بغضِّ النظر عن المجال الذي تعمل فيه، من المرجح أن المنافسة الشديدة وحالة التقلُّب المتفاقمة ومطالب العملاء المتزايدة تزيد من الحاجة إلى الابتكار، لكن مجرد الدعوة إلى الابتكار ليست كافيةً لتحقيقه.
إن القدرةَ على ابتكار منتجات أو خدمات جديدة ومبتكرة وعمليةٍ تحلُّ مشكلة معينة، أو تُلبِّي حاجةً ما، بل تفعل ذلك أيضًا على نحو مربح؛ تتطلَّب عملًا جماعيًّا وثقافةً مؤسسية تحتضن المتناقضاتِ، وعقليةً قيادية استثنائية.
العمل الجماعي
ينجح الابتكار حين يجتمع أشخاصٌ من تخصُّصات وخلفيات مختلفة، لوضع احتمالات جديدة لم يكن أيٌّ منهم يستطيع تصوُّرَها بمفرده. يتطلَّب تحقيقُ هذا أن يتعاون الأفراد المختلفون في العمل معًا على أفضل نحوٍ ممكن. إنَّ أفرادَ الفِرَق الذين يحققون الابتكارات، لا يكتفون بمجرد وضع خبراتهم وأفكارهم ونزعاتهم في مشروعٍ بعينه ثم مزجها معًا، بل يجدون سبلًا فاعلة للعمل معًا والتعاون المثمر فيما بينهم. إنهم يجدون طرقًا لإحداث تكامل بين وجهات نظرهم المختلفة تمامًا؛ وذلك من أجل وضع احتمالاتٍ غير مسبوقة؛ وهذا هو العمل الجماعي.
ما السبب في تسميته العملَ الجماعي بدلًا من أن نقول ببساطة بناء فريقِ عملٍ فعَّالٍ؟ السبب في ذلك أن الابتكار عمليةٌ كثيرةُ التغيُّر لا تتبع مسارًا محددًا، وهذا يعني أنه ليس من الممكن دائمًا معرفةُ ماهية المهارات التي ستحتاج إليها في الفريق بالضبط مقدمًا، أو معرفةُ المدة التي ستحتاجها فيها؛ ممَّا يُصعِّب عليك تخطيط وبناء فريق ثابت ومُعَدٍّ جيدًا قبل بَدْء المهمة.
على سبيل المثال: في أي غرفة طوارئ عادية بأي مستشفًى، تعتمد نتائج علاج المرضى على التنسيقِ المتلاحم والتواصُلِ الفائق بين أطباء من تخصُّصات مختلفة، ربما لا يعرف بعضُهم أسماءَ الآخَرين في بداية مباشرتهم للحالات؛ هذا هو العمل الجماعي. يمزج العمل الجماعي العالي الجودة بين سرعة التعرُّف على الأشخاص — وعلى خبراتهم ومهاراتهم وأهدافهم — وبين الاستماع إلى وجهات نظر الآخرين، وتنسيق الجهود، واتخاذ قرارات مشتركة.
يتحقَّق العمل الجماعي الفعَّال حين يظل كل فرد على دراية كاملة باحتياجات الآخرين وأدوارهم ووجهات نظرهم؛ ويقتضي هذا تعلُّمَ تفهُّمِ الأشخاص المختلفين عنَّا، وتعلُّمَ دمْجِ وجهات النظر المختلفة لوضع احتمالات وخطط وإجراءات جديدة مشتركة. ويتطلَّب القيام بذلك على نحوٍ جيد مهاراتٍ عاطفيةً (المشاعر) وإدراكيةً (التفكير)، علاوة على أنه يحتاج إلى قيادة. يؤدِّي العمل الجماعي من أجل الابتكار، حين يُجرَى على نحو جيد، إلى إنتاج عمليات ومنتجات وخدمات جديدة من شأنها رفع قيمة المؤسسة وتحسين حالة هؤلاء الذين تُقدَّم لهم الخدمةُ.
تتمثَّل الرسالةُ الجوهرية لهذا الكتاب في أن قادة الأعمال اليومَ يحتاجون إلى فهْمِ تلك العملية المتمثلة في «العمل الجماعي من أجل الابتكار»، ودعْمِها لضمان نجاح أعمالهم في المستقبل.
عقلية قيادية استثنائية
في أي مؤسسة ناجحة، تستخدم القيادة ثلاث أدوات أساسية من شأنها التأثير في أفعال الآخرين؛ الأداة الأولى هي توصيل صورة مُلهِمة لمستقبل مرغوب فيه، وسواء اعتبرتها رؤية أم هدفًا مشتركًا مُحفِّزًا، فإن الهدف من هذه الصورة الخاصة بالمستقبل هو إلهام وتحفيز الآخرين كي يبذلوا جهدًا أكبر مما يبذلونه في المعتاد. أما الأداة الثانية فهي تصميم سلوكيات مرغوب فيها؛ فيُراقب أصحاب المناصب والمراتب العليا عن كثبٍ، وعلى هذا النحو، يؤثِّر ما يفعله القادة بقوةٍ فيما يفعله الآخرون. أما الأداة الثالثة فهي التوجيه المباشر والتقييم؛ مما يساعد الأفرادَ والفِرَقَ على تحوُّلهم هم أنفسهم إلى مُنتجين وقادة مُتميزين.
وبالاشتراك المنتظم في هذه الأنشطة، يُطوِّر الأشخاصُ أنفسَهم إلى قادةٍ، بينما يساعدون المؤسسة التي يعملون لها كذلك على تنفيذ مهمتها؛ لكن هذا لن يحدث دون التزام ودعم ثقافي. علاوة على ذلك، قيادة الابتكار مهمة صعبة بسبب سمات الابتكار المتناقضة في ظاهرها.
يتعيَّن على القادة، الذين يريدون تعزيزَ الابتكار، أن «يدعموا التوجُّهات والأفعال المتناقضة ويشكلوها»؛ يجب أن يتعايشوا مع التناقض. فدور القائد في تعزيز الابتكار هو أن يبني ثقافةً مَرِحة ومنتظمة، فوضوية وموجهة، مليئة بالخبراء وغير المتخصصين ذوي التفكير الواسع الأفق؛ ثقافة تدعم المعايير الصارمة وتتسامح مع الفشل؛ إنها ثقافة الاحتمالات.
وصفة للابتكار
غالبًا ما يتساءل القادة الذين يسعون إلى التحفيز على الابتكار أو تعزيزه أو إحيائه داخل مؤسساتهم؛ عمَّا عليهم القيام به. إنهم يَعُونَ جيدًا أن مجرد طلب الابتكار لن يحقِّقه، ويدركون أن المجموعات المتعددة التخصُّصات لا تأتي دائمًا بأفكارٍ جديدة ورائعة، وليس بالضرورة أن يُثمِرَ التعاوُنُ بين التخصُّصات المختلفة عن التآزُر. في الواقع، بغير مزيج استثنائي من الانفتاح والتواضع والموهبة والحافز والإبداع، ربما لا يتحقَّق الابتكار، ومن الواضح أن القيادة ضروريةٌ لتنميةِ هذه السمات في مجموعات الأفراد الدائمة التغيُّر — غالبًا داخل وخارج المؤسسة — وتوجيهِها من أجل تحقيق غايات محددة.
يتميَّز العملُ الجماعي من أجل الابتكار بطبيعة ديناميكية؛ إذ يتضمَّن تحديدَ المشاركين (الذين يكونون مؤقَّتين في الغالب)، والتحديدَ السريع لما يتعيَّن القيام به، والدورَ الذي يستطيع كلُّ فرد من هؤلاء الاضطلاعَ به. إن بيئة العمل في كثير من المجالات في حاجةٍ للمزيد والمزيد من هذا النوع من المرونة؛ وجزءٌ متزايد من العمل نفسه — سواء أكان تصميمَ منتجٍ، أم رعايةَ مرضى، أم إنتاجَ برامج مخصَّصة، أم اتخاذ قرارات استراتيجية — يفرض أوجهَ ترابُط معقَّدة كثيرًا ما يلزم التعامُل معها على عجَل.
لكن، مهما كانت درجة المرونة والاستعداد للعمل مع الآخرين، التي قد يكون عليها زملاءُ المرء، فنادرًا ما يحدث العمل الجماعي الفعَّال من تلقاء نفسه؛ إنه يتطلب بذل الجهد. يحتاج العمل الجماعي إلى ترْكِ المرءِ الحذرَ الذي يكون لديه عند عمله مع الآخرين، وإلى تعاوُنِه مع زملائه على أساس الاعتماد المتبادل؛ إنه يتطلَّب تقديمَ أفكارك ومهاراتك بنحوٍ مدروسٍ، على أن تكون مهتمًّا بنفس القدر — إن لم يكن أكثر — بما يجب أن يقدِّمه الآخرون، بغضِّ النظر عن منزلتهم أو وضعهم في السلم الوظيفي. إنه يتطلَّب قبولَ أنه من المستحيل أن تبدو بمظهر جيد أو تكون على حقٍّ طوالَ الوقت. إن العمل الجماعي من أجل الابتكار يتطلَّب الإبداعَ والتواضعَ والتعاطف والحافز؛ ونظرًا لأن هذه السمات يمكن أن تزيد وتنقص في العالَم الواقعي، خاصةً في مكان العمل، يحتاج القادة إلى دعمها.
باختصار، مهمةُ القيادة في الابتكار تتمثَّل في الحفاظ على تركيز الأفراد منصبًّا على الغرضِ الذي تسعى المؤسسة لتحقيقه، والأهدافِ التي تكافح لتحقيقها، وأن يكونوا رعاةً لثقافة الابتكار القائمة على التناقض والتعارض.
توصيات للقادة الذين يسعون إلى تعزيز الابتكار في مؤسساتهم:
التطلُّع إلى هدف طَموح
ما الذي يدفع عملية الابتكار؟ دعُونا نواجه الأمر. إن التوصُّلَ إلى شيء جديد وعملي وتطويره بالكامل عملٌ صعب. توضِّح توصية «تطلَّع إلى هدف طَموح» أن الابتكار يحفِّزه — على أفضل نحوٍ — هدفٌ قوي يجيب عن الأسئلة التالية: لِمَ أكترث؟ لِمَ أُتعبُ نفسي؟ هل يستحق الأمر حقًّا أن أركِّز على القيام بشيء جديد ومفيد أولًا، وأن أضع ذاتي في المرتبة الثانية؟ إن الهدف الطموح الموجَّه للمستقبل يكون مُحفِّزًا بقوة، ولا سيما إذا كانت علاقتُه بعمل اليوم واضحةً؛ وهذا يسهِّل أكثرَ المخاطرةَ ومعاناةَ ألمِ العمل الشاق في بيئة كثيرة المطالب حيث لا يوجد شيء أكيد، كما يعني وضْعَ أهدافٍ طموحة تمتد إلى ما وراء ما يبدو عمليًّا في البداية؛ مثل: إنقاذ ٣٣ عاملَ مناجم علِقوا تحت ألفَيْ قدمٍ من الصخور، أو إخراج ستِّ رهائن أمريكيين بارزين من إيران، أو تجنُّب الأخطاء الطبية في المستشفيات.
تشكيل فريق العمل
إن الابتكارَ لعبةٌ جماعية؛ فقليلة هي الطموحات المؤسسية المهمة التي يمكنك تحقيقها بمفردك، أو التي تستطيع حتى مجموعة من الأشخاص ذوي الخبرات المتشابهة تحقيقَها. إن إنتاج شيء جديد ومفيد يتضمن غالبًا، تقريبًا، تجاوُزَ حدود المعرفة، وهذا يعني أن أفراد الفريق لن يتفقوا على كل شيء طوال الوقت. وبالرغم من أن الصراع يمكن أن يولِّدَ أفكارًا جديدة ومبدعة، فإنه يستطيع كذلك أن يؤدي إلى الشعور بالاستياء والإحباط وخروج قطار الابتكار عن قضبانه. إنني أتحدث عمَّا تتطلبه إدارةُ الاختلافات لصالح المشروع، وكيفية تجنُّب مخاطر الخلاف أو التخفيف من وطأتها.
الإخفاق بذكاء
على طول الطريق نحو تحقيق الطموحات الجديرة بالجهد في التعاون مع زملاء من مجالات مختلفة، ستواجه بالتأكيد إخفاقات. أُوضِّح في هذا السياق أن مفتاح الإخفاق بذكاء هو الاستفادة من تجارب الجميع ورُؤَاهم لتحديد ما لدينا من معرفة بالفعل؛ وذلك لكي نتمكَّنَ من تجنُّب حالات الإخفاق «المتوقَّعة»، وإجراء تجارب تساعد على سدِّ فجوات المعرفة لدينا. وبهذه الطريقة، تكون حالات الإخفاق التي تحدث ذكيةً ومحدودة قدر الإمكان.
لفهم المقصود بالإخفاق بذكاء، يجب أولًا أن نوضِّح ثلاثة أنماط من الإخفاق، ثم نوضح السبب وراء الأهمية الشديدة لحالات الإخفاق بذكاء بالنسبة إلى الابتكار. يأتي الابتكار لهؤلاء الذين يخفقون كثيرًا ويخفقون مبكرًا (ذلك لأنهم يحدِّدون الخيارات غير المجدية)، ومثلما قال توماس إديسون: «النتائج السلبية هي بالضبط ما أريده. إنها لا تقل قيمة عن النتائج الإيجابية بالنسبة إليَّ؛ فأنا لا يمكن أن أعثر على أفضل طريقة لإنجاز مهمةٍ ما، حتى أعثر على الطرق التي لا تجدي نفعًا.»
التعلُّم بسرعة
بعد ذلك، سأستكشف ما يتطلبه «التعلُّم» من الإخفاق، ومن التجارب الأخرى كذلك. فتأمُّلُ فريق العمل فيما حدث، وفي الدروس المستفادة، وما يتعيَّن تجربته بعد ذلك؛ خطوةٌ أساسية في عملية الابتكار، ويتعيَّن فعل ذلك علانيةً وبسرعة، وذلك عن طريق مشاركة الرؤى المتبصرة على نطاق واسع؛ لكي يستطيع بقية الأفراد في المؤسسة تحاشيَ إعادةِ إنتاج نفس الإخفاقات مرة أخرى. يساهم القادة في دعم عملية التعلم هذه من خلال طرح أسئلة تحفِّز على التأمُّل والنقاش. وطرْحُ أسئلة حول العملية وأسباب الإخفاق إجراءٌ بالغُ القيمة. ويتمثَّل الغرضُ من التأمُّل في التوصُّل في النهاية إلى التجربة التالية، مما يعني أحيانًا الإذعانَ للتوجُّه إلى الإخفاق التالي، وإتْباعه بمزيدٍ من التأمُّل. إن مفتاح التعلُّم والابتكار داخل المؤسسات هو عدم توقُّفِ دورة التعلُّم على الإطلاق، ويظل الغرض (الذي يسعى الفريق لتحقيقه) ثابتًا. أما العملية — وهي الكيفية التي نضطلع بها بالأمور — فعادةً ما يمكن تطويرها.
تكرار العملية
دعونا نواجه الواقعَ. في بيئة العملِ اليومَ، لا تتوقَّف عمليةُ التعلم أبدًا؛ فنحن نحقِّق بعضَ الأهداف ونُخفق في تحقيق أخرى، لكن دورة تحديد الأهداف، وتشكيل فِرَق العمل، والقيام بإخفاقات ذكية، والتعلم منها؛ تظلُّ مستمرةً. وللتأكيد على هذه الرسالة، سأختم الكتاب بتلخيص هذه التوصيات، مع تقديم بعض الأفكار الأخيرة المقتضبة لهؤلاء الذين يقودون رحلةَ الابتكار.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/organizations/37261