اتسم الموقف العراقي تجاه الأزمة الروسية- الأوكرانية، بالحياد كأغلب المواقف العربية سواء على مستوى الجامعة العربية أو الأمم المتحدة، حيث امتنع عن التصويت تجاه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس 2022، والذي طالب بالسحب الفوري والكامل وغير المشروط لجميع القوات الروسية العسكرية من أراضي أوكرانيا، وصوّت لصالح القرار 141 دولة، بينما رفضته 5 دول، وامتنعت 35 دولة كان من بينها العراق، لذا تناقش هذه الورقة أبعاد امتناع العراق عن التصويت تجاه هذا القرار، وما هي الدوافع والمبررات وراء الموقف العراقي تجاه الأزمة الروسية- الأوكرانية؟
الموقف العراقي من الأزمة
شارك العراق من خلال السفير أحمد نايف رشيد الدليمي ممثل جمهورية العراق في مصر، والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية في الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة العربية بشأن الأزمة الروسية- الأوكرانية، والذي حث طرفي الصراع على التهدئة، وضبط النفس ومحاولة إيجاد حل دبلوماسي للأزمة من خلال تنسيق واتصال بين مجموعات وزارية عربية. وعلى النحو الآخر؛ امتنعت العراق عن التصويت ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي أدان الهجوم الروسي على أوكرانيا، وطالب روسيا بالسحب الفوري والكامل لجميع قواتها العسكرية من الأراضي الأوكرانية، والتأكيد على سيادة أوكرانيا واستقلالها، ووحدتها وسلامتها الإقليمية، حيث جاء نص بيان العراق كالآتي:
“يأسف العراق لتدهور الوضع وتصاعد التوترات بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا، ويدعو جميع الأطراف إلى تسوية هذا الصراع، بإعطاء الأولوية للحوار وبالوسائل الدبلوماسية. وندعوهما للعودة للمفاوضات لحل المشاكل العالقة بينهما، مؤكدًا على السعي من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وعدم تهديد العالم بأزمات اقتصادية وسياسية ناتجة عن هذا الوضع، ويعبّر العراق قلقه البالغ من احتمال أن يستغل الإرهابيون هذه الأزمة وحالة الانقسام المتوقعة في المجتمع الدولي، وهذا من شأنه أن يعيق الجهود الدولية ومساعينا المشتركة الرامية لمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، لقد قرر العراق الامتناع عن التصويت لصالح مشروع القرار بسبب الخلفية التاريخية التي مرّ بها العراق والمعاناة من الحروب المستمرة التي تعرضت لها الأجيال”.
دوافع ومبررات الموقف العراقي
جاءت مبررات عدم التصويت العراقي تجاه هذا القرار، نظرًا لأن الانقسام الذي أحدثته الحرب الروسية- الأوكرانية سيكون بمثابة فرصة سانحة للتنظيمات الإرهابية، ويعيق الجهود الدولية المشتركة لمواجهة الإرهاب في ظل انشغال العالم بالحرب الروسية- الأوكرانية، وأن العراق عانى لسنوات كثيرة من الحروب التي واجهها في السابق، بدءًا بالحرب الإيرانية العراقية 1980-1988 (حرب الخليج الأولى)، وغزو العراق للكويت في 1990(حرب الخليج الثانية)، والغزو الأمريكي للعراق في 2003. بالإضافة إلى أن العراق لا يؤيد الحروب كحل للأزمات، وأنه يجب حل النزاعات بالطرق السلمية للحفاظ على سلامة المدنيين.
جاء الموقف العراقي محايدًا تجاه طرفي الصراع، داعيًا جميع الأطراف إلى الالتزام بميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، والحث على سلامة وأمن البعثات الدبلوماسية في ساحات الصراع. يمكن تفسير هذا الموقف المحايد، وعدم الاتجاه إلى إدانة روسيا نظرًا إلى الاعتبارات والدوافع التالية:
- أولًا بالرجوع إلى التاريخ من حيث طبيعة العلاقات الروسية- العراقية، فإنها اتسمت بالتعاون في بعض الأوقات، والشد والجذب في أوقات أخرى، وتحديدًا في الفترة ما بين 1955-1959 فإن العراق لعب دورًا أساسيًا في معاهدة بغداد والتي كانت مدعومة من الولايات المتحدة وتحالفًا عسكريًا بين إيران والعراق وباكستان وتركيا والمملكة المتحدة بهدف منع التدخل السوفيتي في الشرق الأوسط آنذاك، وفى يوليو 1958 عندما أطاح انقلاب الضباط الأحرار الوطنيين بالنظام الملكي الهاشمي الموالي للغرب في العراق، خرجت جمهورية العراق الجديدة بقيادة اللواء عبد الكريم قاسم من ميثاق بغداد في مارس 1959، وأقامت علاقات ودية مع الاتحاد السوفيتي منذ ذلك الحين. وتمكن الاتحاد السوفيتي من إقامة علاقات طيبة مع الأنظمة اللاحقة في العراق، ولم يكن نظام الرئيس الأسبق صدام حسين استثناء، بالرغم من أنه كان لديه نزاع مع الاتحاد السوفيتي بشأن إعدام 21 شيوعيًا عراقيًا، لكن كانت العلاقات وثيقة بين بغداد وموسكو في ذلك الوقت.
لكن الحرب العراقية- الإيرانية زادت من تفاقم صراع المصالح بين طهران وموسكو في العراق خلال الحرب، فكان الاتحاد السوفيتي أكبر بائع أسلحة للعراق، وفى فبراير 1986 عندما نفذت إيران عملية الفجر واستولت على مدينة الفاو الاستراتيجية، زاد الدعم السوفيتي لصدام حسين أكثر، وهو ما مثل بداية مرحلة جديدة. بين عامي 1986-1988 سلم الاتحاد السوفيتي أنواعًا مختلفة من الأسلحة بما في ذلك 800 دبابة T-72s و300 مقاتلة جوية ومئات من صواريخ سكود بي للعراق.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومرور العراق بعدد من الأزمات والحروب، وصولًا للاضطرابات السياسية التي أعقبت المنطقة في 2011، سيطر تنظيم داعش على الموصل في 2014، والتي شكلت تهديدًا للدول ومن بينها روسيا وإيران، وعلى أساسه تم تشكيل تحالف أمنى في 2015 بين روسيا وسوريا وإيران والعراق ((RSII لتبادل المعلومات حول داعش وأسس أعضاؤه مقرين للعمليات في دمشق وبغداد، وتم تبادل المعلومات الاستخباراتية بين إيران وروسيا في ذلك الوقت، وبدأت القوات الجوية الروسية والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران مواجهة داعش على الحدود العراقية السورية، وكانت خطوة استراتيجية قوضت من القدرة اللوجيستية لداعش على نقل مقاتليه بين البلدين. وبحلول ديسمبر 2017، نجح العراق في تحرير جميع مدنه الرئيسية من داعش. وقد سبق وأن قدمت موسكو للعراق اقتراح ببيع نظام الدفاع الصاروخي S-400 وتطلعات من العراق للحصول عليها.
وعليه، من المحتمل تأثر العراق جراء الحرب الروسية- الأوكرانية، ليصبح حليف جديد لروسيا للضغط على الولايات المتحدة، لاسيما في حالة صفقة روسية- إيرانية تضفي مزيد من الشرعية على تحرك وكلاء إيران في العراق، كنوع من الضغط على الولايات المتحدة والغرب. بالإضافة إلى احتمالية تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية التي تعيد ترتيب صفوفها وتستعيد بعض إمكانياتها حاليًا لتنفيذ عمليات نوعية داخل العراق وسوريا في الفترة القادمة لتأكيد وجودها في خضم الانشغال العالمي بالحرب الروسية -الأوكرانية.
- ثانيًا، تتعدد شراكات التعاون بين روسيا والعراق في المجال الاقتصادي والعسكري والتعليمي، حيث يدرس 4000 عراقي في الجامعات الروسية. وبلغ حجم الصادرات الروسية إلى العراق 127.25 مليون دولار أمريكي خلال عام 2020 وتتنوع ما بين الخشب المنشور ودقيق القمح، وفقًا لقاعدة بيانات كومترايد التابعة للأمم المتحدة. كما أن العراق أبرم صفقات خاصة بالتسليح للجيش العراقي مع روسيا منها شراء s-300، وصيانة الطائرات، لتعزيز قدرات القوات النظامية في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ومن المحتمل توقف هذه الترتيبات في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية والعقوبات المفروضة على موسكو، ناهيك عن الاستثمارات الروسية في قطاع النفط والغاز العراقي، حيث الاتفاق الذي تم إبرامه بين كردستان وشركة “روسنفت” الروسية للتنقيب عن النفط في 5 مواقع، والذي قد يوفر لروسيا السيطرة على موارد نفطية كبيرة تصل إلى 670 مليون برميل باستثمارات مبدئية لا تتجاوز 400 مليون دولار في مقابل حصولها على 80% من أرباح المشروع، وكان من المتوقع أن تصل طاقة خط الأنابيب إلى 30 مليار متر مكعب من صادرات الغاز الروسي سنويًا إلى السوق التركية والأوروبية.
كما يوجد تعاون مع شركات روسية أخرى، ولقاءات في السابق مع شركة “لوك أويل” النفطية الروسية لمناقشة تسريع عملية الإنتاج لمشروع “الرقعة الاستكشافية العاشرة” بين محافظتي ذي قار والمثنى، بالإضافة إلى عمل بعض الشركات الروسية على تطوير إنتاجها من حقول النفط العراقية، ومنها شركة “غازبروم” التي سوف تستثمر 2.5 مليار دولار أخرى لتطوير حقل “بدرة” حتى عام 2030. وفى محادثات نوفمبر 2020 بين وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ووزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف، أكد الأخير أن روسيا مهتمة بتعميق علاقاتها في مجال الطاقة مع العراق. حيث تستثمر روسيا نحو أكثر من 13 مليار دولار في قطاع الطاقة. أيضًا لا يقتصر تعاون روسيا مع العراق في مجال النفط فقط، بل هناك مساهمة في إعادة إعمار العراق، ورغبة من الشركات الروسية في إعادة تأهيل محطات الكهرباء في العراق.
- ثالثًا: جراء العقوبات المفروضة على روسيا نتيجة الحرب الروسية- الأوكرانية، من المتوقع أن تتأثر الاستثمارات الروسية في العراق، وخاصة الشركات العاملة في حقول التراخيص النفطية التي تسدد تكاليفها وأرباحها عينًا، أي مقابل كمية معينة من النفط المنتج. ومعوقات أخرى فيما يخص تنفيذ الشركات الروسية لعقودها الثانوية مع الشركات الأخرى وكيفية تمويلها. ومن المحتمل أن تمتد تداعيات الحرب إلى الديون التي يسددها العراق وفقًا لنادي باريس، حيث مازال العراق يدفع تلك الديون والتي وصلت إلى أكثر من 21 مليار دولار وبدأ في تسديدها منذ عام 2003 وفق جدول زمني، وفى حالة التأخير يتم فرض غرامات على العراق، كما أن العراق ملتزم بالعقوبات المفروضة على أي دولة تتعامل ماليًا معه، وروسيا من أكبر الدول الأعضاء في نادى باريس المقرضة للعراق بحوالي 3,450 مليار دولار، ومن ثم سوف يتأثر العراق نتيجة العقوبات الغربية على روسيا.
- رابعًا: يستورد العراق القمح نظرًا لعدم تحقيقه الاكتفاء الذاتي من زراعته له بسبب الجفاف وقلة الأمطار، حيث يحتاج ما بين 4.5-5 مليون طن سنويًا، مما يضطره إلى الاستيراد من الخارج، وتشكل كل من روسيا وأوكرانيا نحو 30% من الإنتاج العالمي للقمح، وهو ما يعنى أن استمرار الحرب الروسية- الأوكرانية، سوف يؤثر على أسعار بيع القمح، بالإضافة إلى احتمالية نقص في الكمية المعروضة، وتكالب بين الدول المستوردة له، والذي يؤثر بدوره على استيراد العراق له، حيث يستورده من الولايات المتحدة، وكندا وأستراليا.
- خامسًا: فيما يتعلق بالعلاقات العراقية- الأوكرانية، فقد تأسست العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين في 16 ديسمبر 1992، وفتحت أوكرانيا سفارتها في بغداد في عام 2000، وافتتح العراق بدوره سفارته في كييف في عام 2002، وبعد عام 2003 نمت العلاقات بين الدولتين، من خلال زيادة عدد العراقيين الذين يدرسون في الجامعات الأوكرانية، حيث يوجد حوالي 5500 عراقي في أوكرانيا، وتبادلت الدولتان الزيارات الرسمية، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات ومذكرات تعاون ثنائية، وبدأت الخطوط الجوية العراقية تسيير رحلات مباشرة بين بغداد وكييف، مما سهل السفر للمواطنين والوفود الرسمية من كلا الدولتين، أيضًا هناك تعاون في المجال العسكري، حيث وقع وزير الدفاع الأوكراني أندرى تاران، وجمعة سعدون الجبورى وزير الدفاع العراقي مذكرة تفاهم في مجال التعاون العسكري في 3 سبتمبر 2020، بهدف تعزيز الشراكة وتنفيذ المشروعات ذات الاهتمام المشترك، وتبادل الخبرات والتعاون في مختلف المجالات العسكرية، بالإضافة إلى أن حجم الصادرات الأوكرانية إلى العراق، بلغ 597.89 مليون دولار أمريكي خلال عام2020، وتتنوع ما بين زيوت البذور، وقضبان الحديد الخام، ولحوم الدواجن.
ختامًا، هناك تخوف عراقي من تبعات الحرب الروسية – الأوكرانية، وهي الحرب التي قد تتجاوز المسرح الأوروبي، وتنتقل إلى الساحات التي تشهد تقاطعات مصلحية بين واشنطن وموسكو لإكساب موقفيهما المزيد من القوة والتأثير، وفى حال استمرار أطراف الصراع في المفاوضات، فإن تبعات ترتيبات تقاسم النفوذ والمصالح ستنعكس بلا شك على الملف العراقي. كما أن التفاهمات الإيرانية الروسية لإلحاق الأذى بالمصالح الأمريكية ستمتد إلى العراق أيضًا بما يُضفي مزيدًا من التعقيد على العملية السياسية المتعثرة منذ انتخابات أكتوبر 2021. وهناك رغبة عراقية لعدم دخوله في ساحة التنافس والصراع ما بين القوى الدولية، وأن تكون على مسافة واحدة من الأطراف جميعًا، بالإضافة إلى عدم رغبتها في خسارة تعاونها مع روسيا، خاصة وأنه في حال التصويت ضد روسيا، فإن ذلك يعنى إدانتها وهي ترتبط معها بالمصالح السابق الإشارة إليها، أيضًا ربما يكون للعراق حسابات أخرى فيما يتعلق بانسحاب الولايات المتحدة وخفض قواتها في العراق، وأن روسيا يمكن أن تكون بديل مطروح أمام العراق، لمساعدتها في دفاعتها الأمنية.
.
رابط المصدر: