام سويفت. وقد نجحت موسكو بالفعل في التأكيد على أن أوكرانيا هي التي تعرقل نفسها بالألغام التي تزرعها حول موانئها في البحر الأسود، ولكن واقع الأمر أن روسيا تمنع مرور السفن الأوكرانية خوفًا من أن تعود الأخيرة محملة بالسلاح.
• الاتفاقية التي تم توقيعها في إسطنبول بين روسيا وأوكرانيا برعاية أممية ووساطة تركية أكدت على استئناف تصدير الحبوب، على أن يكون هناك مركز مراقبة في إسطنبول أو بمعنى آخر مركز تنسيق مشترك، وهي نقطة قوة بالنسبة لتركيا التي قبل بها طرفا الأزمة بوصفها طرفًا حياديًا ونزيهًا، فستتجه السفن المحملة بالحبوب الأوكرانية إلى ميناء تركي للتفتيش.
• بما أن الاتفاق مؤقت بفترة زمنية تصل إلى 120 يوم مرحليًا مع عدم وجود مانع لتجديدها، فإن هذا يعني أن الاتفاق يمكن أن يتوقف حال لم يمض بالشكل المتفق عليه أمنيًا مع روسيا، وفي هذه الحالة فسوف تكون أنقرة في موضع مساءلة. خصوصًا أن تركيا كانت قد فشلت قبل ذلك في تأكيد أو نفي مزاعم الجانب الأوكراني التي أشار فيها إلى أن موسكو قامت بسرقة الحبوب الأوكرانية من المخازن وتصديرها عبر ورق مزيف يشير إلى خروجها من موانئ روسية إلى مناطق في سوريا وغيرها، وإذا كانت أنقرة غير قادرة على التأكد من صحة الموضوع من عدمه ففي هذا إشارة على صعوبة ضبط الأمور فيما بعد.
• وقد وصفت أوكرانيا الموقف التركي بأنه غياب للإرادة السياسية وليس غياب لأدوات التحقيق -ولكن الحكومة التركية ردت بأنه ليس من القانوني احتجاز السفن دون سند قانوني- ولكن بمعادلة بسيطة يمكن فهم أن تركيا ربما تغاضت عن ذلك لأن جزءًا من هذه الحبوب قد ذهب إلى سوريا مما يحميها من موجات هجرة جديدة.
• تروج تركيا للاتفاق بوصفه انتصارًا دبلوماسيًا مبهرًا لها؛ على أساس أن الدولتين في حالة حرب، ولكن الأمر لا يشبه حتى ذلك وهي التي فشلت مسبقًا في الوساطة بين الطرفين بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا. ولكن في نفس الوقت ومن زاوية أكثر موضوعية فإن تركيا حققت انتصارًا في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا على اعتبار أنه سيتم النظر إليها بوصفها قوة ناعمة ساهمت في توقيع الاتفاق بين روسيا وأوكرانيا وإعادة تدفق الحبوب، مما سيسهم في الترويج للنظام التركي في المنطقة في وقت تسعى فيه تركيا إلى التقارب أصلًا.
• ولكن من الواضح أن كل ذلك لم يكن مهمًا بالنسبة للكرملين، ولم يشكل عامل ردع لموسكو التي نفذت هجومًا على منشآت ميناء أوديسا في اليوم التالي للاتفاق. ولذلك لا ينبغي تفسير الاتفاق بغير معناه وتحميله بأكثر مما يحتمل من معان تتعلق بكونه بارقة أمل في وقف الحرب المستعرة منذ فبراير الماضي، لأن الأمر أكبر من ذلك بكثير وهو مرتبط بمصالح متضاربة وأمور أمنية وسياسية لم تحل؛ فما دخل الضمانات الأمنية التي طلبتها روسيا بشأن انضمام أوكرانيا للناتو بصفقة حبوب وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.
• كما نجحت تركيا بالترويج لنفسها كوسيط نزيه ولدبلوماسيتها كقوة ناعمة مؤثرة نجح الكرملين في كسب الرأي العام العالمي ونفي صورة تسببه في أزمة غذاء عالمية، وإضافة إلى ذلك تبدو موسكو وقد حققت انتصارات على الغرب تتمثل في أن الحبوب الأوكرانية لن تصدر إلا باتفاق معها، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية التي تسببت بها موسكو في أوروبا وأمريكا والتي أصبحت مهددًا لهذه الدول خصوصًا إذا لم تفلح في استيعاب الغضب الشعبي.
• عملت موسكو على المقايضة؛ فبعد القمة التي جمعت الثلاثي طهران أنقرة وموسكو، فقدت تركيا حماسها لشن عملية عسكرية في سوريا أو أوقفت المكابح على الأقل، وهي العملية التي كانت سببًا كافيًا لإزعاج روسيا في سوريا، ومن ثم وافقت على اتفاق ترعاه تركيا.
• لوحت روسيا باحتمالية انهيار الاتفاق الخاص بتصدير الحبوب في حال لم تمض الأمور كما تريد، وفي حين يرى البعض أن ذلك مجرد تهديد، إلا أن روسيا قد تقدم على ذلك فعلًا في حال شعرت أن السفن الأوكرانية تهدد أمنها، وذلك قياسًا على أن تركيا بعد التوصل إلى تفاهم مبدئي حول انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو؛ عادت أدراجها مدفوعة بهواجسها الأمنية.
.
رابط المصدر: