د. عمرو درّاج
كنت قد كتبت مقالاً، قبل انعقاد قمة كوالالمبور الأخيرة، تحدثت فيه عن خلفيات دعوة رئيس وزراء ماليزيا الدكتور مهاتير محمد للقمة وعلاقتها بمنتدى كوالالمبور الذي بدأ التئام شمله منذ العام 2014، وشملت الدعوة خمس دول رئيسية هي: ماليزيا وقطر وتركيا وباكستان وإندونيسيا، حيث صرح د. مهاتير قبل انعقاد القمة بإن هذه الدول الخمس “ستشكل نواة لبداية تعاون إسلامي أوسع يشمل مجالات عدة تواجه العالم الإسلامي، مثل التنمية الاقتصادية والدفاع والحفاظ على السيادة وقيم الثقافة والحرية والعدالة، إضافة إلى مواكبة التكنولوجيا الحديثة”. وقد شملت الدعوة عدداً كبيراً آخر من الدول الإسلامية ولكن بمستويات تمثيل أقل، إلا أن إيران اختارت أن يمثلها رئيسها حسن روحاني، رغم أنها لن تكون من الدول الخمس المؤسسة للتجمع المخطط له.
وقد تطرق مقالي السابق إلى محاولة استكشاف الأسباب الحقيقية للدعوة لهذه القمة في هذا التوقيت، وحاولت استخلاص أهم النتائج المرجوة منها في ضوء المعلومات المتوفرة في ذلك الوقت، وخلصت إلى نتيجة مفادها أنه من الأوفق الانتظار حتى انعقاد القمة والنظر إلى تفاصيلها عن قرب، نظرا لأني كنت أحد المدعوين للحضور بصفتي من مؤسسي منتدى كوالالمبور من المفكرين والباحثين المنتمين لعدد من دول العالم الإسلامي، ومن هذا المنطلق يأتي هذا المقال الذي أحاول أن استعرض فيه أهم ملابسات انعقاد القمة وكواليسها وتقييم أهم ما انتهت إليه، وذلك بشكل مبدئي، وفي ضوء مشاهداتي المباشرة، مع استعراض عدد من الخلاصات المهمة، التي يمكن الخروج بها من تحليل لما صاحب القمة من أحداث وملابسات.
الفكرة الأساسية وراء الدعوة للقمة
يمكن استخلاص الفكرة الرئيسية وراء الدعوة لقمة كوالالمبور من الكلمات المختلفة التي ألقاها الرؤساء المجتمعون أثناء انعقادها، والمناقشات التي صاحبت انعقادها، فضلا عن الحديث المباشر لي مع د. مهاتير محمد خلال اجتماع حضرته معه مع مجموعة صغيرة من بعض الزملاء الحاضرين. المحرك الرئيس وراء الدعوة للقمة هو الحالة السيئة التي يعيشها المسلمون في شتى أنحاء العالم ومعاناتهم من مجموعة كبيرة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية المصاحبة للعيش تحت ظل الاستبداد في بعض الأحيان، والاحتلال في أحيان أخرى، والاضطهاد في أحيان كثيرة، والمشاكل المصاحبة لذلك من الحروب والفقر والتخلف العلمي والتكنولوجي، والدافعية للهجرة، الشرعية منها وغير الشرعية، وقضايا اللاجئين، وظواهر التطرف والإرهاب، وغياب التأثير السياسي، وتنامي الاسلاموفوبيا، وغير ذلك من المشاكل الضخمة، مع عدم قدرة الدول الإسلامية والمنظمات التي شكلتها على مواجهة تلك التحديات بشكل جدي، مما يستوجب التفكير في أليات جديدة لمواجهة هذه المشاكل من جذورها.
وكما ذكر د. مهاتير في عدة مناسبات أن الفكرة ظهرت بدعوة عدد محدود من الدول الإسلامية ذات القدرات المتميزة نسبيا، للتباحث حول هذه المشكلات ومحاولة وضع أفكار لحلول عملية يمكن السير فيها بدلا من المناقشات العقيمة بين عدد كبير من الدول ذات الظروف والتوجهات المختلفة مما يعرقل الوصول إلى أية حلول ذات قيمة عملية، ثم يبدأ العمل بين هذه المجموعة الصغيرة بشكل تدريجي في تنفيذ الحلول العملية المقترحة حتى إذا ما بدأ تحقيق تقدم في معالجتها، يمكن توسيع الدائرة بدعوة عدد من الدول الأخرى، وهكذا حتى تتسع دائرة الفعل وتقديم الحلول مع الوقت.
لكن كما ذكر د. مهاتير، فإنه حتى هذه الدول المتميزة نسبيا، لا يمكن تصنيف أيا منها حتى الان كدول متقدمة Developed وإنما لا تزال في إطار الدول النامية Developing ، مما يقلل من أي أثر لهذه الدول منفردة في التصدي للدفاع عن المسلمين وحل مشكلاتهم في شتى أنحاء العالم، وهذا يستوجب اجتماع هذه الدول وتضافر جهودها والتعاون فيما بينها حتى تستطيع أن تحقق تقدما ملموسا في الاقتصاد والتكنولوجيا العالية المتقدمة وصناعات الدفاع وغيرها، بما يسمح أن يكون لها أثرا ملموسا ومؤثرا في الساحات المختلفة لحل الكثير من مشكلات المسلمين حول العالم.
وانطلاقا من هذا المفهوم انطلقت القمة تحت عنوان “دور التنمية في تحقيق السيادة الوطنية”، وحددت سبعمسارات أساسية لجدول أعمالها نحو تحقيق التنمية والتقدم للأمة، وتتضمن: التنمية المستدامة، النزاهة والحكم الرشيد، الثقافة والهوية، السلام والعدالة والحرية، السيادة والأمن والدفاع، التجارة والاستثمار، التكنولوجيا وحوكمة الإنترنت. وقد تحدد جدول الأعمال الذي شمل حضوره أعضاء منتدى كوالالمبور الأصليين وضيوفهم من أكثر من 400 مفكر وباحث من شتى أرجاء العالم الإسلامي، بالإضافة إلى الضيوف الرسميين من قادة الدول وأعضاء الحكومات، في جلسات عمل متتالية على مدار يومي انعقاد المؤتمر الأساسيين (19 و20 ديسمبر 2019).
عقبات أمام القمة
ما أن أعلن عن عقد القمة وتحدد تاريخا لها، حتى بدأ هجوم كبير من عدد من الأطراف، والتي شككت في الهدف من عقد القمة، وأنها تُشكل التفافا حول منظمات العمل الاسلامي المشترك، خاصة منظمة التعاون الإسلامي، وأنها تستهدف استبعاد أطراف بعينها، ورغم أن الداعي للقمة والمخططين لحضورها نفوا ذلك نفيا قاطعا، بل أنه نقلت تصريحات عن وزير الخارجية المصري تؤكد دعوة مصر لحضور القمة بيد أنه قال أنمصر ليست مع هذه الدعوة، واستمر الهجوم على نفس المنوال، وازدادت حدته مع الوقت.
كما بدأ هجوم من نوع أخر من أطراف مختلقة فور إعلان الرئيس الإيراني روحاني عن حضوره القمة قبل بدايتها بعدة أيام فقط وذلك من أطراف رسمية وشعبية على حد سواء بسبب المشاكسات الإقليمية، أو للممارسات السلبية الإيرانية فيما يتعلق بعدة ملفات في المنطقة، وبدأ اتهام الأطراف الحاضرة بدعم الإرهاب، وتكوين تحالفات مضادة لبعض الأطراف، وهكذا.
وبدأ أيضا العديد من الأطراف بالتشكيك في جدوى القمة والتقليل من أهميتها ومن النتائج التي يمكن أن تترتب عليها، وذهب بعض المحللين إلى أن الدافع الرئيس للدعوة لهذه القمة قد يرجع لأسباب سياسية داخلية كما هو الحال في ماليزيا مثلا حيث يحتاج مهاتير لمن يدعم موقفه وسلطاته داخليا، أو تركيا التي تحتاج لتقوية موقفها إقليميا ودوليا في مواجهة التهديدات الخارجية لأمنها القومي، أو باكستان لدعم موقفها أمام الهند عقب قرارها إلغاء وضع الحكم الذاتي الدستوري للجزء الهندي من إقليم كشمير المتنازع عليه، وهكذا. وقد تكون بعض أو كل هذه الأسباب صحيحة، إلا أن هذا لا ينفي وجود رغبة حقيقية في نفس الوقت للتصدي للمشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي ومحاولة إيجاد حلول ناجعة لها.
وعلى الجانب الآخر، فقد بالغ البعض، على مستوى الشعوب، في توقعاته لما يمكن أن تنتجه القمة، وكأن حلم الوحدة الإسلامية أصبح قريب المنال ولم يعد دونه إلا انعقاد هذه القمة. وقد شكل هذا الأمر في حد ذاته تحديا كبيرا أمام القمة، والتي تعتبر خطوة أولى في أفضل تقدير نحو تحقيق أهداف أكبر في المستقبل، وهذا قد يكون سببا في إحباط الشعوب وترسيخ اليأس من تحقيق تقدم كبير على طريق تحقيق أحلامهم وآمالهم.
أجواء بداية انعقاد القمة
بدأت القمة في الانعقاد في ظل أجواء سادها الكثير من الاحباط، حيث وردت الأنباء عن اعتذار باكستان عن عدم الحضور قبل الافتتاح بيوم واحد، كما غابت إندونيسيا أيضا بعد أن كان من المقرر حضورها بتمثيل من نائب رئيس الجمهورية، وبالتالي غابت القوى ذات الثقل السكاني الأكبر في مجموعة الدول الخمس، فضلا عن أن باكستان كانت من أهم الدول التي دفعت لعقد القمة منذ شهر سبتمبر الماضي، وهي التي اقترحت مشروع القناة الفضائية المشتركة التي ستعمل في مجال مواجهة ظاهرة الاسلاموفوبيا حول العالم. وقد جاء بالفعل خطاب رئيس الوزراء الماليزي في افتتاح القمة ليعكس تطلعات أقل للنتائج مما كانت قد عكسته التصريحات قبل انعقاد القمة مباشرة، وسادت بين الحاضرين للمؤتمر بالفعل مشاعر سلبية يسودها نوع من الإحباط.
إلا أن خطاب الرئيس التركي كان أكثر تفاؤلا من وجهة نظري، وتحدث عن بعض الموضوعات المحددة، خاصة الحاجة لتحرير العملات الإسلامية من الضغوط الخارجية، والرغبة في التعامل بين الدول الإسلامية بالعملات الوطنية، والجاهزية لذلك، كما تحدث أيضا عن الحاجة لصندوق للتمويل الإسلامي، وأثنى على التجربة الماليزية في المعاملات المالية الإسلامية كبديل عن المعاملات الربوية، والتي يمكن الاستفادة منها بشكل جيد، خاصة وأن تركيا بدأت في نشر أدوات مالية إسلامية كالصكوك، كما بدأت في التوسع في فتح فروع للمعاملات الإسلامية بالبنوك الوطنية. وتحدث الرئيس أردوغان أيضا عن أهمية التركيز على التكنولوجيا والابتكار، وعن تطبيق ذلك في مجال الصناعات العسكرية التركية وذلك للانتقال من الاعتماد على الخارج بنسبة تفوق 80% إلى الحد الأدنى المقبول، وضرب المثال بإنتاج الطائرات بدون طيار حيث أصبحت تركيا من أهم 4 دول في العالم في هذا المجال.
وقد تكشف بالفعل أن المملكة العربية السعودية لعبت دورا كبيرا في الضغط على الدول التي لم تحضر المؤتمر، ونقل عن الرئيس أردوغان تصريحات تفيد بالتهديدات السعودية لباكستان بسحب ودائع سعودية بنحو 5 مليار دولار فضلا عن استبدال أغلب العمالة الباكستانية بأخرى من بنغلاديش، ونقل إلينا أيضا د. مهاتير في لقاء مصغر حديثا مماثلا. ورغم أنه كان من المتوقع عدم رضا عدد من الدول الإسلامية مثل السعودية ومصر والإمارات عن مثل هذا النشاط الخارج عن إطار منظمة التعاون الإسلامي والذي تستحوذ السعودية على قيادته، إلا أن مستوى الضغوط التي مورست لإفشال القمة والانتظار لتوجيه “الضربة القاضية” لها قبل انعقادها مباشرة ليجهض أية مساعي لمواجهة هذه الضغوط، يكشف مع الأسف المستوى المتدني الذي وصلت إليه بعض الدول التي تدعي قيادة العالم الإسلامي، بينما هي في نفس الوقت تحارب جهودا صادقة تبذل من أجل إيجاد اقترابات جديدة لمواجهة مشكلات هذا العالم الإسلامي بشكل حقيقي.
حول أعمال القمة وأهم نتائجها
على الرغم من الأجواء السلبية التي أحاطت بالقمة عند بدايتها، فقد بدأت مشاعر الإحباط تختفي بالتدريج مع بداية الفعاليات، حيث ظهر الحضور القوي والتصميم على إنجاح القمة من كل من شارك فيها، فعلى المستوى الرسمي كان هناك حضوراً قوياً من ماليزيا، الدولة المضيفة بطبيعة الحال، مع حضور لافت من الشركات ورجال الأعمال، وكان الحضور التركي الرسمي لافتا للنظر، ففضلا عن مشاركة الرئيس إردوغان فقد شارك وفد تركي كبير يضم أهم الوزراء الأتراك مثل وزراء الخارجية والدفاع والمالية والداخلية وآخرين، فضلا عن عدد كبير من رجال الأعمال، وشارك أمير قطر ووزير خارجيته، وكذلك الرئيس الإيراني ووزير خارجيته ووزراء آخرون.
كما حضر وفد كبير من حركة حماس برئاسة د. موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي وعدد كبير من أعضاء المكتب فضلا عن السيد خالد مشعل الرئيس السابق للمكتب، ويعكس هذا الحضور القوي الاهتمام والمكانة الكبيرة للقضية الفلسطينية في القمة. كما كان هناك حضور مميز لأكثر من 450 من المفكرين والباحثين من شتى أرجاء العالم الإسلامي مما أضفى تنوعاً وثراءً كبيراً للمناقشات التي جرت أثناء القمة.
وقد أعقب الجلسة الافتتاحية عدد من الجلسات التخصصية التي شهدت حضورا مكثفا سواء على المستوى الرسمي أو الفكري، وتكشف عناوين هذه الجلسات المواضيع التي تم تناولها والتي تعكس اهتمامات القمة، فقد ناقشت الجلسات: أولوية التنمية وتحدياتها (وهي الجلسة التي شارك فيها قادة الدول بأنفسهم)، دور السياسة في التنمية، التعليم والتنمية، إعادة توزيع الثورة، الأمن الغذائي، التكنولوجيا المتقدمة، الحفاظ على الهوية الوطنية. وقد أثرى الجلسات مشاركة عدد من الخبراء المتخصصين من دول مختلفة إلى جانب المسئولين السياسيين.
وتأتي من وجهة نظري جلسة التكنولوجيا المتقدمة لتعطي مثالا يوضح العمق الذي تطرقت إليه المناقشات بهدف تقديم مخارج حقيقية للدول الإسلامية، حيث نوقشت موضوعات مثل السيادة الرقميةDigital Sovereignty كعنصر إضافي مستحدث من عناصر السيادة الوطنية، أهمية السيطرة على عمليات وسائط التواصل الاجتماعي وعدم تركها لأيد أجنبية، أهم مكونات الاستقلال الرقمي وأدواتها من السيادة الالكترونية والسيادة المعلوماتية، حيازة تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي كمكون رئيس من مكونات السيادة الرقمية، إلخ، وبدون شك، فإن المناقشات التي جرت في هذه الجلسات تمثل أحد أهم النتائج والنجاحات التي ارتبطت بالقمة.
إلا أن أهم ما تمخضت عنه القمة كان الخروج بنتائج عملية، وليس مجرد مناقشات فكرية، حيث تم توقيع عدد من الاتفاقات بين الأطراف المختلفة في مجالات الدفاع والتكنولوجيا ومراكز التميز والتعاون الصناعي والزراعي والإعلامي. ومن أبرز الاتفاقيات اتفاقية للتعاون بين تركيا وماليزيا في مجالات الدفاع والصناعات العسكرية، حيث قال د. مهاتير أكثر من مرة أن تركيا تتميز في هذا المجال وممكن الاستفادة من خبراتها.
كما تم الاتفاق على المنصة الإعلامية التي يفترض أن تقوم بدور مهم في مواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا، على الرغم من غياب باكستان التي كانت مقترحة للمشروع في الأصل، ويمكن بالطبع أن تلتحق به لاحقا، ويشكل هذا منهجية جديدة يمكن أن تضيف قدرا من الفاعلية للتعاون المشترك، بحيث يمكن بدء التعاون بمن حضر، والسير قدما على طريق الإنجاز، ثم تلتحق أطراف أخرى بالركب عندما تسمح ظروفها.
أما في اليوم الأخير، فقد شعرت، وشعر معي الكثير من الحضور بقدر كبير من التفاؤل، وكانت الأجواء أفضل كثيرا من أجواء الافتتاح، وتضمن الإعلان الختامي للمؤتمر اعتماد اسم “مؤسسة حوار بردانا – Perdana Dialogue” بدلا من قمة كوالالمبور اعتبارا من العام 2020 حيث تعني كلمة بردانا باللغة المالاوية “الرائد Premier”، وهذا التغيير يعني التحول إلى ألية عمل وحوار مستمر، وليس مجرد انعقاد عارض لقمة.
ومن خلال البيان تم توجيه النداء لكل الهيئات والمنظمات الاسلامية القائمة، وهيئات الأعمال والوكالات الإنمائية، فضلا عن الجامعات ومراكز البحث والتفكير ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والعلماء من شتى أنحاء العالم الإسلامي لمواصلة الحوار وتقديم الأفكار حول كل ما يدعم رؤية إحياء الحضارة الإسلامية وبناء أمة تعيش في كنف الحرية، وفي إطار الكرامة والرخاء، تتوفر على أعلى مستويات التعليم والمهارات من أجل فرص اجتماعية واقتصادية أفضل، وتنصر السلام والعدالة، وتسهم في خدمة المجتمع الدولي، مع التأكيد على تعزيز التضامن بين المسلمين، وتجميع قواهم ومواردهم بغرض تحفيز وتجديد عزيمة وإرادة الأمة للارتقاء والتحديث وابتكار المقاربات الجديدة لمعالجة المشاكل التي تواجهها الأمة، بناء على الأسس العقائدية للإسلام، والهداية التي يمنحها القرأن الكريم.
وقد أكد البيان الختامي على أهمية تحديد الاحتياجات الانمائية للبلدان الإسلامية، وخلق الفرص في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والصناعة والبحث العلمي ومنتجات التمويل الإسلامي، واللحاق بالتقدم التكنولوجي في مختلف المجالات الأساسية، مع التأكيد على أهمية إقامة الحكم الرشيد ومكافحة الفساد ومواجهة تهديدات الإسلاموفوبيا.
وقد جاءت الكلمة الختامية التي ألقاها دكتور مهاتير لتعكس أيضا الروح الإيجابية للإنجاز، وجاءت، من وجهة نظري، أقوى كثيرا وأكثر صراحة من كلمته الافتتاحية، حيث أكد أن أعمال القمة ومناقشاتها أظهرت أن التخوفات التي كانت لدى المتخوفين والمتشككين ظهر أنه لا أساس لها، ولم يكن لها ما يبررها، وأعاد التأكيد على أن المشكلة الأساسية للمسلمين الذين يفوق عددهم 1.7 مليار نسمة، أي نحو ربع سكان العالم، أن احتياجاتهم كثيرة لكنهم لا ينتجون ما يكفيهم ولذلك يلجأون للأخرين، ولو عمل المسلمون سويا لانتاج جميع احتياجاتهم، وأن تعرض كل دولة قوية في مجال ما التعاون مع باقي الدول الإسلامية في هذا المجال، فسيتغير وضعهم ويصبحون أمة قوية، وأن هذه السياسات لا تعني مقاطعة منتجات الآخرين، ولكن في أحيان كثيرة فإن الآخرين هم من يطبقون العقوبات على دول المسلمين ويضغطون عليهم لأنهم يحتاجون منتجاتهم.
وفي هذا الإطار ضرب مهاتير المثال بإيران التي استطاعت رغم سنوات الحصار الطويلة أن تحقق تطورا كبيراً، كما أن قطر تعرضت أيضا للحصار واستطاعت أن تخرج منه بصورة أقوى، إلا أنه أشار أن مثل هذا الحصار والمقاطعات ستتكرر على دول إسلامية أخرى، بسبب طبيعة العالم الذي تتخذ فيه القرارات الان بشكل أحادي، ويشكل هذا دافعا إضافيا لكي تتجمع دول المسلمين وتتكاتف مع أي دولة شقيقة قد تتعرض لمثل هذه الممارسات في المستقبل.
وتجدر الإشارة إلى الإشادات المتكررة بإيران في خطاب مهاتير، والإشارة لها بوضوح كأحد الدول الرئيسية المكونة للقمة مع ماليزيا وتركيا وقطر، ويرجع هذا في المقام الأول للمشاركة الإيجابية لإيران في القمة بأرفع المستويات الرسمية، والمقترحات الإيجابية التي عرضتها في الفعاليات المختلفة، والتقدم الذي وصلت إليه وعرضته خاصة في مجالات التكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني، في الوقت الذي غاب فيه الأخرون.
وقد كان د. مهاتير صريحاً جدا في أمور حساسة بما يعكس رغبة حقيقية واستعدادا للسعي للخروج من منظومة الهيمنة العالمية التي تكبل العالم الإسلامي، فعلى سبيل المثال ذكر في خطابه أنه اقترح بشكل جاد العودة لبحث التبادل بين الدول الإسلامية باستخدام الدينار الذهبي، كما أشار إلى أهمية امتلاك القدرة على إنتاج التكنولوجيا ذاتيا حيث لا يمكن الاستمرار في الإعتماد على التكنولوجيا التي ينتجها “أعداء الإسلام” حسب تعبيره، وأشار إلى أهمية توحيد الأمة لتبني استراتيجية لانتاج التكنولوجيا المتقدمة حتى يتوقف “التلاعب بها وإساءة معاملتها من قبل أعدائها”، كما ذكر أن العمل المنتظر هو بداية جديدة “على طريق تعاليم القران” التي تقول “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. كما أشاد د. مهاتير بالنتائج الملموسة للاتفاقيات المحددة التي تم التوصل لها.
وقد اختتم حفل الختام بكلمة مؤثرة وقوية للسلطان معز الدين شاه نائب الملك الماليزي وأحد سلاطين ماليزيا تحدث فيها عن أهمية تقديم الدعم والنصرة للمسلمين المظلومين والمضطهدين حول العالم، وركز بشكل خاص على قضايا اللاجئين ومعاناتهم، حيث يشكل المسلمون النسبة الأكبر من اللاجئين حول العالم.
آفاق المستقبل
يمكن القول إن قمة كوالالمبور 2019، شكلت خطوة لا بأس بها كبداية على طريق طويل لمحاولة التصدي الحقيقي والفعال للمشكلات التي يتعرض لها المسلمون في شتى أنحاء العالم، وهناك قوة دفع واضحة، خاصة من رئيس الوزراء الماليزي والرئيس التركي، لتحقيق إنجازات حقيقية على الأرض في هذا المضمار، وينبغي الاستفادة بقوة الدفع تلك لتحقيق خطوات مؤسسية قابلة للاستدامة، ولا تعتمد فقط على حماس بعض القادة.
كما ظهر بشكل جلي أن خطوة إيجاد تجمع إسلامي فعال ستقابل دائما بحرب شعواء ومحاولات حثيثة للإفشال، وأن هذه الحرب مع الأسف توظف فيها أدوات لدول إسلامية كبيرة وقادة من المسلمين يفترض أن يكون لهم دور رائد في المساهمة في إنجاح هذه الأليات وليس محاربتها.
ومن أهم المقترحات التي يمكن طرحها لدعم تحقيق أهداف القمة، أن تشمل العملية الشعوب الإسلامية ومؤسساتها المستقلة، ولا تقتصر فقط على الدول والقادة السياسيين، ويمكن أن تُشكل مجموعة منتدى كوالالمبور القائمة منذ عدة سنوات دعماً حقيقياً لمؤسسات الدول بحيث تتحول إلى “مركز تفكير”، يُخطط لها ويقدم الدراسات والمقترحات للمشروعات العملية التي تعظم من مجهوداتها.
إلا أنه ولكي يتحقق هذه الدور، يجب، من وجهة نظري، إحداث تطوير جوهري في بناء مؤسسة المنتدى لتشمل، ليس فقط مفكرين ومنظرين، ولكن علماء بارزين في المجالات التي بحثتها القمة مثل التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي وصناعات الدفاع، فضلا عن رجال الاقتصاد والأعمال البارزين في العالم الإسلامي، على أن يكون هناك مساحة واسعة للحوارات والتواصل بين شباب العالم الإسلامي وتشجيع مبادرات ريادة الأعمال وغيرها، وكل هذا سوف يعطي زخما كبيرا للألية الناشئة، وسيسمح بتجاوز الدور السلبي من بعض الحكومات ويعطي لها استمرارية وأبعادا غير محدودة من المبادرات والأعمال التي تعظم من نتائج التعاون.
رابط المصدر: