تأليف: د. طه اللهيبي
يهدف هذا البحث إلى بيان دور القوة الذكية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، كما ويهدف إلى التعرف على الدبلوماسية العامة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، والممارسات العملية للقوة الذكية في منطقة الشرق الأوسط، وبرزت فكرة القوة الذكية الأمريكية على لسان جوزيف ناي في عام 2004، والتي طبقت بشكلها العملي في فترة حكم الرئيس باراك أوباما Barak Obama، وتهدف إلى الجمع بين القوتين الصلبة والناعمة للوصول إلى القوة الذكية “Smart Power” يعني هذا إستخدام كل مقومات القوة للولايات المتحدة الأمريكية، مثلاً القوة الصلبة “Hard Power””العسكرية، العقوبات الإقتصادية، التهديدات وغيرها” والقوة الناعمة “Soft Power” “الدبلومايسية العامة، الثقافة، القيم، وسائل الإتصال الحديث “Social Media”وغيرها من الوسائل”، من أجل تحقيق أهدافها وحماية مصالحها في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع.
لقد تباينت مراحل إستخدام الولايات المتحدة الأمريكية للقوة منذ زمن بعيد، فمنذ عام 2000م وخلال رئاسة “جورج بوش الأبن” إتجهت أمريكا إلى العمل العسكري والذي يمثل جزء من القوة الصلبة ضد أفعانستان في عام 2001م كضربة إستباقية، ومن ثم إحتلال العراق في عام 2003م، فمع الفشل الذي حققته سياسة إستخدام القوة الصلبة في الشرق الأوسط، سعى بعض الإستراتيجيين في ادارة الرئيس باراك أوباما إلى إستخدام سياسة القوة الناعمة الذكية بدلاً من الإعتماد على القوة الصلبة منفردة، من خلالها بدأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى سياسة التغيير من داخل دول منطقة الشرق الأوسط من أجل المحافظة على مصالحها وتحقيق أهدافها. لقد ركزت الولايات المتحدة الأمريكية على بناء مفهوم القوة الذكية كانوع جديد في سياستها الخارجية لحل القضايا في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وأن عصر التكنولوجيا، يعطي الرأي العام العالمي ميزة إضافية، إذ أن المؤسسات غير الرسمية بما فيها مؤسسات المجتمع المدني هي الأجدر على مسايرة الاوضاع الجارية، من هنا تظهر بعض الإستراتيجيات الأمريكية على ضرورة أن لا يقتصر دور سفراء الولايات المتحدة على بلورة السياسات مع حكومات البلدان المضيفة، بل تتعداها إلى شعوب تلك الدول، والعمل على صياغة إستراتيجيات جديدة للدبلوماسية العامة تجعل من المشاركة العامة واجباً على كل دبلوماسي في منطقة الشرق الاوسط.
المحور الاول: التعريف في القوة الذكية “Smart Power Definition”.
إن المفكرين والاستراتيجيين العسكريين قد قدموا الكثير عن مفهوم القوة “Power” منذ القدم، وقدموا عدة تعريفات مختلفة، إلا أن تلك الإختلافات بينهم لم تكن جوهرية، فضلأ عن أن القوة تعني بمجملها قدرة التاثير على الأخرين وإخضاعهم لإرادة القوي، ولعل أشهر من كتب عن مفهوم القوة ” مكافيلي في كتابه الموسوم بعنوان “الأمير” ، لذلك فالقوة في أي حالة كانت إجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو تقافياً فإن من يمتلكها يمتلك الإرادة، ويذهب بتلك القوة إلى ما يخدم أهدافه وتحقق مصالحه القومية، من هنا تعتبر قوة أي دولة من الدول العامل الرئيسي التي ترتكز عليه في سياستها الخارجية، لقد تنوعت المفاهيم والمصطلحات التي قدمت من قبل الإستراتيجيين والمفكرين في السياسة الخارجية بخصوص مضمون القوة يتسم بإسلوب الإكراه المادي، فضلاً عن إمكانية التأثير في سلوك اللاعبين الإخرين بما تحقق مصالح الدولة ذات التأثير القوي في السياسة الدولية، لا سيما وأن القوة تعني مجموعة الإمكانيات المادية والمعنوية التي تمتلكها الدولة والتي تستطيع من خلالها الهيمنة والسيطرة على سلوكيات وحدات النظام الدولي الأخرى .
ان ظهور مصطلح القوة الناعمة “Soft Power”في الادبيات السياسية منذ أوائل تسعينيات القرن المنصرم جاء ليؤكد على أهمية الوسائل السلمية في صنع السياسة الخارجية، وهو ما يوضح إمكانية الدول في التأثير على الدول الأخرى من أجل الوصول الى أهدافها وحماية مصالحها بالطرق السلمية سواء من خلال التأثير الثقافي أو التأثير الإيديولوجي أو أي تأثير ذو طابع سلمي، فضلاً عن إمكانية تحقيق ما تصبوا إليه الدول من خلال سياسة الجذب بعيداً عن سياسة التهديد أو الإغراء، وهذا النوع يبرز من خلال الجاذبية لثقافة دولة ما. فالدولة التي تمتلك هذا الشكل من القوة تستطيع أن تنجز ما تريد وتجذب دولاً وشعوب أخرى في إتباع سياساتها دون اللجوء الى سياسة الترهيب، وذهب جوزيف ناي في كتابه المعنون ب” القوة الناعمة” بالقول إن القوة الناعمة أو القوة الذكية قائمة أساساً على القدرة على تشكيل أفضليات الاخرين .
وظهرت أهمية مصطلح القوة الذكية “Smart Power”في أعقاب الحملة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط في عامي 2001 و 2003 ، وهذا يعني بأن استخدام القوة العسكرية أي القوة الصلبة “Hard Power” وحدها غير قادرة على تحقيق أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ,إيضاً القوة الناعمة “Soft Power”لا تستطيع تحقيق أهداف السياسة الخارجية منفردة، وهذا ما دفع جوزيف س. ناي “Joseph S. Nye”عام 2004م إلى تطوير المفهوم والدمج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة وأسماها القوة الذكية من أجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية . ويرى الأتجاه الحالي في السياسة الدولية إستخدام القوة الذكية في السياسة الخارجية، بمعني العمل على مزج القوة الناعمة والقوة الصلبة للوصول إلى القوة الذكية، أي بمعى إستعمال جميع أدوات الإكراه مع الأدوات السلمية لتحقيق أهداف محددة، كما عرفها مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بأنها إمكانية توفر جيش ذو قوة فاعلة، إلا أنه يُستَغل في تكوين الشركات، والتحالفات، والمؤسسات في مختلف المستويات لتوسيع النفوذ الأمريكي .
من ناحية أخرى، فإن القوة الذكية “Smart Power” تعتبر حلقة وصل ما بين اللَين والقسوة، من خلال القوة الناعمة تستطيع الدولة أن تؤثر بالاخرين عن طريق الإطراء بدلا من الإجبار، وتقديم المساعدات المالية والتبادل الثقافي والعلمي مع اللاعبين الأخرين، والركون إلى الشرعية، مع التهديد الدائم باستخدام القوة، كما أن من وسائل القوة الذكية العمل على توسيع قاعدة الشركات والتحالفات والمنظمات الدولية، والإسهام بالتنمية العالمية التي تقوم على منح المساعدات الإنسانية،كذلك جذب الشعوب في دول العالم عن طريق العمل بالدبلوماسية العامة “ Public Diplomacy”التي تحسن صورة الدولة لدى شعوب الوحدات الدولية الاخرى . يعتبر العامل التاريخي لأمريكا أحد العوامل الرئيسية المحفزة لإستخدام القوة في البنية الدولية ، وتمتلك الولايات المتحدة الأمريكية العديد من القدرات العسكرية والإقتصادية التي تجعل منها القوة الاولى بالنظام الدولي، كذلك تمتلك قدرة الجذب الثقافي عن طريق ادوات مختلفة، ما يجعل منها قوة قادرة على توظيف كل ادوات القوة الذكية. في الجانب الاخر، العمل على دمج مقوماتها وادواتها من أجل إستخدام إستراتيجية جديدة تسمى إستراتيجية القوة الذكية “Smart Power Strategy”، وهو ما يجعل إستعمال تلك القدرات في اقصى حد من حيث قوة الجذب والتأثير على الأخرين .
ان جميع مقومات السياسة الخارجية الأمريكية قد وظفتها الجماعات الضاغطة في الولايات المتحدة الأمريكية، فمنها من يؤيد إستخدام الولايات المتحدة القوة العسكرية والتي تتمثل بالقوة الصلبة “Hard Power”، وتسمى هذه الجماعة ” بجماعة المحافظين الجدد” “The Neo-conservative Group”، إضافةً إلى ظهور جماعة جديدة والمتمثلة بقيادة الرئيس السابق باراك أوباما “Barak Obama” الذي سعى إلى تطبيق فكرة جوزيف ناي والدمج ما بين ” القوتين الصلبة والناعمة لإيجاد قوة جديدة وهي ما تسمى بالقوة الذكية”، كل هذه العوامل دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية إلى الإعتماد على إستعمال القوة بشقيها في سياستها الخارجية من أجل تحقيق أهدافها المنشودة .
إن مصطلح القوة الذكية “Smart Power” يقصد به الممارسة الذكية لإستخدام الدبلوماسية والقوة والتنمية إضافتاً إلى العديد من الوسائل الأخرى، والعمل على وضعها في بوتقة واحدة، وهو ما صاغته إستراتيجية الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما “Barak Obama”في السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن جاءت إستراتيجية القوة الذكية التي خطط لها الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة تحدي كبير جداً يتمثل في الاوضاع المستعرة في الشرق الأوسط.
المحور الثاني: الدبلوماسية العامة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط :
الدبلوماسية “Diplomacy”في شكلها العام تعني مجمل القواعد والمفاهيم والمراسم والاعراف والمؤسسات الدولية التي تنظم العلاقة بين الدولة والفاعلين الأخرين في النظام الدولي، من أجل التوفيق بين علاقات الدول عن طريق الإتصال والمفاوضات السياسية والدبلوماسية وعقد المعاهدات والإتفاقيات الدولية، وتعد الدبلوماسية من أهم الأدوات المستخدمة في السياسة الخارجية لتأثير على الوحدات الدولية الأخرى والمنظمات الدولية من أجل الوصول إلى تأييدها بأشكال مختلفة، منها ما هو سلمي والأخر اجباري . فضلاً عن تواصل دولة ما مع الدول والتفاوض معهما بطريقة دبلوماسية من أجل تعزيز العلاقات بينهما في شتى القضايا وبحماية مصالحها في الخارج، والسعي إلى جمع المعلومات حول أوضاع الدول والجماهير المستهدفة وتقييم مواقفهم تجاه القضايا الراهنة من أجل الوصول إلى الأهداف المنشود تحقيقها . أما فيما يخص الدبلوماسية العامة “Public Diplomacy” ، فقد شهد العقد المنصرم حالة من الرعاية بالدبلوماسية العامة وبممارستها كشكل من أشكال القوى الناعمة “Soft Power”وتعد أهم تلك الأشكال تأثيراً وإستدامة، فقررت دول العالم إلى تحديد إدارات للعمل على صياغة خطط وإستراتيجيات للإستخدام الأكثر أهمية لتلك الممارسة الدبلوماسية، وقد أضحى تلك المفهوم ثورة في عالم الدبلوماسية المعاصرة .
أن إستخدام هذا النوع من الدبلوماسية لم يكن حديثاً، بل تمت إعادة ممارستها بطريقة تتلائم والعصر الحديث، فإن مفهوم الدبلوماسية العامة يعني مجموع الإهتمامات التي تتعهد دولة أو مؤسسة غير حكومية Non-government” Organization” بها من أجل تجميل صورتها أمام الرأي العام، ولا سيما في خارج حدودها، وتعمل على ذلك بطريقة جمع المعلومات عن الجماعات والافراد والمؤسسات الخاصة والعامة، ووسائل الإتصال “Social Media” والصحافة وغيرها من وسائل الإعلام التي تربط أنشطة الدول بشكل إيجابي يؤثر على المواقف العامة، وعلى تحقيق أهداف السياسات الخارجية للدول، ويشمل توجيه الرأي العام في بلدان أخرى . ويكمن سر التفوق في التواصل مع الجمهور الخارجي والرأي العام في صياغة الإستراتيجية الهادفة، وكيفية تقييمها من قبل الجمهور المستهدف، من هنا لا بد من إستخدام كافة الوسائل لإيصال الدبلوماسية العامة إلى الجمهور المستهدف والتركيز على إستخدام المطبوعات والتلفزيون والانترنت والأنشطة الثقافية والاجتماعية والراديو وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي .
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى الدبلوماسية الثقافية “Cultural Diplomacy”وتأثيرها المباشر على الحكومات والشعوب المستهدفة، التي قد تنتقل من دولة إلى أخرى دون اللجوء إلى إستخدام القوة الخشنة، والتي بدورها تعيد تشكيل جميع القيم والافكار والمثل العليا والاذواق والمبادئ وغيرها من المفاهيم التي تنتقل عبر وسائل الإتصال أو عبر التبادل الثقافي بين الامم، وهنا يأتي دور تسويق الثقافات والمفاهيم وجعلها مقبولة لدى الجماهير المستهدفة من تلك الغزو . فالرغبة لدى الدولة في التحول والتطور والإصلاح داخلياً وخارجياً تتمثل في عدة مجالات، وفي هذا المجال فإن الدولة تعمل على تقيم المخاطر والفرص الجديدة التي قد تعترضها خلال مراحل التغيير التي تريدها، فعلى سبيل المثال، يعتبر إستخدام وسائل التواصل الإجتماعي “Social Media”مثل فيسبوك، تويتر وغيرها من وسائل الإعلام البديلة، وهما وسائل لا يتوقف فيهما الخبر، وإن وسائل التواصل الإجتماعي أصبحت طرفاً رئيسياً في إيصال الدبلوماسية العامة لكثير من الدول “States” والمؤسسات غير الحكومية “Non-government Organizations” وجماهير غفيرة من شعوب العالم. ومن الشواهد على إستخدام الدبلوماسية العامة من خلال وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة، ما قام به عدد من الدبلوماسيين في إحدى الدول الغربية على مشاركة الجدل حول ما يجري في إيران والمشاركة بقوة عبر التويتر والفيس بوك لجذب عقول الحمهور الإيراني في أعقاب الإنتخابات الرئاسية الإيرانية .
وفي الحالة الأمريكية وعلى سبيل المثال، يذهب جوزيف س. ناي “Joseph S. Nye”بالقول بأن الولايات المتحدة الأمريكية عندما اذاعت قناة الجزيرة أول تسجيل فيدو لزعيم القاعدة أسامة بن لادن يوم 7 اكتوبر 2001م، حاول صناع القرار في الولايات المتحدة في بادئ الأمر إلى إيقاف قناة الجزيرة وكذلك القنوات الأمريكية من بث الرسائل الواردة من اسامة بن لادن. لكن مع الإنتشار السريع لوسائل الإتصال الأخرى فإن ذلك يعود بالفائدة على إيصال المعلوم بالشكل السريع، وهذا ان دل على شيء يدل على إستغلال وسائل الإتصال المختلفة من أجل نشر الأفكار والقيم والثقافات المختلفة من بيئة إلى بيئة أخرى .
ومن الابعاد الرئيسية التي تركز عليها الدبلوماسية العامة الأمريكية هو اتباع إستراتيجية تعليمية واضحة المعالم في تطوير العلاقات الدائمة مع شخوص رئيسيين على مدى سنوات بعيدة عن طريق منح الزمالات، والندوات، والمؤتمرات، والتبادل الثقافي، والتدريب، والوصول إلى أجهزة وسائل الإعلام الرسمية. فخلال عقود من الزمن اشترك مئات الألوف من طالبي العلم والزمالات والمؤتمرات وغيرها من المشاركات الثقافية والعلمية الأمريكية ومنهم عشرات الألوف من منطقة الشرق الأوسط، وهو ما ساعد العديد من تلك الشخصيات بالوصول الى سدة الحكم أو إلى مناصب حساسة في دولهم . فلا يمكن أن تنجح الدبلوماسية العامة التي تظهر بمظهر الواجهة لإستخدام القوة الخشنة وحدها دون سواها من القوة الناعمة. وفي سياق أخر، فان بعض الكلمات والخطابات والصور التي تجد ترحيباً مع المستهدف المحلي قد تأتي بأثار غير إيجابية بالنسبة للمستهدف الاجنبي، وهو ما حصل في خطابات الرئيس الامريكي الاسبق جورج دبليو بوش “Gourge W. Bush”عندما استخدم كلمة “محور الشر” للإشارة إلى العراق وإيران في خطابه عام 2002م . ومثال أخر على ذلك، إن اعلان الحرب على الإرهاب بعد احداث 11/9/ 2001م لاقى ترحيباً واسعاً بين صفوف الأمريكيين، لكن في المقابل فإن كثير من المستهدفين الاجانب وجدوا بأن الولايات المتحدة تجعل التعاون ضد الإرهاب مستحيلاً، وهو ما يتوافق مع مقولة إمكانية إستخدام فكرة حرب مستمرة الى أجل غير مسمى.
كذلك تسيطيع الشركات الأمريكية العابرة للحدود ان تؤدي دوراً بارزاً، لا سيما وأن علاماتها التجارية وممثليها تربطهم علاقات مباشرة تلمس حاجيات الجماهير، وتستطيع تلك الشركات من لعب الدور القيادي في الإهتمام بالمشاريع ذات الصلة بالدبلوماسية العامة، على سبيل المثال، شركة تكنولوجية تقوم ورشات عمل حول برنامج افتح يا سمسم فضلاً عن إذاعة لبنانية تبث برامج للاطفال باللغة الانجليزي . ومن الجوانب الأخرى للقوة الناعمة التي مارستها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالشكل الصحيح وهي ما تسمى ب ” تسليح المراسلين”، من خلال العمليات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق أبان حرب الخليج الثانية، قامت بوضع المراسلين داخل الوحدات العسكرية الأمامية، اذ كان لهم دورأ كبيراً في تقليص قدرة العراق على تشكيل غضب دولي ضد العمليات العسكرية في العراق.
وفي عام 2003م، شكلت مجموعة من الحزبين الأمريكيين الرئيسيين فيما يخص الدبلوماسية العامة، ان الولايات المتحدة الامريكية تدفع ملايين الدولارات على الدبلوماسية العامة الموجهة إلى الشرق الأوسط، وأوصت اللجنة المشكلة من الحزبين إلى زيادة المبلغ وتعيين مديراً جديداً للدبلوماسية العامة، إضافتاً إلى نشر الديمقراطية والحرية والدفاع عن حقوق الإنسان وغيرها من المفاهيم ذات الصلة بالدبلوماسية والثقافة . كما أوصت بفتح مكتبات، وترجمة العديد من الكتب الغربية إلى اللغة العربية، وزيادة الزمالات والزيارت والمؤتمرات والمنح الدراسية، وزيادة مستوى التواجد الأمريكي على الانترنت، والعمل على زيادة الإنفاق على المؤسسات الأمريكية المتواجدة في المنطقة العربية، ودعم برنامج تدريس اللغة الانجليزية في المؤسسات التعليمة العربية، من أجل خلق قوة ناعمة وتعزيز مفهوم الديمقراطية والحرية في المنطقة .
تعتبر منطقة الشرق الأوسط من أكبر التحديات التي تواجهة قوة الولايات المتحدة الناعمة ودبلوماسيتها العامة، ليس فقط ما تواجهة الولايات المتحدة من خطر المتطرفين المتشددين في منطقة الشرق الأوسط الذين نفذوا الاعتداءات على ابراج التجارة العالمية والتي تسمى باحداث 11 من سبتمبر 2001م، لكن هناك تحدي أخر والمتمثل بعدم أقلمة المنطقة بالشكل المطلوب مع التغيير. فالمنطقة غير قابلة إلى إستيعاب المفاهيم الأمريكية بالشكل الجيد، فمثلاً معظم دول العالم يتمتع بالديمقراطيات بإستثناء المنطقة العربية التي لم تتقبل العمل بممارسة الديمقراطية فيها، فضلاً عن التطور الاقتصادي الذي يسير بشكل بطيء جداً مقارنة مع بعض دول الجوار.
هناك بعض الشواهد على الدبلوماسية العامة:
1- ومن الأدلة على الدبلوماسية العامة تلك الاعمال التي قام بها المحتجين ضد الحكومة فيما بعد الانتخابات التي جرت في إيران عام 2009، والدور البارز الذي لعبته بعض الدول الغربية في إذكاء الخلاف من خلال شبكات التواصل الاجتماعي في جذب عقول الشباب المحتجين.
2- كذلك الإنتقاد الذي وجهه بعض السياسيين الأمريكيين إلى تجييش السياسة الخارجية وهو ما يؤدي إلى تقليص مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤيدون الدبلوماسية العامة التي تقوم على الوسائل الإعلامية الجديدة والتواصل بين الثقافات.
3- وكذلك من الشواهد على لجوء الولايات المتحدة الأمريكية إلى إستخدام الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة خلال فترة رئاسة باراك أوباما، وتقليص دور القوة الصلبة في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، ومن الامثلة على ذلك تشجيع التبادل العلمي، والمساعدات الإنسانية في مناطق النزاع في الشرق الأوسط، اضافتاً إلى الجوء لسياسة الحوار في مفاوضات الملف النووي الإيراني، والعودة عن إستخدام القوة العسكرية ضد سوريا ، وحث الاطراف المتنازعة على الحوار والتفاهم لحل الأزمة السورية.
المحور الثالث: القوة الذكية تجاه منطقة الشرق الاوسط:
في البداية كما أشارنا سابقاً، لا بد من معرفة الجذور الفكرية للقوة الذكية والتي تتم من خلال دمج القوتين الناعمة والصلبة بحيث لا يمكن الإستغناء عن إحداهما من أجل التعامل بالقوة الذكية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية. من هنا تعتبر القوة الذكية “Smart Power” من أهم المفاهيم العصرية التي طُرحت في الفكر الإستراتيجي الأمريكي “American Strategic Thouht” الذي يسعى إلى التغيير المتجدد لبناء إستراتيجيات عملية تستخدم من قبل الحكومات الأمريكية المتعاقبة على سدة الحكم، ويأتي ظهور مصطلح القوة الذكية بعد الفشل الذي نتج عن إستخدام القوة الصلبة في منطقة الشرق الاوسط لا سيما في أفغانستان والعراق خلال إدارة الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش “Gorge W. Bush Administration” ، ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي تناول المفكر”جوزف س. ناي” في كتابه المعنون بالقوة الناعمة الذي خط فيه أولى خطواته الفكرية بعد الإنفراد الأمريكي بالهيمنة على العالم “Power Conversion”.
كذلك عمل “جوزيف ناي” “Joseph Nye”على حث الولايات المتحدة من أجل العمل بسياسة القوة الذكية “Smart Power” والتي تعني إستخدام الوسائل الدبلوماسية والسياسية والثقافية وغيرها من وسائل الإتصال، فضلاً عن الدبلوماسية الشعبية والتي تعد أحدى أهم وسائل القوة الناعمة فيما يخص مختلف الثقافات في أنحاء المعمورة من أجل إمكانية الإشتراك في حل القضايا العالمية، وهي أحدى الوسائل التي تحث الجماهير على المشاركة السياسة من خلال الترويج لمفهوم الديموقراطية والحرية، مع عدم التخلي عن القوة العسكرية ، فضلاً عن الدفع بالإقليات التي تبحث عن التحرر والإنفصال كما يحدث مع الإقلية الكوردية في كل من العراق وسوريا، إضافتاً إلى المؤسسات الداعمة لتعليم في أمريكا من خلال مشاريع متنوعة كمشروع فولبرايت في العراق وغيرها من المشاريع التي تسعى إلى نشر المفاهيم الأمريكية في المنطقة.
ان الممارسات العملية للقوة الذكية “Smart Power” في السياسة الخارجية الأمريكية قد يكون من الصعب كشفها، لإنها تشكل نوع من أسياسيات التفاعل في النظام الدولي، إذ أن الممارسات العملية لتطبيق القوة الذكية يعتمد على ما يشهده النظام العالمي من توفر هائل بالمعلومات التكنولوجية التي قلصت الوقت للحصول على المعلومات بين دول العالم ، مع إنها زادت الفجوة بين دول الغنية ودول الفقيرة، ولا سيما دول منطقة الشرق الأوسط، ولما تحتويه المنطقة من موقع وعمق إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وبالإشارة إلى تلك الإستراتيجية، عمدت الولايات المتحدة الأمريكية على ربط الأمن العالمي بأمن منطقة الشرق الأوسط.
هناك بعض الشواهد على إستخدام الولايات المتحدة الأمريكية للقوة الذكية في الشرق الأوسط:
إضافةً إلى ما سبق لا بد من الإشارة إلى بعض النماذج في منطقة الشرق الأوسط التي استخدمت فيها القوة الذكية “Smart Power” من أجل التغيير سواء كان بوسائل القوة الناعمة أو بالقوة الصلبة. بدايتاً القوة الذكية “الناعمة” كنموذج على الممارسات العملية في التغيير في منطقة الشرق الأوسط. فمثلاً مصر وتونس والإطاحة بأنظمة الحكم في كلتا الدولتين، والجدل القائم بين الأوساط الرسمية والشعبية العربية حول ما حدث في مصر وتونس هو ثورة حقيقية أم مؤامرة أمريكية لإعادة تقسيم المنطقة العربية . وبالإشارة للقوة الذكية وممارساتها العملية، إن ما حصل في تلك الدولتين من تعبئة شعبية خلال فترة الثورة وقبلها من خلال وسائل الإتصال السريع والتي ترتبط بشكل مباشر بالشبكة الدولية للمعلومات “الإنترنت” وما هو معلوم بإرتباط تلك الشبكة بإجهزت التجسس الإمريكية بشكل أو بأخر ، وتعتبر مواقع الإتصال السريع من أهم المواقع في الحصول على المعلومات عن الجماهير، وكان لتلك المواقع دوراً هاماً في عمليات تجييش الجماهير ضد أنظمة الحكم في مصر وتونس. من هنا لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الامريكية استخدمت سياسة القوة الذكية (الناعمة) في سياستها الخارجية لتحقيق هدفها بالإطاحة ببعض أنظمة الحكم في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أشار اليه جوزف ناي في كتابه حول إستخدام القوة الناعمة دون الجوء إلى القوة الصلبة المباشرة.
القوة العسكرية في بعض الدول العربية كنموذج عملي على ممارسات القوة الذكية ” الخشنة أو الصلبة” مثالاً على ذلك ليبيا، حينما تناول المفكر الأمريكي جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة “Soft Power”، اشار إلى أن إستخدام وسائل القوة الناعمة لا يعني هذا إغفال القوة الصلبة أو تقليص دورها، ولكن دمج القوتين معاً للوصول إلى ما تسمى بالقوة الذكية، والمراقب للإستراتيجية الأمريكية يجد بأنها تحتوي على وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام 2010م والتي أطلقها الرئيس باراك اوباما وأعلن فيها بالقول” الاداة العسكرية ليست هي الخيار الوحيد في حفظ الأمن، ولكن تبقى خيارًا فاعلاً في الإستراتيجية الأمريكية”. إن وضع ليبيا من العمليات العسكرية التي جرت وتجري على الساحة توضح مدى إستخدام الولايات المتحدة الأمريكية للقوة الذكية “الصلبة”، إلا أن العمليات العسكرية في ليبيا لم تكن أمريكية بصورة مباشرة بل كان من يقود حرباً بالوكالة عنها، فضلاً على أن هدف العمليات العسكرية لم يكن فقط الاطاحة بنظام القذافي بل ايضاً بإختبار قوة القائمين على العمليات العسكرية في ليبياNATO .
كما وتوضح العمليات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية على العراق في عام 2003م نموذجاً بارزاً في تفاعل القوتين الناعمة والصلبة فيما بينهما. فإن الحرب التي شنتها الولايات الأمريكية على العراق وإحتلاله والقائمة على القوة العسكرية مثلت جانب من القوة الذكية، وبالمقابل، شكلت هزيمة العراق أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991م نقطة تحول في منطقة الشرق الأوسط والتي تمثلت باتفاق أوسلو بشأن عملية السلام العربية- الإسرائيلية، كما أن إحتلال العراق والإطاحة بنظام الحكم قد يشكل نوع من سياسة الردع لكل من سوريا وإيران . وفي الجانب الأخر، أعتقد كثير من صانعي القرار في الولايات المتحدة الأمريكية ان اللجوء إلى إستخدام القوة الصلبة يؤدي إلى نشر الديموقراطية والحرية في العراق، فضلاً عن تصدير الكثير من وسائل القوة الناعمة كالديموقراطية، والحرية، وتمكين النساء، والحكم الرشيد، وتغيير المناهج وغيرها من المفاهيم إلى منطقة الشرق الأوسط. إلا أن الإنطباع الاولي عن الهجوم على العراق وإحتلاله على الرأي العام العربي والإسلامي كان سلبياً، وكشفت وسائل الإعلام المرئية والمقرية والمسموعة عن كثير من الفضائع الأمريكية في العراق.
أما فيما يخص الحالة الإيرانية لقد صرح باراك أوباما “Barak Obama” منذ توليه الرئاسة إلى أتباع سياسة جديدة أتجاه إيران يهدف إلى إبقاء العامل العسكري معلقاً ” القوة الصلبة”، وإعطاء أفضلية لإستخدام العمل الدبلوماسي “القوة الناعمة” بشأن ملف إيران النووي. إذ أن إلادارة الأمريكية أنذاك فضلت إستخدام القوة الناعمة والإبقاء على القوة الصلبة معلقة تجاه إيران نظراً لحسابات كثيرة تعاطت معها السياسة الخارجية الأمريكة، ومنها إذ تم ضرب المفاعلات النووية الإيرانية، قد تتعرض المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط لهجمات أنتقامية من قبل إيران . من هنا قدمت القوة الذكية في التعاطي مع الازمة الإيرانية، من خلال العمل الدبلوماسي المباشر من أجل أنهاء تلك الأزمة والإبقاء على العقوبات الإقتصادية على إيران في حال لم تتوصل القوى الكبرى وإيران إلى حل نهائي للأزمة الإيرانية، فضلاً عن عدم التخلي عن القوة الغسكرية.
بينما الحالة السورية التي بدأت مجريات وقائعها منذ عام 2011م فقد تمثلت بوجود عدة أطراف دولية في الصراع السوري-السوري، وتلك الأطراف جميعها داعمة لنظام السوري بإستثناء تركيا التي تقف قريبة من خط المعارضة السورية، وبالنظر إلى ما يحدث في سوريا جعل الولايات المتحدة الإبتعاد عن إستخدام القوة العسكرية المباشرة “القوة الصلبة” للإطاحة بنظام بشار وذلك بسبب: الدعم المقدم من الصين وروسيا إلى النظام السوري وإستخدامهما لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد أي عمل أمريكي تجاه سوريا. لذا عمدت الولايات المتحدة على تأخير الخيار العسكري في سوريا وإستخدام وسائل القوة الذكية من خلال:
1- الدعوة إلى التغيير السياسي، وإقامة دولة مبنية على الديموقراطية للشعب السوري أجمع.
2- فرض مزيداً من العقوبات الإقتصادية.
3- عزل سوريا دولياً وأقليمياً.
4- دعم وتسليح مجموعات من المعارضة وخاصتاً الموالية منها للولايات المتحدة مثل قوات سوريا الديموقراطية “الكردية”.
وبناء على ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية إستخدمت ” القوة الذكية” تجاه الملف السوري لتحقيق مساعي أخرى، مثل العمل على تقويض قدرات وإمكانيات الدولة السورية وحلفائها، وتقسيم سوريا إلى دويلات عن طريق خلق العداء والكراهية بين طوائف الشعب السوري، اضافتاً إلى إضعاف قوة وقدرة الدولة السورية لتضمن سلامة وأمن إسرائيل ، ناهيك عن إستخدام الولايات المتحدة الأمريكية للقوة العسكرية ” القوة الصلبة” ضد قوات النظام السوري في فيما بعد أحداث “خان شيخون” التي راح ضحيتها عدد من الاطفال نتيجة إستخدام المواد الكيماوية، يعني هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تعاملت مع الأزمة السورية بالقوة الناعمة والقوة الصلبة، وهو ما يعني إستخدامها إلى القوة الذكية “Smart Power” نتيجة مزج القوتين وعدم التخلي عن إحداهما، فضلاً عن إشتراكها في مفاوضات الملف السوري في الأستانة.
وخلاصة القول إن ما تناوله مصطلح القوة الذكية، يدل على أن الخيار العسكري ما زال فاعلاً في السياسة الخارجية الأمريكية، والشاهد على ذلك العمليات العسكرية التي جرت في كل من العراق وليبيا وسوريا والتي تبين الممارسة العملية لإستخدام القوة الذكية “الصلبة”. في حين ان سياسة القوة الذكية “الناعمة” استُخدمت عملياً في تغيير بعض أنظمة الحكم العربية من خلال ما يسمى ب” الربيع العربي” بوسائل القوة الناعمة من خلال الإعلام ووسائل الإتصال السريع مثل مواقع التواصل الإجتماعي، وهذا ما يؤكد نجاحها في بعض الأمور، ولكن ليس بالشكل الكلي، وهو ما يحتاج إلى فترة من الزمن لتشهد القوة الذكية نجاحاً شاملاً في منطقة الشرق الأوسط.
المحور الرابع: الرؤية المستقبلية للقوة الذكية الأمريكية في الشرق الأوسط
أتساقاً مع أهداف هذا البحث، إن مستقبل الفكر الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية سيكون نتيجة لإستمرارية إستخدام القوة الذكية في السياسة الخارجية، وهو ما يوضح ممارستها بشكل مؤقت، في حين أن استمرارية سياسة القوة الذكية لا سيما في المجالات التطبيقية تشير في بعض الاحيان إلى تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، لذا لا بد من إعادة المراجعة لمفهوم القوة الذكية وإضافت بعض العناصر إليها، وهو ما يجعل منها قاعدة انطلاق لتعزيز الهيمنة الأمريكية على العالم. يشير Christian Whiton من خلال كتابه الموسوم بعنوان “القوة الذكية بين الدبلوماسية والحرب” بشكل مقنع بأن هذه الممارسات الناجحة تاريخياً تحتاج إلى أن تكون جديدة ومحدثة للوضع العالمي الحالي، فالقوة الذكية ليست قائمة مرجعية بخيارات السياسة العامة أو لمزيج بسيط من القوة العسكرية للمساعدة الخارجية، بل مجموعة واسعة من الإجراءات وطريقة التفكير . ووفقاً لمقاييس القوة يشير جوزيف ناي في كتابه “مفارقة القوة الأمريكية” إستراتيجية واضحة المعالم لإعادة التعريف بالمصالح القومية الأمريكية في عالم متغير، رغم تفوقها في كافة المجالات، ويمتد تأثيرها إلى اللغة وأساليب الحياة والثقافة والفكر .
وطبقاً لأهداف هذا البحث، لا بد من الإشارة إلى الضغوط التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية لإعاقة إستمرارية توظيف القوة الذكية بصفتها وسيلة لقياس الفكر الإستراتيحي الأمريكي والتي تتمثل بالضغوط الدولية المتجددة في منطقة الشرق الأوسط، مقارنتاً بالشعور الدولي والمحلي بتراجع الدور الأمريكي الخارجي، وعدم قدرتها على حسم الصراعات في منطقة الشرق الأوسط على الصعيدين العسكري منها أو الدبلوماسي، والتي تشكل تهديداً جوهرياً قد يطال هيبة الولايات المتحدة دولياً خصوصاً مع أنخراط قوى دولية أخرى في تلك الصراعات. وإتساقا مع ذلك يقول جوزيف ناي في كتابه مستقبل القوة الأمريكية، هناك تيار داخلي خارجي يميل للإعتقاد بتراجع الولايات المتحدة، مثل مجلس المخابرات الوطني الذي توقع إنتهاء الهيمنة الأمريكية عام 2025م . وفي نفس السياق يشير بريجنسكي في كتابه رؤية إستراتيجية إلى القول ” تاريخياً استمرت الولايات المتحدة على إثبات نفسها بأنها ترتقي إلى مستوى الحدث عندما تواجه حدثاً، إلا أن عالم ما بعد الهيمنة الأمريكية يثير إشكاليات تختلف عن مثيلاتها في القرون الماضية، لا سيما وأن شعوب العالم أضخىت أكثر وعياً في المجال السياسي، فضلاً عن غليان ملايين البشر الذين يرغبون بمستقبل أفضل، فإن العالم الحالي لا يرغب بهيمنة دولة منفردة على العالم، حتى وأن كانت تملك من القوة ما تملك مثل الولايات المتحدة الأمريكية .
كذلك ستشهد الولايات المتحدة الأمريكية تراجعاً نسبياً على المدى البعيد المنظور في قوتها الصلبة مقارنة مع بعض الدول الصاعدة مثل روسيا والصين التي تمارس نشاطها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا لا بد من الإشارة إلى التراجع الكبير في تحقيق الجاذبية للولايات المتحدة الأمريكية، وعدم قدرتها على إتباع أسلوب إقناع الأخرين، والأثار التي تترتب على هيبة الولايات المتحدة الأمريكية ضمن التراتبية الهرمية لنظام الدولي، وهو ما يترتب علية قدرتها على دمج إستخدام وسائل القوة الناعمة المختلفة مثل الجذب والاقناع والتي تحصل عليها عن طريق السمعة الجيدة من قبل وحدات المجتمع الدولي بما فيها دول منطقة الشرق الأوسط. اذا كانت المؤشرات سالفة الذكر، تشير إلى العمل المؤقت بالقوة الذكية في الفكر الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، فان هناك بالمقابل مجموعة من المؤشرات الإيجابية محفزة لوسيلة القوة الذكية، التي تدفع بإستمرارية العمل بها ضمن الفكر الإستراتيحي للولايات المتحدة الأمريكية، ومع تطور مفهوم القوة في النظام الدولي، وتوفر العديد من مصادرها، أدى ذلك إلى هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً في حين يشهد النسق الدولي تعددية تكنولوجية وإقتصادية.
من هنا يرى الباحث إنه من خلال ما سبق لا بد من إستمرارية العمل بالقوة الذكية في الفكر الأستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، كون تلك الوسيلة هي الأفضل للولايات المتحدة في ظل ظروف منطقة الشرق الأوسط الحالية والتي تشهد مزيداً من عدم الإستقرار والصراعات والتدخلات الدولية والأقليمة، لذا قد تشكل أدوات القوة الذكية بشقيها الصلب منها والناعم مزيداً من إستمرارية الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم المعاصر. فالقوة الذكية تبدي وجود العمل الدبلوماسي مع عدم التخلي عن حماية المصالح والأهداف الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. ومع هذا فإنه لا يعني بالضرورة إستمرارية سياسة القوة الذكية مستقبلا، حتى بالنسبة لإدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب والتي ستستمر ولايته لغاية عام 2021م، بمعنى أنه ليس بالضرورة الإستمرارية بالتفوق أو النجاح في كل المراحل، رغم ما تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية من إمكانيات في القوة التي تضمن لها التفوق، إن المتغيرات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية هي ستحدد مؤشرات القوة والضعف في الهيكل الأمريكي، فضلاً عن تأثيرها على صانع القرار الأمريكي الحالي الرئيس دونالد ترامب، والهيكل الأمريكي هو من يحدد إستمرارية إستخدام القوة الذكية أو التخلي عنها في منطقة الشرق الأوسط.
الخاتمة:
تعد سياسية القوة الذكية “Smart Power”التي أعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية في سياستها الخارجية بعد وصول الرئيس باراك أوباما لسدة الحكم، ما هي الإ مرجلة من مراحل تطور الفكر الإستراتيجي الأمريكي تجاه النظام الدول بشكل عام ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، وهذا يتضح من خلال تحول إستراتيجيتها العسكرية أي القوة الصلبة التي تشكل جزء من القوة الذكية فيما بعد وصول باراك أوباما إلى السلطة، أذ تبنى نهج جديد في سياسته لتحقيق أهم مساعي الولايات المتحدة الأمريكية وهو الحفاظ على إنفرادها في قيادة العالم. إن العمليات العسكرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وخاضتاً في أفغانستان والعراق شكلت هاجساً لدى حكومات وشعوب المنطقة، والذي أضحى سببا رئيسيا في عمليات التغيير في الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية وتحولها من القوة الصلبة إلى القوة الذكية بعد دمج القوتين الصلبة والناعمة في إستراتيجية واحدة والتي تضم مختلف الوسائل العسكرية والإقتصادية، والثقافية، ووسائل الإتصال الحديث والدبلوماسية وغيرها من محتلف المجالات الأخرى تجاه منطقة الشرق الأوسط.
إذ يمكن الإشارة إلى أن رفع شعار التحول كان يعني تحول وسائل تنفيذ السياسة الخارجية، بعد الإستراتيجية التي أتخذها سلفه جورج بوش الأبن، أتبع توظيف القوة العسكرية “الصلبة” لتحقيق مساعي سياسته الخارجية، فأنتهج إستراتيجية جديدة تستخدم القوة بمفهومها الذكي، أي بمعنى سياسة القوة الذكية “Smart Power، وهي ما تعني إستخدام وسائل القوة الناعمة بدلاً من إستخدام وسائل القوة الصلبة، بهدف تحقيق إستراتيجية أمريكية مقبولة وفعالة في منطقة الشرق الأوسط بإعتبارها من أهم المناطق الحيوية بالنسبة للمصالح الأمريكية، لذا ظهرت الممارسات العملية للقوة الذكية في السياسة الخارجية الأمريكية في عدد من الدول العربية التي استخدمت فيها تلك السياسة سواء على مستوى القوة الناعمة أو القوة الصلبة، ولما تحتويه المنطقة من موقع وعمق إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وبالإشارة إلى تلك الإستراتيجية، عمدت الولايات المتحدة الأمريكية على ربط الأمن العالمي بأمن منطقة الشرق الأوسط.
رابط المصدر: