صاغت الصين موقفها منذ عام من الحرب الروسية- الأوكرانية بما يتوافق مع إدراكها للهدف من التحالفات الدولية، وهو تحقيق مصلحة الدولة. وعلى مدار اثني عشر شهرًا، واصلت الصين تقييم وإعادة تقييم موقفها من خلال رصد انعكاسات الحرب الأوكرانية عليها، وهو ما يفسر ديناميكية الموقف الصيني من الحرب. وما يجعل الصين تبدو متناقضة بشأن دعمها لأي من الطرفين في الحرب الروسية الأوكرانية حساباتها الجيوسياسية الدقيقة والتقييم المتكرر لردود الأفعال على مواقفها؛ الأمر الذي يجعل حسابات الربح والخسارة معقدة في كثير من الأحيان. وبميزان الربح والخسارة، يمكن تقييم التجربة الصينية خلال الحرب الروسية-الأوكرانية من خلال استعراض عدد من النقاط:
أولًا) مكاسب الصين من الحرب
مكاسب اقتصادية: حققت الصين مكاسب اقتصادية من الحرب اعتمدت بالدرجة الأولى على أن الحرب أدت إلى عزل موسكو من الناحية الاقتصادية عن الغرب، مما أدى إلى سعي موسكو إلى تعزيز علاقاتها مع بكين وما نتج عن ذلك من نمو للتجارة بين البلدين بنسبة 29.5% خلال عام 2022، مع ميل الميزان التجاري لصالح بكين. ومن هنا فإن الحرب التي كانت ولا تزال لها آثار اقتصادية سيئة على أغلب دول العالم تقريبًا كان لها تأثيرات إيجابية على الصين، فقد عززت من الطلب على السلع الصينية في البلدان الأوروبية والأمريكية، وزيادة صادرات بكين إلى السوق العالمية.
نظرية الدروس المستفادة: مثلت الحرب – الروسية الأوكرانية التجربة العملية الأقيم والأقرب من حيث المدى الزمني حول سقف رد الفعل الذي ستواجهه بكين في حال قررت تغيير الوضع في تايبيه من جانب واحد، وهي معلومات حيوية بالنسبة لدولة تمتلك قضية مثل قضية تايوان لما فيه من مثال حي يبنى عليه، خصوصًا مع الأخذ بالحسبان أن أطروحة أن اقتصاد الدول المتقدمة يشكل عامل ردع بالنسبة للعقوبات أثبتت زيفها في الحرب الروسية- الأوكرانية. ولذلك، حرصت بكين على عدم دعم العقوبات الغربية على روسيا في جزء من رفضها لأحادية القطب التي تسير المسرح السياسي العالمي، ولكن لا ينبغي فهم ذلك على اعتبار أن الصين أسقطت البعد العسكري من حساباتها في تايوان.
العملات الرقمية: شكلت الحرب فرصة لروسيا والصين لمزيد من التوجه إلى مسألة العملات الرقمية؛ هربًا من العقوبات، خصوصًا أن تقارب الدولتين من إيران جعل في تجربة طرد طهران من نظام سويفت وكيفية تعاملها مع الأمر من خلال البحث عن بدائل مثالًا يحتذى، مع التركيز هنا على أن الحجم النسبي للاقتصاد الإيراني وتأثيره في النظام الاقتصادي العالمي أقل بكثير من الاقتصاد الروسي وبمنطق الأمور الصيني أيضًا.
ثانيًا) الخسائر التي تعرضت لها الصين جراء استمرار الحرب
الدفع بالصين للخطوط الأمامية من المواجهة: في الأيام الأخيرة، ظهرت تحذيرات من جانب واشنطن إلى بكين من مغبة دعم روسيا من الناحية العسكرية، وربما جاءت التصريحات الأمريكية مدفوعة بتقارير استخباراتية مركزية كشفت النقاب عنها صحيفة “وول ستريت جورنال” أشارت إلى قيام الصين بتقديم دعم عسكري إلى موسكو، وهو ما سارعت بكين إلى نفيه. وحسب مجلة “فورين بوليسي” فقد تم نقل طائرات مُسيرة زهيدة التكلفة، من صناعة شركة صينية إلى أرض المعركة عن طريق وسطاء إلى طرفي الصراع، ولم يشر التقرير إلى تورط مباشر للحكومة الصينية في نقل المسيرات. والخطير في أمر هذه التحذيرات الأمريكية أنها تنذر بحدوث صراع عالمي؛ لأن الدعم العسكري يشكل خطًا أحمر ليس فقط بالنسبة لواشنطن وإنما بالنسبة للأوروبيين أيضًا، ما ينذر بوضع أسوأ من وضع الحرب الباردة.
مبادرة الحزام والطريق: إن أوكرانيا، بوصفها دولة رئيسة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، تتمتع بأهمية نموذجية قوية للتعاون بين الصين والدول الأخرى على طول الطريق. لكن احتمال تنفيذ بكين استثمارات استراتيجية على الأراضي الأوكرانية بات قريبا من الصفر مع استمرار الحرب وتركيز الروس على استهداف البنية التحتية الأوكرانية.
التقارب على مستوى دول حلف الناتو: لا شك أن العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا أسست لمزيد من التقارب بين الدول الأعضاء في حلف الناتو؛ على اعتبار أن أي دولة قد تكون مهددة من جانب موسكو ويحقق ذلك الأهداف الجيوسياسية للولايات المتحدة عن طريق توسيع الشراكات الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ “إندو-باسيفيك”، وهو ما حدث بالفعل منذ اندلاع الحرب في تضييق للخناق على الصين.
ثالثًا) أسباب ديناميكية الموقف الصيني
في البداية، تجدر الإشارة إلى أن الصين ليست مهتمة بصراع طويل الأمد وعالي الكثافة بسبب المخاطر السياسية والاقتصادية التي قد تجلبها هذه الحرب، في الوقت الذي لا تريد فيه أن ترى الهزيمة الكاملة لروسيا. ومن هذا المبدأ الأساسي تنطلق ديناميكية موقف الصين من الحرب، وتحركها جملة من الأسباب:
حادثة المنطاد وتصاعد الخلافات مع واشنطن: شكل إسقاط واشنطن للمنطاد الصيني فوق أراضيها نقطة تحول وتراجع في مسار العلاقات الصينية الأمريكية، خصوصًا أنه قد ترتب على الحادثة إلغاء وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكن” لزيارته التي كانت مقررة للصين للتباحث حول عدد من الملفات. وردًا على ذلك وصفت بكين السلوك الأمريكي بالـ “هستيري”.
ورغم أن الحادثة أدت بالفعل إلى تراجع العلاقات فإن واشنطن لا تريد قطيعة مع الصينيين بل على العكس فإن زيارة بلينكن التي كانت مقررة للصين كأول زيارة لمسؤول أمريكي منذ خمس سنوات تشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى إلى التقارب مع الصين؛ بغية دفع الصين إلى اتخاذ موقف محايد من النزاع في أوكرانيا، في وقتٍ يراهن فيه الكرملين على دعم بكين الاقتصادي والعسكري.
التنافس على القارة الأفريقية: للصين مصلحة ضخمة مع روسيا تتمثل في الرغبة في النفاذ إلى القارة الأفريقية. وبطبيعة الحال، فإن التعاون الصيني – الروسي في أفريقيا قد يتحول الى نوع من التعاون لتحجيم نفوذ باقي الدول، إلا أن الصين وروسيا قد تواجهان نوعًا من المقاومة في أفريقيا. وحسب التقرير الصادر عن مؤتمر ميونيخ والمؤلف من 176 صفحة، فإن أفريقيا غير مهتمة بدعم نظام عالمي تقوده الصين وروسيا، وأن مواقف الدول الأفريقية تجاه روسيا والصين تتغير نتيجة حرب موسكو على جارتها أوكرانيا.
ومن أوجه التنافس التي برزت بوضوح خلال هذا الشهر قيام الصين وروسيا بتدريبات عسكرية موسعة تستمر لمدة عشرة أيام في جنوب أفريقيا، وعلى الجانب الآخر تجري الولايات المتحدة مناورات عسكرية في شرق القارة الأفريقية وتحديدًا في كينيا، وتوصف بأنها الأكبر للقيادة الأمريكية في شرق أفريقيا بمشاركة القوات المسلحة الكينية وحضور عناصر من: الصومال، وأوغندا، ورواندا، وبوتسوانا، وجيبوتي، ودول أخرى. وبحسب مصادر عسكرية كينية، تشهد المناورات التي اختتمت في 24 فبراير مشاركة حوالي 3 آلاف جندي أمريكي، وتتضمن تدريبات ميدانية وتمارين بالذخيرة الحية، وتدريبات بحرية، فضلا عن “عمليات خاصة وتدريبات على الحرب الإلكترونية”.
المخاوف الصينية: أولت الصين مؤخرًا أهمية للمخاوف المتعلقة بالأمن القومي بدلاً من النمو الاقتصادي بوصفه محركًا رئيسًا للسياسة الخارجية الصينية، ومن هنا فإن مسألة تايوان ليست قضية ثانوية بالنسبة لبكين وإنما هي من المؤثرات الأساسية على سياستها الخارجية. ولما كان الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يتمدد بنفوذه عن طريق التحالفات إلى تلك المنطقة، فإن من واجب الصين أيضًا الاصطفاف إلى جانب حلفائها. وعلى هذا، فإن مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها بكين ليست مجرد مشروع اقتصادي يركز على البنية التحتية، بل يروج للمعايير والقيم الصينية في مواجهة نظيراتها الغربية.
رابعًا) أوجه الديناميكية في الموقف الصيني
المطالبة بالتحقيق في تفجير السيل الشمالي: في السادس عشر من فبراير الجاري دعت الصين عن طريق خارجيتها إلى إجراء تحقيق موضوعي ومهني في حادث تفجير خط أنابيب “السيل الشمالي” وتقديم المسؤولين عن ذلك إلى العدالة. ولا شك أن مطلبًا صينيًا مثل هذا يستهدف مباشرة الولايات المتحدة وأوروبا؛ فحسب التحقيق الصحفي الذي أجراه الأمريكي “سيمور هيرش”، أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج على تفجير خط الأنابيب العام الماضي. ومرة أخرى في الحادي والعشرين من الشهر الجاري، أعلن مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة تشانغ جون أنه يمكن للأمم المتحدة، بصفتها المنظمة الدولية التي تتمتع بأكبر سلطة، أن تلعب دورًا في التحقيق حول حادث خط أنابيب “السيل الشمالي”.
ولا شك أن مثل هذا الموقف يصب في صالح روسيا. وقد رحبت بكين كذلك بمشروع القرار الروسي المقدم إلى مجلس الأمن الدولي اعتقادًا منها أنه من المهم للغاية السماح بإجراء تحقيق دولي في تخريب خط أنابيب “السيل الشمالي” معتبرة تصريحات الولايات المتحدة التي نفت فيها مسؤوليتها غير كافية. وحسب التقارير الإعلامية، فإنه في 26 سبتمبر وقعت هجمات إرهابية على خطي أنابيب تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، ولم تستبعد ألمانيا والدنمارك والسويد وقوع عملية تخريب مقصودة ضد هذه الأنابيب في قاع بحر البلطيق.
وباختصار غير مخل، ترى واشنطن أن أي تعاون أوروبي –روسي يثير مخاوف من أن تتحقق رؤية الرئيس الفرنسي الأشهر شارل ديجول والخاصة بالقارة الأوراسية، تلك التي تمتد من المحيط الأطلسي غربًا وصولًا إلى جبال الأورال شرقًا، أي وحدة جيوسياسية ما بين أوروبا بشكلها الحالي وأجزاء كبرى من آسيا.
مبادرة السلام الصينية: شكلت خطة الصين للسلام في أوكرانيا والتي تضمنت 12 بندًا دحضًا للادعاءات الغربية للصين بالانحياز لروسيا من جانب، واندماجًا بشكل أكبر من جانب الصين في الحرب من جانب آخر؛ عن طريق لعب دور الوسيط. ويشير ذلك إلى أن يكين قررت أن يكون لها دور أكبر، ويؤكد أن للصين موقفًا متغايرًا يتماشى مع تغير المعطيات على الساحة الدولية.
ويبدو أن رد فعل الغربي على المبادرة حتى الآن يوحي بأنه لم يتم استيعاب الدرس، لأنه لو فشل الغرب في انتهاز فرصة الوساطة الصينية فسوف تصبح مساعدة الصين لروسيا في الحرب أكثر كلفة وبمخاطر كبيرة على أوكرانيا والاستقرار الإقليمي؛ فبكين بعد أن رفضت الضغوط الغربية لإدانة الحرب تحركت الآن للعب دور حيوي لأن الصينيين لن يقفوا موقف المتفرج أمام هزيمة الروس بالكامل، وخطة السلام المقترحة هي خطوة تجاه ذلك الهدف.
ختامًا، إن مثل هذا التأييد لموقف روسيا من الحرب مع عدم الفصل في نتيجة الصراع نفسه مستوحى من أولوية السياسة الخارجية الصينية الأكثر انتشارًا، والتي تتضمن المنافسة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة؛ خصوصًا في ظل تزايد الغموض بالنسبة لمستقبل النظام الدولي ووجود مجموعة من الدول غير الراضية عن توزيع القوى الراهن في النظام الدولي وعلى رأسها روسيا والصين ودول أخرى في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا أحجمت عن إدانة العملية العسكرية الروسية رغم أنها شكلت اعتداءً صريحًا على القواعد التي استقر عليها النظام الدولي. وعدم تدارك هذا الاستياء الذي يسيطر على دول الجنوب يجعل من السهل استقطاب هذه الدول لتقويض قواعد ومبادئ هذا النظام من جانب أي قوى دولية تتبنى رؤى تصحيحية.
.
رابط المصدر: