أعلن الحرس الثوري الإيراني الأربعاء الماضي؛ إجراء مناورة عسكرية في الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران، وهي طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، وأسماها الحرس مناورة “العميد الشهيد إسحاق دارا”. وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا” ذكرت أن التدريبات تركزت بشكل أساسي على جزيرة أبو موسى، على الرغم من إرسال الحرس الثوري قوات إلى جزيرة طنب الكبرى أيضا، مشيرة إلى مشاركة سفن وطائرات مسيرة ووحدات صواريخ في التدريبات. المتحدث باسم هيئة الأركان الإيرانية العميد أبو الفضل شكارجي، رغم توجيهه لرسائل تهديدية مبطنة إلى دول المنطقة في تعليقه على تلك المناورة بقوله: “يجب على الطامعين أن يروا جانبا من سلاحنا لكيلا يرتكبوا خطأ في حساباتهم”. إلا أنه وبالطبيعة الإيرانية أراد تحميل المناورة وحديثه أيضا أكثر من بعد في وقت واحد، عندما تحدث لوكالة “تسنيم” محددا بأن المناورة التي جرت بالقرب من مضيق هرمز، رسالتها الأساسية إلى دول المنطقة وهي ضرورة التخلص من التبعية للأجانب لإحلال الأمن، داعيا تلك الدول إلى تعزيز مساحة الثقة في إيران، ضامنا لهم حينها إحلال الأمن في هذه المياه.
الولايات المتحدة بدا أنها التقطت الرسائل الإيرانية، فيما لديها القدرة أيضا على فك شفرات وتحركات طهران استنادا إلى خبرة جولات التقارب والتنافر، المستمرة بينهما طوال العقد الماضي. لهذا جاء رد الفعل الأمريكي سريعا هذه المرة بالذات، بتوجيه السفينة الهجومية البرمائية (يو إس إس ـ باتان) وسفينة الإنزال (يو إس إس ـ كارتر هول) إلى منطقة الخليج، وعلى متنهما أكثر من (3000 عنصر) من مشاة البحرية الأمريكية. هذا التحرك اللافت ربما يحمل عديد من الدلالات؛ أبرزها بالتأكيد الحفاظ على هذا المجرى الملاحي الاستراتيجي، من مهددات التصعيد المتبادل بن دول المنطقة الذي يمكن أن يؤثر على تدفق 20% من حجم تجارة النفط العالمي، مما قد يؤثر على استقرار الأسعار المتقلبة والمرتفعة بالأساس، جراء الحرب الروسية الأوكرانية. لكن التحرك الأمريكي لا يقف عند هذا الحد على أهميته؛ فهناك عديد من الرسائل موجهة إلى أكثر من طرف في الإقليم وخارجه، فضلا أنه يحمل استدارة عن توجه استراتيجي معلن من قبل واشنطن، بأفضلية الاهتمام بمنطقة شرق آسيا على حساب تقليص الاهتمام والانخراط في قضايا منطقة الشرق الأوسط.
أولى الرسائل الأمريكية ربما تستهدف حلفاءها من دول الخليج، كونها تسعى إلى استعادة ثقتهم وترميم علاقاتها التي تضررت مؤخرا على نحو كبير، على خلفية أولويات الاهتمام الأمريكي التي وجدوا أنها لم تكن على ذات النسق، مع متطلباتهم الأمنية في مياه الخليج وغيرها من القضايا التي بدت فيها رمادية الفاعلية الأمريكية، للحد الذي فتح الأبواب أمام قوى دولية أخرى لاستغلال هذا التراجع من أجل اكتساب مساحات لم تكن متاحة من قبل. ثاني تلك الرسائل موجهة بالتأكيد للصين التي تمثل أهم القوى المتقدمة، وهي الأكثر إثارة للقلق الأمريكي خاصة بعد نجاحها الدبلوماسي في لعب دور الوسيط الدبلوماسي بين السعودية وإيران، والذي قد يشهد تطورا مستقبليا للعب أدوار عسكرية وأمنية فيما بين الدولتين، أو بين دول ضفتي الخليج جميعا استثمارا لعلاقتها مع إيران، وميراثا لدور أمريكي أعلن طواعية عدم الاكتراث بهموم وهواجس دول تلك المنطقة. وهناك من يرى في هذا السياق بعدا انتخابيا أمريكيا؛ حيث تدخل الإدارة الديمقراطية الحالية معترك انتخابات الرئاسة، دون تحقيق تقدم يذكر في مسار حسم الملف النووي الإيراني، الذي سبق للإدارة الجمهورية السابقة أن انسحبت منه مؤكدة عدم الجدوى من التفاوض مع طهران. لهذا ترى إدارة جو بايدن الذي أعلن أنه سيخوض هذا السباق، هذا الملف كونه سيمثل بالضرورة نقاطا سلبية سيصوب الجمهوريون هجومهم عليها، مما دفعه إلى اتخاذ مثل هذا القرار السريع الحاسم قبل الوصول لمحطة السباق الانتخابي الرئاسي بداية العام القادم.
التحشيد العسكري الأميركي يرفع درجة حرارة المياه الخليجية بالتأكيد، خاصة بعد إعلان الجيش الأمريكي عن دراسة نشر عناصر مشاة البحرية على متن السفن التجارية وناقلات النفط العابرة بمضيق هرمز. هذا إجراء غير مسبوق، لكن البنتاجون يستهدف منع إيران من الاستيلاء على السفن المدنية أو مضايقتها وتعطيلها. جاء ذلك بعد أن أرسل البنتاجون قبل أسابيع؛ طائرات مقاتلة إضافية من طراز “F 35″ و”F 16” إلى جانب سفينة حربية إلى الشرق الأوسط، في مسعى لمراقبة الممرات المائية الرئيسية في المنطقة بعد تعرض سفن شحن تجارية إلى احتجاز ومضايقات من إيران. فالجيش الأمريكي لديه مؤخرا قائمة طويلة بوقائع انخرط فعليا في البعض منها، فقد سجل أن إيران احتجزت أو حاولت السيطرة على ما يقرب من (25 سفينة) من جنسيات مختلفة في المنطقة، خلال العامين الماضيين فقط. ولعل عام 2019 شهد الذروة في حالة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، حيث وقعت فيه سلسلة متتالية من الهجمات على سفن الشحن في مياه الخليج فيما عرف حينها بفصل “حرب الناقلات”. وقد اتهمت طهران حينها كلا من واشنطن ولندن بمحاولة الاستيلاء غير القانوني على النفط الإيراني، تحت ذريعة تنفيذ العقوبات المفروضة التي لا تعترف بها طهران. ومنذ ذلك التاريخ والمبارزة على مياه الخليج وفي جواره تتصاعد حدتها كل فترة لمسببات متنوعة، لدى كل طرف منهما دوافعه الخاصة فضلا عن اعتبارات الأمن الملاحي بشكل عام، مثلما جرى في يوليو الماضي الذي ربما يمثل ارهاصات للمشهد الحالي، فعندما أعلنت الولايات المتحدة أن قواتها أحبطت محاولتين إيرانيتين لاحتجاز ناقلات تجارية في المياه الدولية قبالة عمان في الخامس من هذا الشهر، قامت إيران بمصادرة سفينة تجارية في اليوم التالي !
التصعيد الجاري في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران قد يبدو على خلفية فصول سابقة مماثلة، أنه مدروس ولن يخرج عن السيطرة، بسبب حرص الجانبين على التمسك بمسار المفاوضات والوساطات الرامية إلى احتواء الخلافات بينهما. إلا أن دوافع كلا منهما هذه المرة قد تتغلب على التعقل، واحتمالية الانفلات تبدو هذه المرة أقرب من أية فصول سابقة، في ظل مناخ أسخن كثيرا مما يحتاجه النزوع للتهدئة.
.
رابط المصدر: