محمد قواص
أنتجت الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان بقوة في عام 2019 كارثة غير معهودة، وصفها البنك الدولي بأنها الأكثر سوءاً في التاريخ الحديث، وبات لبنان اليوم حالة تُدرّس في العالم حول كيفية انهيار الأنظمة الاقتصادية والمالية لدى الدول.
تسلِّط هذه الورقة الضوء على راهن الأزمة الاقتصادية اللبنانية وأهم الأسباب التي أنتجتها، وكيف تقاطعت العوامل التقنية للانهيار الاقتصادي بالعوامل السياسية والجيوسياسية، كما تحاول الورقة استشراف السيناريوهات المتوقّعة لهذه الأزمة.
الطريق إلى الانهيار: سياق الأزمة الاقتصادية اللبنانية وأسبابها
بدأت الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان بالتفاقم عام 2019 مُتسببة في اندلاع احتجاجات حاشدة، وفي ظلها تراجعت القدرة على سداد الديون وتحويل الأموال، ما أدى إلى انخفاض قيمة العملة المحلية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والمحروقات والمواد الأساسية الأخرى، وواجهت البنوك اللبنانية ضغوطاً كبيرة نتيجة تسارع عمليات سحب الودائع، ما أدى إلى انهيار الثقة في القطاع المصرفي. وردّاً على ذلك، فرضت المصارف قيوداً على رأس المال، ما حدَّ بشكل كبير من عمليات سحب العملة الصعبة، وأدت هذه الأزمة إلى انهيار نظامُ سعر الصرف الثابت بأكمله. ولا يزال المصرف المركزي، رسمياً، هو الجهة المناط بها ضبط سعر الصرف المتدهور.
وفي العام 2020، تطورت الأزمة بشكل كبير بسبب تداعيات جائحة كورونا والانفجار الذي حدث في مرفأ بيروت في أغسطس من نفس العام، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة، وتراجع النمو الاقتصادي، وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتعاظُم الدين العام. واستمرت التحويلات المالية من الشتات اللبناني بالانخفاض بعدما كانت تتراجع بشكل كبير قبل الاحتجاجات، لاسيما منذ 2014 عندما خفّضَ اللبنانيون في دول الخليج تحويلات الأموال بسبب الانخفاض في أسعار النفط، وما خلقه من تداعيات على الوظائف والأجور. كما كانت هناك أسباب جيوسياسية لتسريع الأزمة المالية في لبنان، مثل الحرب التي اندلعت في سورية عام 2011، والتي أثّرت في ثقة الاستثمار الأجنبي في لبنان المجاور، وسحب بلدان مجلس التعاون الخليجي دعمها الاقتصادي للبنان رداً على تزايد نفوذ “حزب الله” المدعوم من إيران في البلاد.
ولأن جذور معضلة لبنان الاقتصادية قديمة وتمتد حتى نشأة الكيان اللبناني الحديث نفسه، فإن عوامل الأزمة تراكمت مع مرور السنين، وفي طليعتها الفساد وسوء الإدارة المالية والسياسية والاقتصادية وارتفاع معدلات الدين العام وتراجع النمو الاقتصادي، إضافة للصراعات السياسية والعسكرية الداخلية، ناهيك من الحروب الإقليمية والمعطيات الجيوسياسية التي تؤثّر في الاقتصاد اللبناني. لكن من ضمن الأسباب التي أدت إلى الانهيار الراهن أن هناك سلوكاً خارجياً، عربياً ودولياً، جديداً لم يعد يقبل التعامل مع منطق “الاستثناء” اللبناني، لجهة الاستمرار في تمويل نظام اقتصادي بات مترهلاً ويحتاج إلى إصلاحات جذرية تُوقِف حالة الهدر والتسيّب والفساد المستشري والمغطى من قوى داخلية نافذة.
الهندسات المالية المؤسسة للانهيار
للأزمة الاقتصادية في لبنان سمات قد يتحمل مسؤوليتها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، على الرغم من قانونية صلاحياته باعتباره حاكماً للمصرف المركزي، ومن التغطية السياسية التي كانت تؤمنها له الحكومات اللبنانية المتعاقبة. أسّسَ سلامة وحافظ على مناخٍ مُستَقِرٍّ لسعر الصرف في لبنان الذي كان مواتياً للاستثمار الأجنبي المباشر، مدفوعاً في البداية بأجندة إعادة الإعمار بعد الحرب التي روّجَ لها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري من خلال ربط سلامة الليرة اللبنانية بالدولار الأمريكي، ما أدّى إلى دولرة العملة بشكل فعال، ونجح في ربطها بسعرٍ ثابت بلغ 1507 ليرات للدولار منذ العام 1997.
وقد عُرِف سلامة بأنه كان وراء الهندسات المالية التي وقفت وراء بروز ظواهر انتعاش وازدهار مالية استندت إلى المضاربة والمخاطرة أكثر من استنادها إلى القوى الاقتصادية والإنتاجية الحقيقية للبلد. واعتمدت هذه “الهندسات” على تداول للدولار الأمريكي بين الدولة والبنك المركزي والبنوك اللبنانية باستخدام معدلات فائدة مرتفعة وجناية دخل وأرباح ممتازة كحوافز اقتصادية. ولطالما اعتبر سلامة أن مهماته وخياراته كانت متّسقة دائماً مع السياسات الحكومية التي تطلّبت ثبات تدفُّق العملة الأجنبية إلى لبنان، خصوصاً تلك الواردة من المغتربين اللبنانيين، ولو تطلّب الأمر جذبها من خلال أسعار فائدة أعلى بكثير مما هو معمول به دولياً.
وعليه، فقد استفاد المستثمرون من فوائد ودائعهم خلال العقود الماضية، لكن الهندسات المالية عظّمت من حجم الثروات لدى مساهمي البنوك والمودعين الأثرياء. وكان لافتاً ما كُشِفَ عن ارتباط أصحاب المصارف في لبنان بالطبقة السياسية الحاكمة في البلد. قامت سياسة المصرف المركزي على مراكمة الودائع بالعملات الأجنبية من خلال سندات أو شهادات إيداع بفوائد مغرية. وشاركت المصارف اللبنانية في هذه السياسة بهدف جذب أموال المودعين ثم إقراضها للدولة اللبنانية من خلال المصرف المركزي بإدارة سلامة. والحقيقة أن تواطؤاً قد حصل بين المودع والنظام المصرفي والدولة اللبنانية بهدف الربح السهل من جهة، والانفاق المفرط من جهة أخرى.
وفي حين يُطالب المودعون باسترداد ودائعهم التي بُدِّدَ أكثر من 50 مليار دولار منها منذ 2019، يردّ النظام المصرفي بأن الأمر يعود إلى الدولة اللبنانية التي باتت، بسبب الانهيار الاقتصادي، عاجزة عن سداد ديونها الداخلية والخارجية، وبالتالي فهي غير قادرة على توفير الأموال للمصارف للعمل على ردّها لأصحابها المودعين. والواضح أن المجادلة بشأن مسؤولية المصارف أمام المودعين باتت تتلطى خلف “إفلاس” الدولة للتهرُّب من جُرم التصرُّف بأموال المودعين، وتبديد مدخراتهم، وهم الذين أودعوا أموالهم لدى هذه المصارف، وليس لدى المصرف المركزي أو الدولة اللبنانية. وقد انتقد صندوق الدولي هذه الهندسات ومَنْ يقف وراءها، وحمّلها مسؤولية جانب من الانهيار القائم.
خطة صندوق النقد الدولي
يُعوّل لبنان على اتفاق مع الدول المانحة للخروج من مأزقه الاقتصادي التاريخي. غير أن هذه الدول تنصح بيروت بالاتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين لإيجاد بيئة ملائمة يقبل بها المجتمع الدولي تكون قاعدة لأي تدخل مالي خارجي لصالح الاقتصاد اللبناني. وقد استنتجت حكومات بيروت منذ عام 2019 أن الدول المانحة العربية (لاسيما الخليجية) تتمسّك بالمعايير التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وأن لا سبيل لإعادة ضخّ الأموال من دون التأكد من تنفيذ الإصلاحات التي من شأنها تأهيل النظام الاقتصادي والمالي والمصرفي اللبناني لينال ثقة المانحين.
وقد أعلن صندوق النقد الدولي عام 2020 إثر تخاطُب مع الأمم المتحدة، خطة إنقاذ اقتصادية للبنان، تضمنت بعض الشروط التي يجب على لبنان تنفيذها للحصول على الدعم المالي. ومن بين هذه الشروط:
1. تطبيق إصلاحات اقتصادية تقوم على تنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية واسعة النطاق، بما في ذلك تحسين الإدارة المالية والمالية العامة، وتحسين بيئة الأعمال، وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد.
2. تحسين الحوكمة، وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص.
3. تحسين قطاع الكهرباء والنفط والغاز وتطويره، وتقليل الخسائر المالية، ورفع كفاءة الإدارة والبنى التحتية والإنتاجية.
4. تحسين الشبكة الاجتماعية، وضبط شفافية الدراسات بشأنها، بما يوفّر الدعم الاجتماعي للفئات الأكثر فقراً وضعفاً.
5. تحسين النظام الضريبي، وإصلاح النظام المصرفي بما فيها إعادة هيكلة البنوك التجارية في البلاد، وإلغاء تمويل البنك المركزي، وقانون ضوابط رأس المال، وتعديل قانون السرية المصرفية ليتوافق مع المعايير الدولية لمكافحة الجرائم المالية، وتوحيد أسعار الصرف المتعددة لليرة اللبنانية.
ويعتمد مسار الخروج من الأزمة المالية نفسها إلى حد كبير على تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد الدولي، بعد اتفاقٍ مبدئي تم التوصل إليه بين الصندوق والحكومة اللبنانية في أبريل 2022. وسيُقدِّم الصندوق، شرط تنفيذ الإصلاحات، 3 مليارات دولار تهدف إلى استعادة الاستدامة الاقتصادية والمالية للبلاد. وتتوقع دراسات انتعاشاً في سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار، في حال نُفِّذ برنامج تعديل وإصلاح شامل بمساعدة صندوق النقد والبنك الدوليين.
السيناريوهات
في ضوء ما سبق ذكره، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة للأزمة الاقتصادية في لبنان ومآلاتها المستقبلية:
السيناريو الأول، استمرار الأزمة الاقتصادية، وتفاقُم أزمة النقد اللبناني وانهيار الليرة، وامتناع النظام المصرفي عن تقديم خدماته للعملاء، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات اقتصادية. ما سيؤدي إلى تواصل الارتفاع في أسعار السلع والخدمات، وفي نفس الوقت تنامي الاحتجاجات والانقسامات الاجتماعية، مع ما يواكب ذلك من تهديدات أمنية وخطر على الاستقرار الداخلي، خصوصاً إذا ما تفاقم عجز الدولة اللبنانية وأدواتها الإدارية والأمنية عن كبح أزمة انهيار القوة الشرائية، ومخاطرتها بالتالي بفقد مقومات ردع الفوضى في البلاد.
السيناريو الثاني، التوصُّل إلى معادلة داخلية وخارجية لا تمثّل حلاً للأزمات القائمة بل إدارة لها بما تيسّر من عوامل وأدوات تمنع سقوط البلد في هاوية الانهيار التام، بما في ذلك الاعتماد على الاقتصاد النقدي من خارج المنظومة المصرفية، وفق ما لاحظ البنك الدولي. وتقوم تلك المعادلة على تطبيع لبنان مع الأزمة مع محافظة الطبقة السياسية على الحدود الدنيا من عملية تسيير البلد من خلال حكومة تصريف الأعمال، إضافة إلى ضخّ مساعدات خارجية مالية وعينية تحت عناوين إنقاذية وإنسانية تتجنب اشتراطات الدول المانحة بإجراء إصلاح جذري وبنيوي للهياكل الاقتصادية في البلاد.
السيناريو الثالث، تبلور توجه داخلي-خارجي لإنضاج تسوية سياسية تُنهي الفراغ الرئاسي الراهن، وتؤدي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ويفترض أن تشمل التسوية الاتفاق على تشكيل حكومة بمواصفات ومهام تستجيب لمطالب الإصلاح التي ما برحت الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية تشترطها قبل منح لبنان أية مساعدات مالية كبيرة لإعادة إنعاش البلد واقتصاده المتهاوي. وسيكون مطلوباً من هذه المنظومة (الرئاسية والحكومية) الجديدة تقديم خطة تعافي تحظى بدعم صندوق النقد ورعاية الدول المؤثرة في الملف اللبناني لفتح خطوط التمويل وفق برنامج إنقاذ للنظام المالي والاقتصادي والمصرفي في البلاد.
استنتاجات
تعود الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان إلى مراحل تاريخية قديمة تراكم خلالها سوء الإدارة والفساد، وراجَ التسيّب تحت غطاء سياسي ساهمت به عائلات سياسية نافذة تُسيطر على نسبة كبرى من مصارف البلد وقطاعاته الاقتصادية والتجارية. ويعود انفجار الأزمة وانكشافها أيضاً إلى توقف الفاعلين الخارجيين المؤثرين عن التعاطي مع فكرة “الاستثناء” اللبناني، ومطالبتها القوى الحاكمة في البلاد بضرورة التكيُّف مع المعايير الدولية.
ويكشف تدخل القضاء الخارجي (الفرنسي والألماني) في مسار الأزمة المالية والمصرفية، من خلال المعركة القضائية الراهنة ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عن عجز المنظومة القضائية اللبنانية عن الفعل من دون وضع ضوابط وإصلاحات اقتصادية ومصرفية تتطلب، بدورها، إصلاحاً هيكلياً سياسياً. ويمثل حلّ المعضلة المصرفية واجهة أساسية لاسترداد المودعين لمدخراتهم وفق خطة توزيع للخسائر مطلوبة من الحكومة المقبلة.
وبات من المؤكد أنه لا يمكن حلّ المأزق التاريخي الحالي في لبنان إلا من خلال ديناميات داخلية تسمح بالاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، على أن يُعاد بعدها تشكيل السلطة من خلال حكومة جديدة. وستكون مهمة هذه الحكومة التعامل مع شروط الدول المانحة وصندوق النقد الدولي في إطار خطة تعافي تتضمن الإصلاحات الضرورية للنظام الاقتصادي، والتي باتت شروطاً تُطالب بها دول ومؤسسات مانحة لتمويل خطط إنقاذ الاقتصاد اللبناني وإنعاشه.
.
رابط المصدر: