قدّم الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال كلمته في قمة جدة يوم السبت 16 يوليو 2022، التي جمعت دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة ومصر والأردن والعراق، رؤية مصرية تحت عنوان مقاربة مصر الشاملة لإدارة الإقليم. وفي الواقع بالنظر إلى استراتيجية مصر في سياستها الخارجية منذ يونيو 2013، يتضح أن مصر قدّمت رؤيتها التطبيقية وأهدافها السياسية من الشرق الأوسط بشكل عام وفي القلب منه المنطقة العربية.
ضمت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة جدة كافة المحددات المحورية والموضوعية بنوعيها سواء الداخلية أو الخارجية، والتي يشكل غيابها تحديًا بارزًا على دول المنطقة، شملت هذه المحددات كافة المستويات الحاسمة سواء السياسية أو الأمنية أو المجتمعية أو الاقتصادية أو البيئية.
أولًا: المحددات الموضوعية الخارجية
حددت كلمة الرئيس السيسي عدة محددات (أو أهداف حيوية) تمثل رؤية مصر ومقاربتها الشاملة في إدارة أمن المنطقة العربية الإقليمي على المستوى الخارجي، يمكن توضيح هذه المحددات بالشكل التالي:
- فلسطين قضية العرب المركزية:
ذكر الرئيس السيسي أن التطلع إلى المستقبل يلزمه حل قضايا الماضي الممتدة، ويقف على الرأس منها القضية الفلسطينية التي وصفتها مصر بأن استمرار غياب حلها يعد مصدر عدم أمن واستقرار المنطقة ككل، وكونها تدخل كمبرر لقيام بعض التنظيمات الإرهابية التي تدخل في إطار الصراع العربي-الإسرائيلي. يستمر الرفض المصري لتصدير أي صراعات إقليمية أخرى كمصدر لعدم الاستقرار مثل الحالة الصراعية بين إسرائيل وإيران.
ويقوم المبدأ المصري في هذه القضية على حل الدولتين؛ أي إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، أي العمل على تقسيم القدس ومنحها صفة سياسية لا تُختزل في الصفة الدينية فقط كما حاول الرئيس الأمريكي في لقائه مع رئيس السلطة الفلسطينية يوم الجمعة 15 يوليو التأكيد على الأهمية الدينية فقط للمسلمين.
واستنادًا إلى التطبيق المصري في هذا المتغير الخارجي، يمكن تحديد أداوت مصر في هذا الصدد، وهي:
(1) السعي إلى تقديم تصورات سياسية لتوفيق مصالحة فلسطينية وطنية بين الفصائل الفلسطينية جميعها.
(2) العمل الدولي لتصدير القضية الفلسطينية إلى الواجهة والعمل على ترسيخ مبدأ حل الدولتين.
(3) المبادرة بإعادة إعمار غزة وتثبيت الهدوء الأمني في القطاع.
- تعزيز النظام العربي الإقليمي في الشرق الأوسط:
ما زالت مصر في كل محفل إقليمي أو دولي أو قمم تجمع الولايات المتحدة التأكيد على مفهوم الأمن القومي العربي وتحديد محدداته بهدف إضفاء صفتي الأمن والاستقرار عليه. وكانت مصر قد ربطت أمنها القومي المباشر بالأمن القومي العربي، وخاصة لدى دول الخليج العربي، ظهر في الدعم المصري المقدم لدول التحالف العربي في الحرب في اليمن، وكذا بادرت مصر بمشاريع عربية-عربية على نحو آلية التعاون الثلاثي بين مصر والأردن والعراق بهدف تعزيز التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية.
يحرك الدافع المصري إلى تعزيز النظام الإقليمي الفرعي “المنطقة العربية” الخصوصية المشتركة التي تجمع الدول العربية من مبادئ مثل الإخاء والمساواة والحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية؛ إذ تربطها ثقافة مشتركة تساعدها على تحقيق مجموعة من القيم والمبادئ التي ذكرها الرئيس السيسي في كلمته. في وقت تعاني فيه المنطقة العربية من جوار إقليمي غير متكامل ولا ترافقه سياسات داعمة للاستقرار.
شمل هذا المتغير الخارجي محددات أساسية بهدف الحفاظ على استقراره، وهي: (1) منع انتشار أسلحة الدمار الشامل بالتعاون مع المجتمع الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية. (2) طرد جميع الميليشيات والمرتزقة التي تهدد استقرار سيادة الدول ومؤسساتها الوطنية.
قدمت مصر تطبيقات منهجية في هذا الصدد، وهي: (1) تلعب الدبلوماسية المصرية دورًا مهمًا في تعزيز مفهوم منع انتشار السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل في إطار حركة عدم الانحياز. (2) إعلان مصر عن خط أحمر في منطقتي سرت الجفرة بليبيا؛ منعًا لسقوط المؤسسات والثروات الوطنية في شرق ليبيا في يد الميليشيات والمرتزقة، وتستضيف مصر كذلك جولات سياسية للوصول إلى حل ليبي-ليبي.
- التعاون في القضايا الدولية وتوسيع مفهوم الأمن:
حددت مصر أن استقرار المنطقة ورفع قدراتها التنموية يستوجب الدفع بقيم التعاون والثقة والدعم مع دول العالم، وتوسيع مفهوم الأمن ليشمل الأمن المائي، والأمن الغذائي، والأمن البيئي، وأمن الطاقة خاصة المتجددة. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال التعاون في التكنولوجيا والبنية التحتية. ومن هنا يأتي الحرص المصري على نجاح استضافة قمة المناخ “كوب 27” في شرم الشيخ، نهاية هذا العام، استكمالًا لدور مصر من خلال دبلوماسية المناخ، والعمل على تعزيز التعاون الدولي في أحد أهم التحديات غير التقليدية التي تهدد الأمن الإنساني بمفهومه الشامل.
ثانيًا: المحددات الموضوعية الداخلية
حددت مصر عنصرين حاسمين في تنظيم شؤون الإقليم وإكسابه صفة الأمن والاستقرار، يمكن توضيح هذه المحددات وفقًا لكلمة الرئيس السيسي في قمة جدة بالشكل التالي:
- البناء الوطني للمجتمعات:
حددت مصر في كلمتها على لسان الرئيس السيسي أن احترام مبادئ الديموقراطية والمساواة وحقوق الإنسان وإعلاء مفهوم المصلحة الوطنية ونبذ الأيديولوجيات المتطرفة هو الضمانة السليمة لاستدامة استقرار المجتمعات بالمفهوم الشامل.
ويعد مبدأ مساندة الدولة الوطنية أحد أهم الأهداف والمبادئ الجديدة للسياسة الخارجية المصرية منذ يونيو 2013، ويقوم المفهوم المصري للدولة الوطنية على عدة مبادئ: (أ) دعم استقرار المؤسسات الوطنية. (ب) تفعيل مبدأ الحوكمة؛ أي ضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع المدني والقطاع الخاص. (ج) تعزيز مفهوم الصمود المجتمعي؛ أي دمج القطاعات المجتمعية المهمشة ضمن تفاعل شامل يضمن التمكين السياسي والمجتمعي والاقتصادي، هذه القطاعات هي الشباب والمرأة وذوي الهمم والطبقة الفقيرة.
ويأتي التطبيق المصري لهذا المحدد الداخلي في الإقليم في تطبيق رؤية مصر 2030 الباب الرابع المسؤول عن الاندماج الاجتماعي في مصر. وينعكس في تدشين الحوار الوطني الذي يشمل كافة التيارات السياسية والحزبية.
- مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف:
يتمثل الإرهاب في المنطقة العربية في تطبيقين اثنين يضفيان طابعًا حرجًا على التفاعلات السياسية والأمنية داخل دول المنطقة، وهما: (أ) التطبيق الميليشياوي الذي يتضح في انتشار السلاح مع المرتزقة والتنظيمات الإرهابية، ويعد في هذه الحالة فصيلًا مهددًا للأمن والاستقرار. (ب) التطبيق الأيديولوجي الذي يأخذ شكل فصائل سياسية ومجتمعية تحمل فكرًا متطرفًا إقصائيًا وتطالب بالانخراط في السلطة وإدارة شؤون الحكم داخل الدول، مثل جماعة الاخوان المسلمين.
تحدد مصر أن وصول هذه التطبيقات المتطرفة إلى النسيج الداخلي للدول يهدد استقرار المنطقة ككل ويعيق التسويات السياسية، ويبدد مقدرات الشعوب من خلال السطو عليها أو سوء توظيفها. ويعد التطبيق المصري في مكافحة الإرهاب أحد أهم النماذج الشاملة في هذا المجال؛ إذ يتحدد من خلال مجموعة من العناصر تم طرحها في قمة الرياض عام 2017 (التي جمعت الولايات المتحدة)، وهي: (أ) المواجهة الفكرية من خلال تصويب الخطاب الديني واستعادة النموذج الخطابي الإسلامي الرصين. (ب) المواجهة التمويلية من خلال تجفيف منابع التمويل. (ج) المواجهة الأمنية السريعة. (د) المواجهة التشريعية وسن القوانين الملزمة بمكافحة الإرهاب بجميع صوره.
ختاما، يمكن القول إن كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة جدة عكست تطبيقات مصرية أدرجتها القاهرة في سياساتها الداخلية والخارجية، وعكست أهداف ومبادئ جديدة تضمنتها السياسة الخارجية منذ يونيو 2013. تضمنت هذه المقاربة الشاملة جميع المحددات الحاسمة سواء الداخلية أو الخارجية لإدارة رشيدة لأحوال الإقليم، خاصة المنطقة العربية في قلب تفاعلات إقليمية أوسع لا يحدها جوار إقليمي هادئ.
.
رابط المصدر: