مقدمة:
برغم استمرار صعود قوة روسيا في الساحة الدوليّة، وسعيها مؤخرًا لتأسيس نظام أمن إقليمي يحمي مصالحها الجيوسياسيّة في الشرق الأوسط وأفريقيا؛ فإنها داخليًا بدأت تشهد انفجار أزمات مكتومة من شأنها أن تؤثر على علاقاتها مع الغرب وأوروبا.
شَهِدَت روسيا في 18 كانون الثاني/يناير- 2021 موجة احتجاجات في بعض المدن؛ جاءت بعد اعتقال الشرطة الروسية للمعارض أليكسي نافالني، عقب وصوله مطار “شيريميتيوف” في موسكو قادمًا من ألمانيا بعد رحلة علاج من حادثة تسمّم كان قد تعرّض لها في موسكو في آب/أغسطس- 2020. وفي 2 من شباط/فبراير- 2021، حكم القضاء الروسي على نافالني بالسجن لعامين وثمانية أشهر؛ بذريعة انتهاك الإفراج المشروط عنه في حكم سابق عليه مع وقف التنفيذ بتهمة غسيل أموال في عام 2014.
أدت حادثة الاعتقال إلى تسريع ديناميات بعض مكونات المجتمع الروسي – جزء من الطبقة الوسطى والمثقفين – المعترضين على تردّي الواقع المعيشي، وسوء استخدام السلطة من قبل طبقة (الأوليغارشية) المتحكّمة في ثروات البلاد. ما يُفسر أنًّ قضية نافالني وفريقه، الذي عرض فيلمًا أثار ضجة بعنوان “قصر بوتين” بعد يوم واحد من اعتقاله؛ غدت بواعثَ كاشفة لحالة السخط الشعبي لبعض شرائح المجتمع؛ خاصة عند الفئة العمريّة ما بين 20- 31 سنة. لذلك من غير المجدي اعتبار أزمة نافالني المُحرّك الوحيد الذي قاد إلى تفجير الشارع الروسي، بل إنَّ قسمًا ليس بقليل من المحتجين خرج لأهداف ودوافع غير مرتبطة بأجندة المعارض، وهو بعض ما نحاول إيضاحه في هذه الورقة.
كذلك أثار اعتقال نافالني انتقادات واسعة من قبل الدول الغربية، معترضين على سلوك السلطات الروسية في تعاطيها مع قضايا حقوق الإنسان، وانتهاكها حرية التعبير، حيث طالبوا من خلال بياناتهم الإفراج الفوري وغير المشروط عن المعارض الروسي.
وممّا لا شك فيه أنَّ هذه الانتقادات ستُلقي بظلالها على مسار العلاقات الخارجية مع روسيا في عدة قضايا متشابكة، سواءٌ على صعيد الطاقة والغاز، أم قضايا الأمن والتسلح والتجارة الدوليّة. ما يحُتّم على قائد الكرملين التحضير لمواجهة جديدة مع تلك الدول، وهو ما بدت تباشيره برفض صريح من روسيا لتلك الانتقادات؛ إذ اعتبرت “أنَّ سلسلة ردود الأفعال الدوليّة على اعتقال نافالني تعكس محاولة لصرف الأنظار عن أزمة التنمية في النموذج الغربي”.[1]
تناقش الورقة الروابط المشتركة لحادثة اعتقال المعارض نافالني وتوجّهه السياسي مع حركة الاحتجاجات ودوافعها العمليّة، إلى جانب انعكاس كل ذلك على مسار العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة ودول أوروبا.
أولًا: مسار وتفاعلات العلاقة (نافالني- بوتين):
سلّطت أزمة نافالني وحادثة اعتقاله الضوءَ على أزمات روسيا الداخليّة في عهد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، حيث بدا أنَّ قوة تأثير المعارض تكمن في استطاعته جذب أنظار بعض شرائح المجتمع للتعاطف معه. ويعد هذا تكتيكًا وأسلوبًا مرحليًا لنافالني الذي حَمَل سجله السياسي محطات أخرى في طريقة تعاطيه مع الدولة الروسية البوليسية.
نافالني البالغ من العمر 44 عامًا، يعتبر من أبرز وجوه المعارضة الروسية خارج مجلس الدوما، وهو محامٍ وناشط سياسي، ومدوّن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومناهض لتطلعات الرئيس فلاديمير بوتين وحزب “روسيا الموحد”. اتهمته الدولة بعدة تهم لتجحيم حركته؛ منها: التخطيط لسرقة 16 مليون روبل من شركة أخشاب مملوكة للدولة أثناء عمله مستشارًا لحاكم منطقة كيروف في عام 2009.[2]
ظهر نجمه لدى بعض شرائح المجتمع في عام 2011، حين شارك في حركة احتجاجية تتهم الحكومة بتزوير الانتخابات التشريعيّة، وبعد وقت قصير من نفس العام أنشأ مع رفاقٍ له مؤسسة مكافحة فساد مخصصة لإجراء تحقيقات عن شبهات فساد لرجال أعمال، وبعض العاملين في السياسة الروسية.[3] تقرّب خلال تلك الفترة من المعارَضة الروسية التقليدية التي تعيش فترة ركود وتشتّت حتى وقتنا الراهن؛ ممثّلة في “الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية”، و”الحزب الليبرالي الديمقراطي”، ولا تتمتّع بثقل حقيقي موازن للدولة الرسمية، ولا تحتل سوى مقاعد قليلة في مجلس الدوما، وقراراتها غالبًا ما تكون في صالح تطلعات الرئيس بوتين.
لم يكف نافالني عن ممارسة نشاطه المعارض، برغم إدراكه حالة التمزّق داخل أحزاب المعارضة؛ ففي عام 2013 شارك في انتخابات عمدة بلدية موسكو، لكنه خسر لحساب سيرغي سوبيانين المقرّب من بوتين؛ كونه كان عضوًا في حزب روسيا الموحد، وفي 2016 قرّر الترشّح لانتخابات 2018 الرئاسية، لكن تم استبعاده من قبل اللجنة المركزية للانتخابات التي طعنت حينها في ترشيحه بسبب عقوبة اختلاس وُجّهت له في 2014.[4]
منذ ذلك الحين سُجن المعارض وأطلق سراحه عدة؛ بتهمة تنظيم احتجاجات غير مصرّح بها من قبل الدولة. ومع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في أيلول/سبتمبر- 2021، أعدّ نافالني مع فريقه ما أطلقوا عليه (نظام التصويت الذكي)، وهو نظام يقوم بدراسة ملف المرشّح الذي تزيد فرص فوزه في الانتخابات، ومنحه دعمًا غير مشروط، بقطع النظر عن مواقفه وتوجّهاته السياسية. وكان نافالني يهدف من وراء هذه الخطوة إلى تجريد حزب روسيا الموحد من أكبر قدر من السلطة، مع السعي أيضًا إلى تقليص قوة بوتين داخل أروقة الدولة.[5]
عقب ذلك دخل نافالني في غيبوبة بعد شعوره بألم شديد، وهو ما اتضح سببه لاحقًا في أنه تعرّض لحادثة تسمّم؛ اتَّهم فيها بشكل مباشر الرئيس الروسي بعد نقله للعلاج في ألمانيا. حدث إثر ذلك أزمة في العلاقات الروسية الألمانية بعد تبادل الاتهامات حول منشأ السم، لكن الكرملين نفى كل الادعاءات ضد الرئيس بوتين الذي قال في تصريح شهير له: “إذا أرادت روسيا قتله لكان ميتًا بالفعل”.[6]
بطبيعة الحال، وانطلاقًا من مسار وسلوك المعارض نافالني، أصبح بشكل تدريجي مصدر إزعاجٍ واضح للسلطة الروسية، لكن ليس لكونه ندًّا قويًّا للرئيس بوتين، بل لأنّه امتلك بعضًا من أدوات التأثير غير التقليدية على الشارع الروسي الذي أصبحت بعض شرائحه تطالب بعمليات تغيير وإصلاحات جذرية على صعيد السياسة والاقتصاد؛ فبسبب فرض السلطات الروسية رقابتها الصارمة على قنوات الإعلام الرسمي (المرئية والإذاعية)، توجّه نافالني إلى وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الإنترنت التي تتمتّع بحرية أكبر، بهدف جذب أكبر قدر ممكن من شرائح المجتمع. إلا أنّ ذلك قد لا ينفع على المدى المتوسط والبعيد مع سن السلطات الروسية قوانين وإجراءات رقابة على تلك المنصات كذلك.
ثانيًا: الروابط المشتركة بين نافالني وحركة الاحتجاجات:
شكّلت عودة نافالني إلى موسكو عاملًا مُضافًا ومحرّكًا لأزمات روسيا الداخلية، حيث انخفض دخل الفرد بنسبة 3.5% عن العام السابق، وبلغ معدل البطالة أعلى مستوياته منذ عام 2011؛ وتُشير التقديرات إلى أنَّ الاقتصاد الروسي في عام 2020 تضرّر بشكل كبير بعد تفشي جائحة كوفيد-19. كما أدّت العقوبات الغربية إلى انخفاض قيمة العملة المحليّة؛ وهذا يُهدّد بدفع التضخّم إلى مستويات أعلى بعد ما وصل في العام الماضي إلى 4.9%. وأظهرت بيانات رسمية أن عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر في روسيا بلغ 18.8 مليون نسمة؛ أي بمعدل 12.8% من إجمالي سكان روسيا.[7]
كل هذه المعطيات سبّبت موجة استياء من تفشي الفساد وتردّي مستوى المعيشة، وعدم الثقة في المؤسسات الرسميّة. وبرغم أنّ نتائج استطلاعات الرأي ما تزال تؤكد استحواذ الرئيس بوتين على نسب تأييد مرتفعة حتى وقتنا الراهن، فإنَّها انخفضت في العامين الأخيرين مقارنةً بالسنوات العشر الماضية لفتراته الرئاسية.[8]
وعليه فإنَّ مشكلة الكرملين اليوم على الصعيد الداخلي هي مع نخبة تمارس العمل السياسي وجزء من الطبقة الوسطى والمثقفين، فسابقًا وخلال السنوات العشر الأولى من رئاسة بوتين كان هناك تفاهم على ضمان الرخاء لشرائح في المجتمع، وحقق الرئيس بالفعل مكاسب عديدة للحفاظ على هذه المعادلة، ومع تباطؤ عجلة الاقتصاد بعد عام 2013، واجه الكرملين صعوبة في الحفاظ على التوزان الاجتماعي، فاتجه نحو تحقيق مكاسب خارجية بهدف توجيه أنظار الداخل إليها، وهو ما ترجمته الحرب في أوكرانيا وضم جزيرة القرم والتدخّل في سورية.[9] وقد استغل بوتين هذه المكاسب الخارجية وغيرها في إعادة ضبط الوعي الجمعي داخل روسيا وتوجيهه نحو التحمس لبقاء مكانة روسيا العظمى في الساحة الدوليّة.
لكن مع حدوث تحولات مجتمعيّة روسية في الألفية الأخيرة، إلى جانب استمرار تراجع الاقتصاد بسبب استمرار تفشي جائحة كوفيد-19، بدا واضحًا أنَّ أساليب النظام السابقة لم تعد مجدية، وهو ما دفع الرئيس إلى إجراء تغييرات جذريّة داخل النظام الروسي في عام 2020، حيث مرّر بوتين مشروع قانون يُفضي إلى تجديد مجلس الدولة، ومن ثمّ الانتقال إلى الرئاسة الكبرى، ويسمح للرئيس بتحقيق ثلاثة أشياء في وقتٍ واحدٍ معًا، وهي:
- إلغاء مؤسساتيّة هياكل الحوكمة ومنحه مزيدًا من المرونة وصلاحيات التعيين.
- التراجع عن الحوكمة اليومية مع الاحتفاظ بالسيطرة.
- هيكلة صنع القرار وتوجيهها نحو الأولويات الوطنية عبر فروع السلطة.
وتمهد هذه الأهداف حال تحقيقها لهدف آخر استراتيجي بالنسبة للرئيس، وهو: التربّع الشامل على قمة النظام الروسي، بحيث يحصل بوتين على صلاحية كبيرة في تعيين أعضاء المجلس. وتجلّى ذلك مؤخرًا في تعيينه شخصيات جديدة ومعتمدة في المناصب الإقليمية والفيدرالية بهدف تمرير قوانين بشكل مباشر عن طريق مجلس الدوما الجديد، وبالتالي فإنًّ المجلس سوف يُجسّد مزيدًا من نزع الطابع المؤسساتي عن السلطة في روسيا، وسيمنح بوتين فرصة الاحتفاظ بنفوذه في السياسة الروسية حتى لو ابتعد عن منصب رئيس الدولة.[10]
أسهمت هذه التغييرات السياسية – إلى جانب تراكم الأزمات الداخلية الآنف ذكرها – في بلورة حالة احتقان طارئة قوّتها عودة نافالني إلى موسكو؛ برغم علمه بأن السلطات الروسية ستعتقله فور عودته بموجب مذكرة سابقة، لكنه أصرّ على العودة لتوظيف حالة الاحتقان الشعبي بما يتناسب مع تطلعاته السياسية؛ بدليل أنّه كان مساهمًا في تحريك الشارع الروسي عبر كشفه ما ادعاه “قصر بوتين”، وزعمه أنَّ ملكيته تعود للرئيس شخصيًا.
ولولا هذه الحركة التكتيكية فلربما لم تخرج احتجاجات، أو على الأقل كانت تأخّرت ريثما يحين موعد الانتخابات التشريعيّة في أيلول/ سبتمبر- 2021، ومع ذلك فإنّ موجة الاحتجاجات التي توقفت بشكل رسمي[11]، قد أظهرت – وفقَ مصادر خاصة – أنّ نسبة كبيرة ممن خرجوا لا يتفقون مع برنامج نافالني السياسي، بل خرجوا بسبب الاستياء من سياسات الدولة؛ خاصة عقب القوانين والإجراءات الأخيرة التي مررها بوتين.
ووفقًا لنتائج استطلاعات رأي أجراها مركز “ليفادا” في 2020[12] حول شخصية نافالني وحركة الاحتجاجات السابقة في البلاد، فإنّ نفس فئة الأشخاص الذين خرجوا في الاحتجاجات قبل خمس سنوات، ما زالوا يُشكّلون جوهر العملية الاحتجاجية، وأولئك يرغبون في رؤية تحديث البلد وإصلاحه.
كذلك أظهر الاستطلاع أن 50% من الروس كانوا يرفضون نافالني مقابل قبوله من 20%، وقياسًا على هذه النتائج يبدو أنًّ الفئة العمرية الشابّة في روسيا هي التي خرجت في احتجاجات غير مُصرّح بها في 23 من كانون الثاني/ يناير الماضي، مع التنويه إلى أنَّ هذه الاحتجاجات لم تكن مختلفة عن سابقتها التي غالبًا ما تتوقّف بعد أيام أو عدة أسابيع.
واستنادًا إلى كل المتغيرات الطارئة على الصعيد الروسي الداخلي، ظهرت بعض المخاوف لدى الكرملين من المعارضة، لكنها ليست محصورة في شخصية المعارض نافالني، بل تكمن خشية الكرملين في فقدان السيطرة على المجتمع على المدى البعيد، وتكرار مشاهد تشبه “الثورة البرتقالية” التي حدثت في أوكرانيا عام 2004، أو أحداث جورجيا من 2003- 2008، وهي أسباب دفعت السلطات إلى قمع الاحتجاجات وتنفيذ آلاف الاعتقالات، والتضييق على المحتجين عبر سن قوانين جديدة كان أهمها فرض عقوبات مالية، ومنع شخصيات في المعارضة من الترشّح للانتخابات القادمة.[13]
تزامنت إجراءات الدولة الروسية في تعاطيها مع التطورات الداخلية مع سلوكها الخارجي في الردّ والمواجهة مع بعض الخصوم والشركاء الغربيين والأوروبيين، حيث تلقّفت تلك الدول مأزق الدولة الروسية الداخلي، وأظهرت تعاطفها مع نافالني وحركة الاحتجاج؛ بهدف الضغط على بوتين في ملفات مشتركة ومصالح متداخلة.
ولأنَّ الرئيس الروسي اعتبر ما يجري في بلاده شأنًا داخليًا، فمن المتوقع أن تشهد روسيا أزمة علاقات جديدة مع الخارج من جانبين: يتعلق الأول منهما بطبيعة التفاعلات بين روسيا وأمريكا في أول أزمة بينهما في عهد الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، والثاني يتصل بالتفاعلات مع أوروبا.
ثالثًا: تفاعلات أزمة نافالني مع أمريكا في عهد جو بايدن:
التّعاطي الغربي مع حادثة اعتقال نافالني جاء سريعًا من خلال المواقف الأمريكية الرسميّة، حيث طالب مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان موسكو بالإفراج الفوري عن المعارض المعتقل، مضيفًا أنّ “اعتداءات الكرملين على المعارض الروسي ليست فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان؛ بل تعتبر بمثابة تحدٍ للشعب الروسي”.[14]
وفي كانون الثاني/ يناير الماضي أجرى الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن أول مكالمة مع الرئيس الروسي بوتين، وأبلغه أنَّ إدارته ستتصرّف بحزم للدفاع عن مصالحها الوطنيّة. وحسب بيان للبيت الأبيض فإنّ الرئيس الأمريكي تطرّق خلال المكالمة لعدة ملفات أهمها: معاهدة “ستارت” للأسلحة الاستراتيجية، وأزمة أوكرانيا، وبيلاروسيا، وقضية تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية، وملف أفغانستان، وتسميم المعارض نافالني وقضية اعتقاله. وفي المقابل عبّر الكرملين – بموقف معلن – عن فحوى المكالمة ووصفها بأنها إيجابية، وشدّد على ضرورة تطبيع العلاقات المشتركة التي من شأنها أن تحقق مصالح البلدين.[15]
وعلى الرغم من موقف روسيا الظاهري بالانفتاح على إدارة بايدن، الذي بدأ بقبول الطرفين تمديد معاهدة “ستارت” دون شروط جديدة، إلّا أنَّ ذلك لا يعد – على الصعيد العملي – مؤشرًا إيجابيًا لتطوير العلاقات؛ لأن بوتين يعي تمامًا أن بايدن يعمل على هندسة استراتيجية شاملة لها أكثر من مسار في سياسته الخارجية.
بات معلومًا أنّ الرئيس الأمريكي يتبنّى لحد ما توجهًا مناوئًا لموسكو، لاسيما أنه قبل وصوله لإدارة البيت الأبيض، وتحديدًا في 20 من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بحث مع فريقه خيارات معاقبة روسيا؛ بسبب اتهامه لها بالتورط في أعمال قرصنة للوكالات والكيانات الحكومية الأمريكية.[16] مع ذلك لا يمكن البناء والجزم بـأنَّ بايدن سيميل إلى تفضيل خيار العداء مع روسيا؛ لأنّ مقاربته الخارجية الواضحة – على الأقل راهنًا – تعتمد على تبنّي استراتيجية مزدوجة تتضمن ردود أفعال على قمع الكرملين للمعارضة، والتعاون معها في ملفات أخرى على أساس إفراد كل حالة على حدة.
وانطلاقًا من هذه الاستراتيجية سيكون الجزء الثاني منها الأهم بالنسبة لبايدن، فمن خلال ذات المكالمة التي أجراها مع بوتين في 26 من كانون الثاني/ يناير الماضي، اتفق الرئيسان على مناقشة ما أسمياه “الاستقرار الاستراتيجي” حول مجموعة من القضايا (الحد من التسلح، والقضايا الأمنية الناشئة بما فيها ملف إيران النووي).[17] وعليه فإنّ بايدن سيكون بحاجة لروسيا وللتفاهم معها بهدف وضع أولى ركائز مكاسبه الخارجية في المنطقة، فمن دون روسيا الصاعدة في الساحة الدوليّة، قد يكون من الصعب الوصول لتلك الأهداف، حتى لو أعاد خطة التكتّلات مع حلفاء أمريكا في المنطقة كأوروبا ودول الخليج.
كذلك فإنَّ استعداد أمريكا لمواجهة نفوذ الصين في المنطقة لن يكون بمعزل عن روسيا التي تجمعها مع الصين من جهة أخرى علاقات ومصالح متداخلة ومشتركة في أكثر من اتجاه. وقد أعرب الرئيس الروسي مؤخرًا عن قبوله المبدئي تشكيل تحالف مع الصين قائلًا: “ذلك ممكن من الناحية النظرية”[18]؛ لذا فإنّ أي ضغط أمريكي شديد على روسيا ستكون نتائجه دفعها أكثر باتجاه بكين؛ لأنَّ الدولتين تجمعهما حالة عداء مشترك مع الولايات المتحدة.
أمّا ما يتعلق بالجزء الأول من استراتيجية بايدن الآنفة الذكر (ردود الأفعال على قمع المعارضين)، فقد تتجّه نحو تكتيك أحادي بسياسة فرض عقوبات على مسؤولين روس ممن يثبت تورّطهم في انتهاك حقوق الإنسان، وقمع المعارضين، بما فيهم المعتدون على المعارض الروسي نافالني.[19]
وعند هذا الحد سيكون أمام الرئيس الروسي أكثر من خيار للرد على إدارة بايدن أو التعاطي معها؛ وذلك كما يلي:
- ستعمل روسيا مع الصين على تطوير استراتيجيتهما للتعامل مع الولايات المتحدة والرد عليها حيال أي إجراء مُتشدّد لها من شأنه أن ينعكس سلبًا على مصالح أي من البلدين. والراجح أنّ بايدن لن يُقدم على مثل هذا الإجراء، وقد يكتفي بخيار أحادي متعلّق بسياسة فرض عقوبات غير صارمة؛ لأنَّ هدفه الاستراتيجي سيكون ثني روسيا عن سلوكها الضار ببلاده، وليس إضعافها.
- قد يفتح بوتين باب المحادثات مع الغرب، ويستغل رغبة بايدن في حل بعض الملفات الأمنية المشتركة؛ بهدف تقليل الدعم المحلي والتعاطف الدولي مع نافالني، وفي حال تحقق ذلك سيُجدّد بوتين شرعية نظامه السياسي، ويُقدّم نفسه للغرب من جديد على أنه المصدر الوحيد للسلطة في البلاد، وهذا هدف جوهري واستراتيجي لحاكم روسيا.[20]
وبطبيعة الحال، ومهما يكن شكل التفاعل والتجاذب الأمريكي الروسي، فإنّ استراتيجية الضغط المتبادل بين أمريكا وروسيا ستكون عنوان المرحلة القادمة، مع الإشارة إلى أنّ بايدن سيُوظّف قضية نافالني وملف المعارضين الروس ورقةَ ضغط على موسكو، لوضعها في حالة انشغال داخلي بهدف تخفيف واحتواء سلوكها الخارجي بالأخص في المناطق التي ترغب أمريكا في استعادة ثقلها الجيوسياسي فيها؛ كالسودان وعموم أفريقيا والبحر الأحمر.
رابعًا: تداعيات أزمة نافالني على العلاقات الروسية الأوروبية:
شكًلت قضية تسميم المعارض نافالني واعتقاله، أزمة علاقات جديدة بين روسيا ودول أوروبا؛ خاصة مع فرنسا وألمانيا اللتين تمثلان في الوقت الحالي – بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي – القوتين الرئيستين في الاتحاد؛ لذا فإنَّ ردود الأفعال الفرنسية والألمانية كانت الأبرز من بين الدول الأعضاء في التعاطي مع السلوك الروسي تجاه قضايا حقوق الإنسان والمعارضين الروس؛ فقد احتج المجلس الأوروبي على اعتقال نافالني، وطالب السلطات الروسية بالإفراج عنه، مشدّدًا في حال عدم التجاوب الروسي بأنه ستُتخَذ سلسلة إجراءات تصعيدية ضد موسكو، من بينها إعادة النظر في مشروع خط أنابيب غاز “نورد ستريم2″،[21] وفرض عقوبات اقتصادية.
ولإضفاء نوع من المصداقية ظاهريًا على سلوك الاتحاد، تحقق إجماع أوروبي في 11 من شباط/ فبراير- 2021 على لائحة عقوبات جديدة ضد روسيا، وقد جاء هذا القرار على خلفية ادعاء أوروبا أنَّ الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل تعرّض للإهانة من قبل روسيا خلال الزيارة التي قام بها لموسكو في 9 من شباط/ فبراير- 2021، بهدف حل أزمة المعارض، وقُوبلت برفض روسي صارم للتدخل في قضيته.[22]
كما تؤيد كل من لاتفيا وإستونيا – دول البلطيق – فرض المزيد من العقوبات الأوروبية على مسؤولين روس. كذلك أبدت إيطاليا استعدادها دعم المزيد من عمليات حظر السفر وتجميد أصول بعض الأفراد في روسيا.
واللافت للنظر أن مسألة فرض العقوبات على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي ليست جديدة؛ إذ سبق أن فرض عقوبات اقتصادية على قطاعات الطاقة، والمالية، والأسلحة الروسية؛ بسبب ضم روسيا جزيرة القرم إليه عام 2014، كما فُرضت عقوبات على مسؤولين روس مقربين من الرئيس بوتين ردًا على تسميم المعارض نافالني العام الماضي، كذلك على مسؤول عن تدمير مخزونات أسلحة كيماوية تعود إلى الحقبة السوفيتية.[23]
وانطلاقًا من المواقف المتصلّبة للجانبين، التي زادت على وقع تبادل الطرفين طرد دبلوماسيين سياسيين،[24] فمن المُرجّح أنَّ العلاقات ستكون أكثر توترًا في المرحلة القادمة، وقد تنهي أو تُؤجّل مبادرة الاتحاد الأوروبي تحديث علاقات تشاركية مع روسيا التي أطلقها في 2010 لترميم جسور الثقة التي تصدعت عقب التدخّل الروسي في جورجيا عام 2008.[25]
بيد أنَّ التساؤل المطروح هنا هو: كيف سيكون تأثر العلاقات الحساسة بين الطرفين بعد تجدّد الخلاف في أزمة نافالني؟
خلال الفترة الأخيرة من العقد الماضي كانت السياسة الخارجية الأوروبية ضبابيّة، وشهدت انقسامًا حادًا بين الدول الأعضاء؛ خاصةً بعد تراجع دور الأحزاب التقليدية على حساب صعود اليمين والتيارات الشعبوية. كذلك يعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وقرب انتهاء شغل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لمنصبها، وتعاظم الأزمات الداخلية في فرنسا؛ من أهم مؤشرات تراجع مكانة الاتحاد في الساحة الدولية.
وبناءً عليه بدأت العواصم الأوروبية تبحث عن طُرق للحفاظ – على الأقل – على الحد الأدنى من العلاقات الإيجابية مع روسيا، وقد ظهرت في هذا الصدد عدة مبادرات بجهود مشتركة مع الولايات المتحدة؛ ففي آذار/مارس- 2016، طرح الاتحاد الأوروبي ما يسمى بمبادئه الخمسة للتعامل مع روسيا، وفي صيف 2019 أطلق إيمانويل ماكرون جهودًا كبيرة لإعادة العلاقات مع روسيا.[26]
لكن كل هذه الجهود لم تلقَ قبولًا تامًا من روسيا التي أصبح لديها نهج مختلف في التعامل مع دول الاتحاد؛ فهي لا تمانع في إعادة ضبط العلاقات الدبلوماسية من حيث المبدأ، لكنها ترفض ضبط سياستها الخارجية على الوجه الذي يرغب فيه الاتحاد الأوروبي؛ وبمعنى آخر: يرفض بوتين المنطق الأحادي المعني فقط بمصالح أوروبا، دون أخذ حالة روسيا الدولية في الوقت الحالي بالاعتبار.
ويعود تفسير ذلك إلى أنَّ موسكو تعتقد أنها قد قدمت الكثير من التنازلات أحادية الجانب في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبالتالي ترى أنّه يتعين على الغرب وأوروبا التنازل لها الآن؛ دليل ذلك أنّ روسيا غير مهتمة الآن بالحفاظ على الوضع الاستراتيجي الراهن، بل تستمر في تغيير المعادلات القديمة في أكثر من مكان كما حدث مؤخرًا في أزمة ناغورنو كاراباغ.[27]
وراهنًا مع تجدّد الخلاف الأوروبي الروسي بسبب قضية نافالني، ستكون ألمانيا وبقية دول الاتحاد في موقف حرج في التعامل مع روسيا؛ فاستخدام استراتيجية الضغط على روسيا في مسائل يعتبرها بوتين شأنًا داخليًا تماشيًا مع سعي أوروبي للتعاون معها في قضايا أخرى، هي استراتيجية لن يقبل بها بوتين، بل من المتوقع أن يستمر في تشديد مواقفه تجاه أوكرانيا وبيلاروسيا.
كذلك إذا ما قرر بوتين تطوير مصالحه الاقتصادية في الدول التي انخرط فيها (ليبيا- سورية- ناغورنو كاراباغ)، فمن شأن ذلك أن يضر بمصالح باريس وبرلين أيضًا؛ لذلك من المرجّح أن تُواجه جهود بوتين مقاومةً أقل مع أوروبا بسبب حاجتها إليه في كثير من القضايا والمصالح المشتركة، وعلى رأسها الأمور التجارية والأمنية التي يعمل بوتين على التحكّم فيها من بوابتي آسيا وأفريقيا، ومن هنا فإنّ أوروبا لن تفرض عقوبات صارمة على روسيا، بل الرسائل الموجّهة إليها في الوقت الحالي، مفادها حث روسيا على إعادة ضبط سلوكها الداخلي بما يتناسب مع طبيعة دورها الخارجي ومصالحها المشتركة مع دول الاتحاد.
خاتمة:
ليست هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها في روسيا أزمات داخلية؛ فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي تشهد روسيا أزمات داخلية على فترات متقطّعة، وغالبًا ما تكون الاحتجاجات الشعبية للتعبير عن تردّي الوضع المعيشي، لكن في الوقت الحالي يبدو أنّ المظالم الاقتصادية والسياسية اجتمعت في آنٍ واحدٍ معًا، بعد لجوء الرئيس بوتين لاتخاذ قرارات وسن قوانين جديدة قادت في نهاية المطاف لفرض قبضته الصارمة على السلطة عن طريق مجلس الدوما الجديد.
وفيما يتعلّق بالمعارضة يمكن القول: إنّ نافالني يُعد ظاهرة طارئة في المشهد الروسي، وقد أصبح مؤخرًا مصدر إزعاج للسلطات بعد حصوله على أدوات تأثير مؤقتة في تحريك الشارع الروسي، الذي خرج جزء كبير منه وفق نتائج استطلاع بمطالب تُخالف أجندة المعارض، وهو ما سيضر بالمعارضة على المدى المتوسط والبعيد في أن تنجح في توحيد نفسها؛ كونها لا تمتلك أصلًا برنامجًا سياسيًا واضحًا.
الحالة الداخلية في روسيا لا شك أنها سببت توترًا في علاقات روسيا مع دول الغرب عمومًا، لكن بوتين ومنذ وصوله للسلطة عام 2000، استطاع تحديث وتطوير أدواته وخططه الخارجية، بحيث أصبح يتعامل معهم من منظور المنافس وليس الطرف الضعيف.
وتبعًا للمتغيرات الأخيرة التي طرأت على المنطقة؛ خاصة ما يتعلق بالسياسة الأمريكية والانقسام الراهن في دول الاتحاد الأوروبي، فمن المُرجح أن تتعامل روسيا معهم من زاوية المصالح المشتركة بمنطق براغماتي، وقد تُقدم في هذا الاتجاه بعض التنازلات مقابل نزع أي دعم دولي للمعارض نافالني وصولًا لإقصائه من كامل المعادلة الروسية. فمسألة إبعاده عن الأضواء حاليًا ووضعه خلف القضبان قد يستمر لما بعد الانتخابات التشريعية القادمة، وهذا ما يُركّز عليه بوتين في الوقت الحالي، وسيبقى يُناور على الصعيد الخارجي حتى تحقيق هذا الهدف.
TRIB. Navalny’s arrest adds to tension between Russia and the West. FEBRUARY 7. 2021
من هو المعارض الروسي نافالني، الشرق الأوسط، 30- يناير2018.
Washington Post. What to know about Navalny’s protest movement in Russia — and why it unnerves Putin. Jan. 29, 2021.
أليكس بوستوس صحفي مقيم في موسكو، أليكسي نافالني: قصة المعارض الروسي ضد فساد الكرملين، نون بوست، 27-1- 2021.
BLOOMBERG. Putin, Poison and the Importance of Alexey Navalny.GANUARY.2021.
بوتين: لو أرادت روسيا تسميم نافالني “لكان في عداد الأموات” الآن، أيرو نيوز، 17-12- 2020.
REUTERS. Not just Navalny: economic pain also behind Russian protests. FEBRUARY 1, 2021.
CAHTHAMHOUSE. Russia Divided. FEBRUARY.2021.
UVITED STATES. From Navalny to the Economy, Russia Protests Reveal Mass Dissatisfaction. January 27, 2021.
CAHTHAMHOUSE. Rebooting the State Council Increases Putin’s Power. 28 OCTOBER 2020.
EUOBSERVER. Navalny’s team say no more protests until spring. FEB, 07:23.
CARENEGIE. Russian Protest in the Age of Online Transparency. 26.01.2021.
MEOUZA. Making life difficult Russian lawmakers rush to tighten legislation ahead of the 2021 State Duma elections
REUTERS. Russia detains Kremlin critic Alexei Navalny, faces clash with Western nations.
JANUARY 17, 2021
[15] http://nbcnews.to/372YC97
VEWS. Biden holds first phone call with Russia’s Putin. Jan. 26, 2021.
صداع بوتين.. هل يُشعل أليكسي نافالني التوتر بين روسيا والغرب مجددًا، نون بوست، 18-1- 2021.
[17] https://s.nikkei.com/3aPr7bG
NIKKEI ASIA. New START extension only benefits Russia and China. February 2, 2021.
بوتين هل يفكر في التحالف مع الصين، الجزيرة، 1-1- 2021.
ATLANTICCOUNCIL. Navalny’s arrest is Biden’s first big test. Here’s how he can pass it. January 17, 2021.
FOREIGN AFFAIRS. To Silence Navalny, Putin Will Try to Enlist the West. Washington Should Beware Falling Into the Kremlin’s Trap. January 27, 2021.
الغرب يتحدى “القمع الروسي” بعد إدانة أليكسي نافالني، مونت كارلو الدولية، 4-2-2021.
بعد إهانة بوريل.. الاتحاد يوافق على فرض عقوبات على روسيا، اليوم، 11- شباط/ فبراير 2021.
REUTERS. EU to hold off on new Russia sanctions if Navalny released. JANUARY 25, 2021.
EUOBSERVER. Merkel: EU expulsions show Russia ‘far from rule of law. FEB, 20:41.
EUROPEAN COUNCIL ON FOREIGN. How Russia and the West try to weaken each other. 22 January 2021.
EUROPEAN COUNCIL ON FOREIGN. Why attempts to reset relations with Russia fail. 3 February 2021.
ورقة من إعداد الباحث، مواقف الدُّول الفاعلة في حرب ناغورنو كاراباخ، برق للسياسات والاستشارات، 29-10- 2020.
رابط المصدر: