تراث السودان بين مخاوف التدمير ومخاطر النهب

مصطفى عبد اللاه

 

يُلقي الصراع المستعر منذ أكثر من شهر بين قوات الجيش ومليشيا الدعم السريع في السودان بظلاله الثقيلة على أغلب الملفات التنموية في البلاد؛ إذ تؤدي العمليات العسكرية المستمرة في العاصمة الخرطوم وعدد من الأقاليم والمدن السودانية إلى تباطؤ سلاسل الإنتاج والتوريد، بالإضافة إلى الإضرار بحركة النقل البري بين العاصمة وكافة الأقاليم السودانية، علاوة على تعطيل حركة الطيران والملاحة الجوية بشكل كامل فوق سماء السودان.

ويعد الملف الثقافي واحدًا من أكثر الملفات التنموية تأثرًا بتبعات التوترات العسكرية في السودان؛ فقد شهدت الحركة التعليمية توقفًا كاملًا في مناطق التوتر، وذلك لتكرار عمليات القصف الجوي والمدفعي، ولقيام الدعم السريع باحتلال المؤسسات التعليمية واتخاذها كثكنات عسكرية. وكذا، أغلقت المؤسسات الثقافية والفنية والترفيهية أبوابها؛ خوفًا من الهجمات أو عمليات النهب، فلقد تمكنت هاتان الأخيرتان من التأثير على مختلف الكيانات الإنتاجية في بؤر الاشتباكات ومحيطها الجغرافي.

التراث المادي الذي يُعد عصب الملف الثقافي في السودان الشقيق بات يواجه الآن أكبر قدر من الأخطار؛ فهناك مؤسسات متحفية وطنية تدور حولها عمليات القتال. فيما تُركت مواقع تراثية وأثرية في شتى أنحاء البلاد بدون حماية كافية أو اهتمام أمني، وهو ما يضعها عرضة لمختلف الاعتداءات من قبل المخربين وصائدي الكنوز وعصابات الجريمة المنظمة سواء المحلية منها أو الدولية.

تنوع تاريخي كبير

يوصف السودان بأنه أحد أقدم وأعرق دول شمال شرق أفريقيا، فلقد تعاقب على أرضه العديد من الممالك والحضارات المحلية، بداية من حضارة “كرمة” التي اتخذت من شمال الأراضي السودانية موقعًا لنفوذها، وامتد عمرها لما يقارب الألف عام حتى حلول 1500 ق.م. ثم حضارة مصر القديمة التي حكمت شمال السودان لفترة نصف قرن تقريبًا.

لتعقبها حضارة “كوش” التي تجاوز عمرها 700 عام، والتي سعت في كثير الأحيان إلى توطيد علاقاتها مع الجارة الشمالية مصر، حتى أن بعض المؤرخين يرجحون الفرضية القائلة بأن ملوك “كوش” قد حاولوا انقاذ الدولة المصرية بعد وقوعها في واحدة من اصعب فتراتها التاريخية وهي المسماة علميًا باسم فترة الانتقال الثالث، حيث قام عدد من الملوك الكوشيين المشهورين مثل: “كاتشا” و”باعنخي” و”طهارقا” بتوسيع نفوذهم شمالًا إلى جنوب ووسط مصر، وحاولوا التصدي للمعتدين الأجانب على وادي النيل وفي مقدمتهم الآشوريين.

ولقد عاصر السودان بعد ذلك عودة الحكم المصري خلال عصر الدولة الحديثة، وهو ما كان دافعًا إلى خلق تعاون ثقافي واقتصادي متعدد الأبعاد بين مصر وأراضي شمال السودان. وظهرت من بقايا حضارة “كوش” مملكة سودانية جديدة عُرفت باسم مملكة “مروي”، وهي التي أبقت على مجدها حتى القرن الأول بعد الميلاد، ثم خلفتها ثلاثة ممالك مسيحية قوية وهي: “المملكة النوباطية” و”مملكة المقرة” و”مملكة علوة”، فقد ساعدتهم ظروف سياسية وعسكرية على البقاء لقرابة الألف عام.

شهد المجتمع السوداني بعد ذلك حالة من التحول التدريجي نحو اعتناق الدين الإسلامي، وهو ما أسهم في ظهور ممالك إسلامية بديلة عن الممالك المسيحية السابقة، ومنها مثلًا: “سلطنة الفونج” و”سلطنة الفور” و”مملكة المسبعات”. ولقد استمر السودان على هذا الحل حتى بداية القرن التاسع عشر حينما شرع محمد علي باشا والي مصر في فتح أرض السودان وضمها إلى لواء الدولة المصرية. واستُكملت تلك الحقبة خلال ما عرف في المصادر التاريخية بفترة الحكم المصري الإنجليزي للسودان، لتنتهي تلك الحقبة مع بداية عام 1956 حينما حصل السودان على استقلاله التام.

خلفت تلك الحضارات والممالك المتعاقبة على تاريخ السودان المئات من المواقع الأثرية والتراثية، لكن القليل منها هو ما تم اكتشافه من قبل البعثات الأثرية، ومنها على سبيل المثال: “جبل البركل”، و”البجراوية”، و”النقعة”، و”المصورات”، التي تنتمي جميعها إلى الحضارتين الكوشية والمروية. وتحتوي تلك المواقع على قبور ملكية مبنية على شكل أهرام، بالإضافة إلى معابد وقصور ومنشآت خدمية متنوعة. فضلًا عن أن هناك العديد من المواقع الأخرى المنتمية إلى الحقبتين المسيحية والإسلامية، مثل “دنقلا العجوز” التي تنتمي تاريخيًا إلى “مملكة المقرة”، و”سنار” حاضرة “سلطنة الفونج”، هذا بالإضافة إلى المئات من المباني والمنشآت التراثية الموجودة بكافة أنحاء السودان والمنتمية إلى العصر الحديث.

مجهودات منقوصة وتهديدات متواصلة 

سعت الدولة السودانية على مدار العقود الماضية إلى صيانة وحفظ تراثها الوطني؛ وذلك من خلال التصريح للبعثات الأجنبية بالبحث والتنقيب عن المواقع الأثرية في شتى ربوع البلاد، وحاولت الدفع بمؤسساتها العملية الوطنية لتنفيذ ذات المهمة. ثم أتبعتها بعملية لإنشاء سلسلة من المتاحف الوطنية؛ لتجميع الآثار المكتشفة، مثل: المتحف السوداني القومي بالعاصمة الخرطوم الذي يحتوي على قرابة خمسين ألف قطعة اثرية من مختلف العصور، ومتحف كرمة بالولاية الشمالية والذي يرصد تطور حضارة كوش، والمتحف الاثنوغرافي الذي يسجل تطور حياة القبائل السودانية على مدار قرون خلت. واهتم السودان كذلك بترميم وتطوير عدد من المبان التراثية؛ لكي تكون بمثابة شواهد على محطات فارقة في تاريخ السودان الحديث، ومنها بيت الخليفة بمدينة أم درمان، وقصر السلطان على دينار بمدينة الفاشر.

إلا أن هناك عاملًا واضحًا يعيب عمليات الكشف والحفظ الأثري في السودان، وهو المتمثل في وجود تركيز على اكتشاف المناطق الشمالية المرتبطة بتاريخ حضارات كرمة وكوش ومروي، لأنها تنتمي بشكل أو بآخر لمجال دراسة علوم المصريات Egyptology، فيما تعاني بقية المواقع الأثرية في السودان سواء المحسوبة منها على الممالك المسيحية أو الممالك الإسلامية من حالة إهمال واضحة؛ إذ لم يتم إلى الآن اكتشاف مناطق أثرية بأكملها في أقاليم شرق وجنوب وغرب السودان، ولم يوضع القدر الكافي من الإجراءات التأمينية لحماية المواقع الأثرية سواء المكتشفة منها أو غير المكتشفة بعد، وهو ما يجعلها عرضة لمختلف أشكال التخريب والتدمير والنهب الممنهج وغير الممنهج.

أول المخاطر المحدقة بتراث السودان يتمثل في الكوارث الطبيعية التي تهدد كافة المواقع الأثرية، سواء في شكل فيضانات أو سيول أو جفاف أو حرائق، ومن الأمثلة على ذلك الفيضان العنيف الذي ضرب منطقة جزيرة مروي الأثرية عام 2020، وهو ما هدد عددًا من الآثار القديمة في تلك المنطقة بالسقوط؛ لعدم وجود مصدات أو موانع صناعية تعطل حركة المياه.

فيما يلعب العامل البشري دورًا أكثر خطورة على سلامة تراث السودان؛ إذ تلاحظ خلال العقود الماضية قيام العديد من المواطنين المحليين والوافدين الأجانب بممارسات من شانها تدمير الآثار السودانية، مثل: استخدام أراضي المواقع الأثرية في الأعمال الزراعية والرعي، وإنشاء المباني والمنازل، بالإضافة إلى الحفر حول الآثار بحثًا عن الذهب الخام تحت الأرض، علاوة على عبث العديد من الطامعين والباحثين عن الكسب غير المشروع بالآثار السودانية سواء المنتمية منها للتاريخ القديم أو المسيحي أو الاسلامي، فيقوم هؤلاء المفسدون بتدمير الموقع الأثري بهدف البحث عن القطع الأثرية النفيسة لبيعها في السوق السوداء.

ولقد كان من الأمثلة الصادمة في هذا الصدد ما نشرته وسائل الإعلام في أغسطس 2020، حول قيام مجموعة من الخارجين عن القانون بجلب معدات حفر ثقيلة بهدف استخراج الذهب الخام من موقع جبل المراغة الأثري بصحراء بيوضة الواقعة على مسافة 270 كم شمال الخرطوم، وهو ما أدى إلى تدمير الموقع بشكل كامل.

ويخشى أن تتكرر ذات المواقف في الوقت الحالي، خاصة وأن قبضة الدولة السودانية أصبحت في حالة من الرخاوة؛ لانشغال الأجهزة الأمنية سواء من الجيش أو الشرطة المدنية في عمليتي تحييد المتمردين ومنع الاضطرابات وأعمال السرقة والنهب داخل المدن، لتبقى المواقع الأثرية بذلك دون حماية من أية جهة. ويُخشى كذلك من أن يتعرض متحف السودان القومي -الذي يوصف بأنه الأكبر في السودان- لعملية نهب واسعة أو تدمير متعمد، خاصة وأنه يقع في قلب مواقع الاشتباكات بالعاصمة السودانية الخرطوم. يتضح مما سبق أن تراث السودان أصبح في وضع لا يحسد عليه؛ فالأخطار أصبحت تحيطه من كل جانب، لذلك لابد للسودان من أن يسرع فور استقرار الأوضاع الأمنية على أرضه بأن يدعو الجهات الدولية المتخصصة لأن تقوم -وبشكل عاجل- بتنسيق برامج هدفها المساعدة على اكتشاف وحفظ التراث الأثري الوطني. ويتعين على الدول العربية أن تتعاون مع السودان الشقيق في إثارة قضية الحفاظ على التراث الأثري أمام تلك المنظمات الدولية. وقد يكون كذلك من المفيد أن يحمل المرشحون المحتملون من العرب أو الأفارقة لرئاسة اليونسكو في دورته القادمة 2025 -2029 قضية تراث السودان كجزء من برنامجهم الانتخابي. ولا ننسى في الختام ذكر أهمية تنظيم عدد من الحملات التوعوية الهادفة إلى تنبيه المواطنين السودانيين لأهمية إرث أجدادهم الذي يعد جزءًا أصيلًا من هوية المجتمع السوداني.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/77504/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M