تُعد زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى قطر والتي بدأت يوم 21 فبراير الجاري أول رحلة خارجية له إلى دولة خليجية منذ توليه منصبه العام الماضي. فقد زار رئيس القضاء الإيراني السابق خلال الأشهر الماضية عدة دول آسيوية، من بينها روسيا، ركّز أغلبها على الدفع قدمًا بسياسة “التوجه نحو الشرق”.
لقد زار “رئيسي” قطر بدعوة من أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ولكن لم يكن هدف الرحلة فقط المشاركة في القمة السادسة لمنتدى الدول المصدرة للغاز التي انطلقت بالأساس في “اليوم التالي” لتواجد إبراهيم رئيسي على الأراضي القطرية، بل إن أبعاد سفره إلى الدوحة تذهب بنا بعيدًا حيث المفاوضات النووية في العاصمة النمساوية فيينا بين إيران والقوى الكبرى.
وقد بدأ أمير قطر ومنذ اليوم الأول لزيارة الرئيس الإيراني التباحث بشأن الملف النووي، معبرًا عن أمله في التوصل سريعًا إلى اتفاق، وهي تصريحات نجد أساسًا أوليًا لها في الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين التي جرت خلال الأسابيع الماضية. فإذا رجعنا بضعة أسابيع للوراء، سنجد أن الزيارة لا تأتي منفصلة بذاتها، بل إنها تمت في إطار تبادل ثلاثي للزيارات والنقاشات بين واشنطن وقطر وإيران.
زيارة “رئيسي” جاءت بعد رفض إيران الحوار المباشر مع الولايات المتحدة
منذ مطلع العام الجديد 2022، تبادل المسؤولون الإيرانيون والقطريون الزيارات لطهران والدوحة، علاوة على واشنطن. وركزت جميع هذه الزيارات على قضية جوهرية وهي حل الخلافات بين الأمريكيين والإيرانيين فيما يتعلق بمفاوضات فيينا النووية. ولذا، لم تأتِ زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في 21 فبراير 2022 إلى قطر منفصلة عن أهداف وجدول أعمال الزيارات السابقة التي قام بها مسئولون من البلدين منذ مطلع العام الجاري وشملت:
– زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان إلى قطر في 11 يناير الماضي.
– زيارة وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى الأراضي الإيرانية يوم الخميس 27 يناير الماضي، والتي أعقبت مباشرةً مكالمة هاتفية بينه وبين نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن تطرقت إلى الملف النووي الإيراني.
– زيارة الأمير تميم إلى الولايات المتحدة ولقاؤه بالرئيس الأمريكي جو بايدن في 31 يناير الماضي.
وكانت إحدى المحاور الأساسية لهذه الزيارات جميعها إحداثَ تقدم جدي وإتمام التوصل إلى اتفاق نووي في النمسا، في ظل عثرات يبدو أنها لن تُحل إلا بحوار مباشر بين طهران وواشنطن أو عن طريق وسيط آخر يقبله الطرفان.
وفيما أعلن الإيرانيون خلال الأيام القليلة الماضية بعد الزيارة الأخيرة للأمير تميم إلى واشنطن ووزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن إلى طهران أنه من غير الممكن إجراء حوار مباشر مع الأمريكيين، بدأت قطر لعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن من أجل إتمام التوصل إلى الاتفاق النووي في فيينا.
فقد تمثلت آخر هذه التأكيدات “العلنية” في تغريدة مستشار الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، على تويتر يوم 21 فبراير الجاري حينما قال إن “مفاوضات فيينا كانت منذ البداية بين إيران و(مجموعة) 4+1 ومبعوث الاتحاد الأوروبي، وسيستمر هذا المسار بدون تغير حتى التوصل إلى نتيجة”، مضيفًا أن المفاوضات مع واشنطن لن تثمر عن جديد ولم تكن ضمن “جدول أعمال وفد التفاوض الإيراني” في فيينا.
وإذا كانت زيارات وزير الخارجية الإيراني ونظيره القطري وسفر الشيخ تميم إلى الولايات المتحدة قد حاولت فتح حوار مباشر بين طهران وواشنطن، في وقت لم تكن فيه أطراف فيينا قد أعلنت عن الانتهاء من الملفات الرئيسة في المفاوضات، وفشلت على ما يبدو أو كما هو ظاهر؛ فإن زيارة إبراهيم رئيسي يُرجح أنها قد تطرقت إلى بحث المرحلة النهائية والأخيرة من هذه المحادثات التي يُعتقد أنها تشمل ملفات فرعية ولكنها مهمة للانتهاء من المحادثات النووية والتوصل إلى الاتفاق. فقد ذهب إبراهيم رئيسي إلى الدوحة للاستماع إلى شروط إدارة الرئيس بايدن وإيصال رسائل المرشد الأعلى أيضًا والحكومة الإيرانية إلى البيت الأبيض عن طريق الوسيط القطري.
من فيينا إلى ميونيخ إلى الدوحة: زيارة الرئيس الإيراني والتحركات الموازية
إلى جانب الزيارات الثلاث المُشار إليها آنفًا منذ مطلع العام 2022، تدل الزيارات الأخرى التي قام – ويقوم- بها مسؤولون آخرون في الخارجية الإيرانية خلال الأيام الجارية على أن زيارة “رئيسي” إلى الدوحة لم تجئْ منفردة، بل تسير في إطار أكثر شمولًا يتضمن تحركات دبلوماسية موازية ومتزامنة لكلٍ من:
– نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية وكبير مفاوضي طهران النوويين (علي باقري كني) في العاصمة فيينا.
– وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من خلال مشاركته في ألمانيا بـ”مؤتمر ميونخ للأمن” الذي انطلق أواخر الأسبوع الماضي، والذي شدد فيه على أن الوقت قد حان من أجل التوصل إلى الاتفاق النووي “في أقصر وقت ممكن من خلال تقديم القرارات السياسية الضرورية”.
وإذا ما استبعدنا المشاركة البديهية لباقري كني في مفاوضات فيينا، فإن مشاركة وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان “على وجه التحديد”، وليس أحدًا من الوزراء أو المسؤولين الإيرانيين الآخرين البارزين غيره في مؤتمر ميونخ، وزيارة “رئيسي” إلى قطر ودعوة الطرفين للانتهاء سريعًا من مفاوضات فيينا تدلان على أن المسئولين الإيرانيين يسيرون في طرق موازية متزامنة داخل عدة بلدان من أجل التوصل السريع للاتفاق والتوافق بشأن الملفات الأخرى التي وعلى الرغم من كونها ثانوية إلا أن الاتفاق لا يمكن أن يتم من دونها.
ليست نووية: الملفات “الثانوية” والعثرة الأخيرة أمام الاتفاق
يطرح إعلان الإيرانيين والقوى الغربية خلال الأيام الأخيرة بشأن قرب التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا تساؤلًا جديًا وبشكل مباشر هو: (لماذا يركز الرئيس الإيراني وأمير قطر على مباحثات فيينا النووية في الدوحة فيما أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أنه لا يفصلنا سوى أيام قليلة أو ربما ساعات عن الانتهاء من المباحثات النووية والتوصل إلى الاتفاق النووي بشكل نهائي؟).
إن تصريحات عبد اللهيان توضح بما لا يدع مجالًا للشك أن المحاور الأساسية للاتفاق المتوقع الإعلان عنه قريبًا قد تمت صياغتها، وأن القضايا والملفات الكبرى لم تعد تمثل عوائق “كبرى أيضًا”. إذًا، ماذا وراء الزيارة؟
إن ما يقود إبراهيم رئيسي وباقري كني وعبد اللهيان إلى التحرك الموازي في الخارج في الوقت الراهن هو وجود قضايا وملفات خارج إطار الأنشطة النووية الإيرانية أو الصواريخ العسكرية أو حتى التحركات العسكرية الإيرانية في الإقليم يبدو أنه لم يتم الاتفاق بشأنها حتى اللحظة.
فلا تزال هذه الملفات عقباتٍ أمام إتمام المفاوضات وإعلان الاتفاق النووي بشكل نهائي. وبشكل أكثر دقة، نستطيع القول إن باقري يحاول في فيينا الانتهاء من الملف الرئيس مع المفاوضين الكبار وهو الممثل في الأنشطة النووية، أما الرئيس الإيراني ووزير خارجيته فيحاولان وضع حلول للعقبات “الثانوية” الأخرى التي لا مناص من حلها حتى يتم الاتفاق، وهي التي تتوسط بشأنها قطر الآن.
وأبرز ما يمكن الحديث عنه بشأن هذه الملفات الفرعية يتمحور حول رغبة واشنطن وإدارة بايدن إطلاق سراح السجناء الأمريكيين المعتقلين في السجون الإيرانية ضمن الصفقة النووية ذاتها. فقد زاد الضغط على الإدارة الأمريكية في هذا الصدد بعد إضراب الرهينة الأمريكي السابق في أزمة الرهائن (1979-1981) “باري روزين” لمدة 5 أيام أمام فندق كوبورك بفيينا الذي تجري داخله المفاوضات النووية؛ احتجاجًا على اعتقال أوروبيين وأمريكيين في إيران.
لقد شكل ما قام به روزين ضغوطًا كبيرة على الإدارة الأمريكية حتى صارت قضية السجناء الأمريكيين والغربيين بوجه عام في طهران شرطًا أساسيًا لدخول الاتفاق حيّز التنفيذ، بعدما كانت مطروحة فقط في السابق.
ولذا، ولأن الرأي العام الأمريكي والأوروبي بات يتوقع الإفراج عن هؤلاء السجناء ضمن الاتفاق، فإن المفاوضين الغربيين قد وضعوا هذه القضية على رأس أولويات فيينا. ولعل تصريح حسين أمير عبد اللهيان في مدينة ميونخ الألمانية، خلال المؤتمر المُشار إليه، يُعد دليلًا بارزًا على ذلك؛ إذ قال إن طهران مستعدة لعملية تبادل “سريع وفوري” للسجناء الإيرانيين والأمريكيين. وكان قد سبقه المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، في 24 يناير 2022 حين قال إن بلاده “مستعدة للحوار والتفاوض حول مبادلة السجناء”.
ولا يبدو أن طهران ستمانع مبادلة السجناء، ولكن هذا قد يعني عدم تنازلها عن الإفراج عن أموالها في الخارج، خاصة في كوريا الجنوبية واليابان التي ركزت كثيرًا من جهودها مؤخرًا عليها، إلى جانب المقابل البديهي وهو المطالبة بتسلم بعض السجناء الإيرانيين في الولايات المتحدة، وهو ما يخضع لبنود الاتفاق ذاته.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن عمليات مبادلة السجناء الإيرانيين داخل الولايات المتحدة مع طهران تتطلب في حد ذاتها موافقات قضائية وإجراءات ليست بالسهلة، مثل النظر أولًا في ماهية الجرم الذي ارتكبه المعتقل، هو يرتبط بانتهاك العقوبات الأمريكية على إيران أم بهجمات أم بتحركات إيران داخل الشرق الأوسط.
ولعل الإفراج عن المحتجزين الأمريكيين في إيران قد يزيد من شعبية الرئيس بايدن داخل الولايات المتحدة وقبل الانتخابات المقبلة في نوفمبر 2024؛ إذ إن مثل هذا التبادل لن يتم بين عشية وضحاها، بل قد يمتد أمده ليصل إلى أشهر طويلة.
وعلاوة على ملف السجناء، تأتي ملفات التصنيع العسكري الإيراني أيضًا على الطاولة، والتي لا يُقصد بها الصواريخ، بل تلك الأخرى الحديثة الممثلة على سبيل المثال في الطائرات من دون طيار، وملفات الحرب السيبرانية بين إيران والولايات المتحدة.
الاستنتاج
لم تأتِ زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى قطر من أجل المشاركة فقط في القمة السادسة لمنتدى الدول المصدرة للغاز فقط، كما أنها لم تكن من أجل الحديث حول الملفات الأساسية صاحبة العقبات الكبرى في طريق المفاوضات النووية والتي يرجح في الغالب أنه تم التوافق عليها في النمسا مؤخرًا، بل إنها جاءت للتفاوض بشأن الملفات التي تُعد فرعية، أو على حد وصف المفاوضين الإيرانيين “البعيدة عن متن الاتفاق النووي لعام 2015” والتي يأتي على رأسها ملف السجناء الأمريكيين والأوروبيين والإيرانيين.
وقد دفعت أهمية هذه الملفات إبراهيم رئيسي إلى الإسراع في تلقي وإرسال الرسائل الفورية مع نظيره الأمريكي بايدن للانتهاء من هذه الملفات غير الأساسية والتوصل إلى الاتفاق بشكل نهائي في فيينا، لأن المفاوضات لن تتم من دون البت فيها، كما سبق القول.
.
رابط المصدر: