يكشف الهجوم الإيران المفاجيء على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن إصرار طهران على ممارسة الدور الانتهازي المتكرر في التحالف مع الغرب ضد العرب وتركيا؛ فافتعال أزمة في توقيت تحتشد فيه أوربا ضد الأتراك ليس عملا حكيما، ولا يمكن فهمه إلا أن الإيرانيين يغازلون الدول الأوربية ويعرضون خدماتهم كما اعتادوا.
ما تعيشه إيران من أزمات داخلية وضغوط خارجية لتحجيم مشروعها النووي كان يقتضي أن تبحث عن تحسين علاقاتها مع جوارها المسلم للحصول على المزيد من التضامن، وليس إشهار العداوة خاصة أن تركيا تحرص على تقوية العلاقات معها ولها مواقف جيدة في مواجهة العقوبات الأمريكية ضدها.
في القصيدة التي ألقيت في احتفال أذربيجان بالانتصار على أرمينيا لم يقصد أردوغان الحديث عن الأراضي التي تحتلها إيران، وإنما تحدث عن نهر آراس وكان المقصود هو إقليم كارباخ (كما ذكر وزير الخارجية تشاووش أوغلو) بل في نفس الخطاب دعا الرئيس التركي إيران للمشاركة في مكتب إقليمي يضم 6 دول لها علاقة بالصراع المرتبط بكراباخ لتبديد المخاوف الأمنية.
التصريحات الإيرانية سبقتها اتهامات غير منطقية أثناء الحرب الأذربيجانية الأرمينية، مثل وجود إرهابيين سوريين في جبال كارباخ رغم أن الذي كان يستقدم المرتزقة هم الأرمن، وطبيعة المعركة كانت تقنية في معظمها بالمسيرات وبقوات نظامية تابعة للجيش الأذربيجاني، لكن الافتراءات كانت للتشويش والمكايدة السياسية.
الحملة الإيرانية ضد أردوغان التي شارك فيها وزير الخارجية جواد ظريف وقادة المؤسسات في طهران تكشف عن عدم الارتياح الإيراني للانتصار الأذربيجاني، والقلق من عودة العلاقات بين تركيا والشعوب التركية في القوقاز وآسيا الوسطى، والأهم هو انزعاج القادة الإيرانيين من النتائج السلبية المترتبة على كشف الموقف الإيراني المساند لأرمينيا المسيحية ضد أذربيجان المسلمة، وفضح التقاء إيران مع أوربا وروسيا في تقوية الأرمن ودعمهم عسكريا.
الموقف الإيراني من كراباخ يشير إلى أن السياسة الإيرانية تستخدم التشيع كواجهة لإحياء الدولة الفارسية القديمة، ولا تبالي بالأخوة في الإسلام وفي المذهب، وهذا الانطباع الذي يؤكده السلوك الإيراني أحدث شرخا يصعب احتوائه على تماسك الدولة التي تضم الكثير من الأعراق غير المتجانسة.
ضرب التقارب بين الشيعة والسنة
كثيرا ما كان المفكرون المسلمون تراودهم فكرة التقارب مع الإيرانيين خاصة بعد ثورة الخميني، فعندما نجحت الثورة استبشر الكثير من السياسيين في الأمة خيرا، وظنوا أن النظام الجديد الذي يرفع شعارات إسلامية سيكون إضافة لقوة العالم الإسلامي في مواجهة الهيمنة الغربية، لكن يبدو أن هذه الأمنيات تبخرت وتبددت مع ظهور النزعة التوسعية، والتحالف مع جيوش الغرب التي تدفقت إلى المنطقة.
لم تكن دعوات التقريب بين المذاهب التي قام بها مراجع الشيعة وبعض علماء السنة سوى تخدير مؤقت بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ولم تكن تعبر عن نية خالصة من جانب إيران، فقد انقلبت القيادة الإيرانية على توصيات مؤتمرات التقريب بمجرد قدوم الجيوش الغربية إلى المنطقة، وأظهرت عداوة غير متوقعة، تفوقت في بعض المناطق على عداوة المحتلين الأجانب الذين يعتنقون ديانات ومعتقدات غير الإسلام.
كان صادما أن نرى الايرانيين يشاركون الأمريكيين في غزو أفغانستان عام 2001 وإسقاط حكومة طالبان “السنية” وتنصيب حكومة تابعة لأمريكا، ثم تكررت المشاركة الإيرانية في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وجاءت ميليشيات الشيعة التابعين لإيران على الدبابات الأمريكية فوق جماجم العراقيين، وارتكبوا المذابح ضد المدنيين ودمروا مدن السنة، ومازالت الاعتداءات الطائفية مستمرة حتى الآن، بل امتدت بوحشية إلى الشيعة العرب الذين يثورون ضد فساد حكومة الميليشيات الإيرانية.
تعتبر سوريا هي المثال الأوضح على بشاعة التطرف والعدوانية الإيرانية، فقد تحالفوا مع الاحتلال الروسي ضد الشعب السوري، وكانت المذابح التي ارتكبتها ميليشيات إيران النظامية مثل فيلق القدس، والمرتزقة الطائفيون الذين أتت بهم من دول أخرى هي الأكثر دموية، وكانوا يمارسون التطهير العرقي ربما بدرجات أعلى من الروس، فخربوا المدن لإخلائها من السنة وتشييعها، ويظهر هذا التغيير الديموغرافي الطائفي بشكل واضح في العاصمة دمشق.
وإذا كانت إيران تعمل بالتنسيق مع الجيوش الأجنبية في العراق وسوريا فإنها تستغل الحماية الدولية للانقلاب الحوثي في اليمن، وتمارس نفس الأساليب الوحشية من هدم وقتل وفرض التشيع بالقوة المسلحة على الشعب اليمني، وتستخدم الميليشيات الحوثية في الاعتداءات على المملكة السعودية في إطار الاستراتجية الأمريكية الصهيونية لتقسيمها، وقد وصلت الصواريخ والطائرات المسيرة إلى الرياض وجدة رغم الحماية الأمريكية المعلنة!
الانزعاج من الصعود التركي
كانت إيران تتحرك على الساحة الدولية مستفيدة من التنافس الدولي والخلافات بين الصين وروسيا من ناحية والولايات المتحدة من الناحية الأخرى، واستغلت حالة الهزيمة العربية وتبعية الحكام للولايات المتحدة في الهجوم على الأراضي العربية والمشاركة في احتلالها لإحياء الإمبراطورية الفارسية القديمة، لكن اصطدمت في النهاية مع الصعود التركي الذي بات يشكل تهديدا رئيسيا لمشروعها التوسعي، بدأ في سوريا وامتد إلى شمال حدودها في القوقاز.
رغم أن تركيا لا تلوح بأي تهديد للإيرانيين، ورغم أنها تبدي حسن النية بشكل معلن فإن القوة التركية المتنامية ونفوذها المتصاعد لا يقابله الإيرانيون بارتياح، بل يتعاملون معه على أنه خطر مستقبلي، واستدعوا التاريخ والصراع مع الدولة العثمانية بدلا من التفكير في تصحيح الأخطاء التاريخية وبناء علاقات جديدة مفيدة للدولتين تتناسب مع التغيرات الجيواستراتيجية وإرهاصات النظام العالمي الجديد الذي يتشكل.
من الواضح أن القيادة الإيرانية تتصرف بنفس أساليب القرون الوسطى، ولا تريد التخلص من قوالب التفكير القديمة التي وضعها الشاه إسماعيل الصفوي في بداية القرن السادس عشر، وهي التحالف الاستراتيجي مع الغرب الصليبي ضد المسلمين السنة، فقد تحالف الصفوي مع الحملة البرتغالية التي جاءت إلى المنطقة ضد المماليك طمعا في السيطرة على الشام التي كانت خاضعة للحكم المصري، ثم ضد العثمانيين الذين انتقلت إليهم قيادة العالم الإسلامي.
كان التحالف مع الصليبيين واحتلال أرض المسلمين وحرق مدنهم في الشام والأناضول سببا في توجه السلطان العثماني سليم الأول لحرب الصفويين وهزيمتهم في جالديران عام 1514 م ودخول عاصمتهم تبريز، وظل الصفويون يستنزفون العثمانيين في حروب كر وفر لصالح الأوربيين، استمرت قرنين وهي التي أضعفت الخلافة، وشغلتها عن التوسع غربا.
لم تستفد إيران من نموذج التعاون التركي الأذربيجاني وكيف يستطيع المسلمون أن يتحركوا بعيدا عن التعصب المذهبي لتحقيق الانتصار واستعادة الحقوق، ولا تتحرك من منطلق الإسلام لمواجهة أحلاف تتجمع وتتكتل على أسس عرقية ودينية، ولكن لم يعد ممكنا في ظل انتشار الوعي الاستمرار في التحرك وفق تصورات متطرفة من التاريخ، مبنية على تفسير ثأري عدواني دون النظر للواقع الجديد والضرورات التي تقتضي التعاون لتحقيق المصالح والمنافع، وتجاوز الصراعات القديمة التي عفا عليها الزمن.
يغيب عن الإيرانيين أن حدود سايكس بيكو التي حدثت منذ مائة عام نتجت عن الاحتلال الاستعماري، وكانت محمية من الجيوش الغربية، أما اليوم فالعالم يشهد تمردات واسعة على هذه الأوضاع ولم يعد ممكنا استمرارها بسبب تفكك القبضة الاستعمارية، وإن استمرت إيران في معاداة الوحدة الإسلامية والإصرار على المضي في السياسة الانتهازية، والتحالف ضد محيطها المسلم، طمعا في استعادة الإمبراطورية الفارسية الغابرة، فعليها أن تنتظر تمرد الأعراق والإثنيات وتفكك الدولة الإيرانية التي شكلتها بريطانيا في بداية القرن الماضي.
الفرصة مواتية ليتحد العالم الإسلامي ويحجز مكانه الذي يليق به في النظام العالمي القادم، ولن يكون هناك مكان للدول التي تغلق على نفسها، وتعيش على السطو والنهب واحتلال الدول الأخرى، ومن لا يعي حجم التغيرات وطبيعتها واستغلال اللحظة الفارقة فلن يكون له نفوذ وسط التكتلات العالمية التي تتشكل الآن وتنطلق من هوياتها وعقائدها.
رابط المصدر: