تعرف «لعبة الريسك» بأنها لعبة استراتيجية تجسد حربًا، تجري على رقعة ورقية مرسوم عليها خريطة العالم بقاراتها الست، يلعبها نحو ستة لاعبين، فوق سن العاشرة، يتنافسون فيما بينهم للسيطرة على العالم باحتلال الدول التابعة لكل واحد منهم، وحماية ما تحت أيديهم من أراض، وهي تتطلب ديناميكية في التخطيط واتخاذ قرارات غزو الدول أو حمايتها. يلعب الحظ دورًا في اللعبة، من خلال «رميات النرد»، ومن أهم قواعد النجاح فيها: التركيز على الخصوم الضعفاء ومهاجمتهم بلا شفقة، والبدء بالمناطق المجاورة أو القريبة؛ لزيادة فرص الفوز وجمع البطاقات، وانتزاع أراضي الدول ثم السيطرة على القارات.
لا تختلف وقائع لعبة الريسك، عما يجري في أوكرانيا، سواء من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو المعسكر الغربي المناوئ بقيادة الولايات المتحدة ومن ورائها حلف الناتو، كلٌ يريد أن تتفوق مصالحه على مصالح الآخرين، تحاول روسيا زعزعة النظام العالمي الأحادي القطبية بزعامة واشنطن، إسقاطه إن أمكن، لإقامة نظام متعدد الأقطاب، يشمل روسيا وأمريكا والصين وأوروبا، بشكل أساسي.
توقع روبرت كاجان في «واشنطن بوست» أنه لو انتصرت روسيا في أوكرانيا ستحدث تغيرات جيوسياسية عميقة بأوروبا والنظام العالمي وكبح «الناتو»، ما يؤشر لبداية حقبة تتشكل فيها ثلاث كتل أمريكية، روسية، صينية، وتعم الفوضى والصراعات؛ بحيث تتكيف كل مناطق العالم مع تكوينات القوى الجديدة، دون استقرار حقيقي. أوضح كاجان أن خريطة أوروبا من الثمانينيات حتى قبيل الاجتياح الروسي لأوكرانيا عكست تضخم القوة الأمريكية وضمور الروسية، لكنها الآن تعكس إحياء القوة العسكرية الروسية وتراجع النفوذ الأمريكي.
وضع تلك المعطيات بجوار الصعود الصيني، يؤشر لأفول النظام العالمي الراهن. ما قاله كاجان يدلل على أن بوتين يمارس لعبة الريسك على الرقعة العالمية، بداية من دول الجوار، بغية وقف تمدد الناتو نحو حدود بلاده ودرء تهديداته واستعادة الامبراطورية، من خلال استراتيجية تقطيع أوصال دول الجوار «المتمردة» على هيمنة موسكو، مثلما ظهر في جورجيا وأوكرانيا، ومحاولة فك ارتباط دول البلطيق بالناتو؛ بإثبات عجزه عن حمايتها. كل هذا لا يدعو للقفز إلى استنتاج قرب نهاية الهيمنة الغربية، الإمبراطورية الأمريكية مازالت عصية على السقوط أو التراجع عن مقعد القيادة، لكنها تشعر بالخطر من تنامي قدرات المنافسين، كالصين، وعناد آخرين، كروسيا، هذا الشعور يدفع «العم سام» لمزيد من النزال وعسكرة الصراعات لاستنزاف الخصوم وتركيعهم.
تتضارب القيم الأساسية بين القوى الكبرى، بالنسبة لروسيا والصين القيمة الأسمى هي الدولة؛ بالنسبة لأمريكا هي الحريات الفردية، لكنهم جميعا يبحثون عن «الامبراطورية»، يلقي كل طرف «أحجار النرد» على رقعة الريسك، يحاول استدراج الشعوب الأخرى، عبر القارات، إلى مناطق السيطرة والنفوذ، وإلا تحولت تلك المناطق إلى «مناطق ابتلاع وقتل»؛ اللافت هنا تماثل أهداف تلك القوى، واستراتيجيات إخضاع البلاد الأخرى، الاختلاف فقط في الأساليب: نضغط عليه حتى نسقطه من الخارج، أو نخترقه ونغيّره من الداخل، بعض الشعوب الغافلة تفيق من غيبوبتها على الخونة التابعين للخارج القابعين في الزوايا المظلمة للأوطان، وقد اشتدّ عودهم، تحت ضغوط الظروف الاقتصادية العصيبة أو الاستبداد أو عدم إعداد العدة، توقيا للأخطار، تماما مثل اللاعب الغبي في «الريسك»، لا ينافس على الفوز بل يؤذي نفسه بطيشه ولاعقلانيته، فيُهدي النصر لمن لا يستحق.
فما الحل؟ أن تشحذ مهارتك وتأخذ بكل أسباب العافية ولا تلعب مع أي من كان؛ الأهم ألا تنسى ذلك؛ حينما تنتقل لسنّ الرشد. ليس من المهارة أن ينتهج الزعيم سياسات تحمّل بلاده أعباء تتجاوز إمكاناتها، مثلا، النشوة المؤقتة التي توفرها الانتصارات المحدودة في معركة هنا أو هناك، لا تحجب المأزق الاستراتيجي الذي يعانيه كل اللاعبين والمتفرجين في أوكرانيا حاليا، موقف بعض العرب المؤيد لبوتين ضد أمريكا والناتو- أو العكس- ليس نابعا من محبة بوتين بقدر ما هو كراهية للسياسات الأمريكية في القضايا العربية، لكن لا بوتين ولا بايدن ولا غيرهما من كبار اللاعبين على الساحة يعير اهتماما حقيقيا لمصالح العرب أو شعوب العالم الثالث التي تعاني جراء الحرب الأوكرانية، وربما لا تختلف معاناتها عن محنة الشعب الأوكراني، والذي حاول بعض أبنائه وضع الجرس في رقبة القط، دون تبصر بالعواقب فكانت النتيجة كارثية. ذكر المفكر على الوردي قصة ذات دلالة، في كتابه «مهزلة العقل البشري»، تقول: إن جماعة من الفئران اجتمعوا؛ ليفكروا في طريقة تنجيهم من خطر القط، بعد جدل عنيف اقترح «فأر محترم»، أن يضعوا «جرسا» في رقبة القط، حتى إذا حاول مداهمتهم، سمعوه وهربوا.
اقتراح رائع دون شك، المشكلة الكبرى تكمن في القدرة على تعليق الجرس في رقبة القط، فمن هو ذلك «العنتري» الذي يستطيع فعل ذلك، ثم يعود سالما، نسي «المحترم» أن اقتراحه جائز نظريًا، لا عمليًا؛ فالقط سوف يأكل كل من يحاول أن يشدّ الخيط حول عنقه من معاشر الفئران. فلا يكفي أن تكون الفكرة رائعة وجميلة، المهم أن تكون عملية، تراعي الظروف وقابلة للتطبيق، الفكرة تشبه «المفتاح»، لا يهم إن كان ذهبًا أو خشبًا، المهم أن يفتح الباب.. علينا أن ندرك أن بعض الطرق تقود إلى هاوية سحيقة، في «الريسك» وفي الواقع على حد السواء!
.
رابط المصدر: