تعد مبادرة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي، التطور الأهم في الفترات الماضية على مستوى الأزمة السياسية الممتدة التي تشهدها البلاد، وذلك في ضوء كونها بمثابة إلقاء حجر في المياه الراكدة، إذ أن المبادرة حتى وإن لم تستطع حتى اللحظة بناء رؤية واضحة تفصيلية خاصة بالمسائل العالقة، إلا أنها تدفع باتجاه استمرار الحراك السياسي الرامي إلى حلحلة الجمود السياسي الذي تشهده البلاد، كما أنها تدفع باتجاه توسيع دائرة المشاركة في وضع رؤية توافقة خاصة بحل الأزمة السياسية التي تشهدها ليبيا منذ سنوات، خصوصاً وأن المشهد الليبي شهد منذ طرح المبادرة حراكاً سياسياً مكثفاً، يستهدف من جانب زيادة حجم التوافقات بين الفرقاء الليبيين، ومن جانب آخر الدفع باتجاه بناء رؤى توافقية بخصوص بعض القضايا الملحة.
حيثيات مبادرة “باتيلي”
على الرغم من طرح مبادرة المبعوث الأممي بشكل رسمي في 23 نوفمبر 2023، إلا أن بوادر هذه المبادرة كانت قد ظهرت منذ نحو 10 أشهر في إحاطة “باتيلي” المقدمة إلى مجلس الأمن فبراير الماضي، ويبدو أن فترة الـ 10 أشهر كانت مساحة مهمة بالنسبة للمبعوث الأممي لتطوير هذه المبادرة، وطرح بنودها استناداً إلى معطيات المشهد الليبي، وفي هذا السياق يمكن إبراز جوانب المبادرة الأممية في ليبيا، وذلك على النحو التالي:
1- استهدفت المبادرة بشكل رئيسي تجميع الفاعلين الرئيسيين في المشهد الليبي على طاولة الحوار، وهم مجلس النواب ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية (حكومة طرابلس)، والقيادة العامة للجيش الوطني الليبي، من أجل الدفع باتجاه عرض وجهات نظرهم في إطار تشاوري ومحاولة بناء توافقات بخصوص القضايا الخلافية.
2- وفقاً للبيانات المنشورة على الموقع الرسمي للبعثة الأممية بليبيا، بخصوص المبادرة، فإن المبادرة أيضاً والإطار التشاوري المنبثق عنها، يشمل الفاعلين الآخرين في المشهد أو من يمكن تسميتهم بـ “الفاعلين غير الرسميين”، مثل الأحزاب السياسية، والأطراف العسكرية والأمنية الفاعلة، والشيوخ والأعيان، والمكونات الثقافية واللغوية، والأكاديميون وممثلو الشباب والنساء والمجتمع المدني.
3- تركز آلية عمل المبادرة على الإطار التشاوري، كأساس لبناء توافقات بخصوص بعض القضايا الخلافية والعالقة، وعلى رأسها ملف الانتخابات، مع التشديد على الطابع الوطني لهذه الآلية، بمعنى أن دور البعثة الأممية يقتصر على تيسير الأمور بين الفرقاء الليبيين والجمع بينهم في إطار آلية التشاور.
4- تنطلق المبادرة من أرضية تفاوضية تقوم على قانوني الانتخابات الصادرين عن مجلس النواب، واللذينِ تسلمتهما رسمياً مفوضية الانتخابات، من دون العودة للوراء إلى مرحلة الطعن في شرعية القوانين القائمة؛ مُستعيناً بالإشارة إلى قرار مجلس الأمن رقم 2702 لسنة 2023، الذي يحيط علماً بالقانونين؛ وأن ليبيا للمرة الأولى، باعتبار أن ليبيا أصبح لديها إطار قانوني ودستوري منظم للانتخابات، وأن المناقشات التي ستجري ستركز على حل المسائل اللوجستية والسياسية التي تعيق إجراء العملية الانتخابية.
وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أن المبادرة ركزت على جمع هذه الأطراف الخمسة باعتبارها تمثل أطراف النزاع الرئيسية في ليبيا، ومعبرة عن معسكري الأزمة، فضلاً عن كون هذه الأطراف الأكثر فاعلية وتأثيراً في المشهد، إذ يمكن النظر إلى المؤسسات الخمس وفق صيغة 2+2+1، حيث يُمثل شرق ليبيا بمجلس النواب والقيادة العامة للجيش، والمنطقة الغربية عبر حكومة طرابلس ومجلس الدولة، بالإضافة إلى المجلس الرئاسي الذي يُتعامل معه بوصفه مؤسسة محايدة ومنفتحة على مختلف الأطراف.
حراك سياسي مكثف
شهدت الفترة في مرحلة ما بعد طرح مبادرة “باتيلي” حراكاً سياسياً مكثفاً في إطار التداعيات المترتبة عليها، وهو الحراك الذي نظرت إليه العديد من الدوائر بشكل إيجابي يمكن البناء عليه، وفي هذا السياق يمكن رصد أبرز هذه التحركات وذلك على النحو التالي:
1- الطاولة الخماسية في تونس: احتضنت العاصمة التونسية في 15 ديسمبر الجاري، ما أُطلق عليه “الطاولة الخماسية” في إشارة إلى الاجتماعات التحضيرية للطاولة الخماسية التي دعا إليها المبعوث الأممي عبدالله باتيلي، والتي تسبق انعقاد الاجتماع المرتقب في مستوى القيادات الكبرى في العاصمة المغربية الرباط، وشهدت هذه الطاولة مشاركة ممثلين عن الجهات الخمسة التي ركزت عليهم المبادرة الأممية، وعلى الرغم مما حملته إشارة “باتيلي” في إحاطته التي قدمها لمجلس الأمن بخصوص الطاولة، على مستوى تعرقل جهود التسوية، إلا أن جلوس هذه الأطراف على طاولة واحدة للتشاور يعد في ذاته مكسباً مهماً يمكن البناء عليه.
2- اجتماعات القاهرة بين الزعامات السياسية: شهدت العاصمة المصرية القاهرة في 18 ديسمبر الجاري، انعقاد مباحثات رسمية رعاها رئيس المخابرات العامة المصرية الوزير عباس كامل، مع رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي لبحث الأزمة الليبية، وعلى هامش هذا الاجتماع أعلنت الأطراف المشاركة ترحيبها بالمشاركة في جولة الحوار الذي دعت إليه بعثة الأمم المتحدة في ليبيا “دون إقصاء لأي طرف مع مراعاة تحفظات ومطالب المجتمعين والأخذ بها”، وأكد صالح وحفتر والمنفي على أهمية الجهود التي تقودها بعثة الأمم المتحدة “وأهمية دعم الحل الليبي – الليبي المتوازن بما يحقق تطلعات وآمال الشعب الليبي لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة”، ودعوها إلى ضرورة إيجاد أرضية مشتركة تضمن نجاح الحوار، ويمكن القول إن هذا الاجتماع حمل جملة من الدلالات المهمة، خصوصاً ما يتعلق بتوافق معسكر شرق ليبيا بوساطة مصرية على دعم أي جهود تفضي إلى حلول مستدامة للأزمة الليبية ومعالجة القضايا العالقة.
3- زيارة رئيس البرلمان الليبي لأنقرة: أجرى رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح منذ أيام زيارة للعاصمة التركية أنقرة، التقى خلالها بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس مجلس النواب التركي نعمان كورتولموش، وقد ارتبطت أهمية الزيارة بعدد من الاعتبارات الرئيسية، منها ما يتعلق بالسياق الذي جاءت فيه حيث التفاعلات المصاحبة لطرح المبادرة الأممية، ومنها ما يتعلق بفحوى المباحثات نفسها، والتي شملت بحث معوقات حل الأزمة السياسية الراهنة وعلى رأسها أزمة تنازع السلطات وازدواجيتها، والانحيازات الإقليمية لبعض الأطراف، فضلاً عن مسألة المرتزقة والقوات الأجنبية المتواجدة في ليبيا.
تحديات قائمة
على الرغم مما تحظى به المبادرة الأممية من أهمية في ضوء كونها محاولة لتحقيق اختراق سياسي للأزمة ولو بشكل نسبي، إلا أنها تواجه جملة من التحديات القائمة، سواءً التحديات البنيوية في المبادرة نفسها، أو التحديات المرتبطة بتعقيدات المشهد السياسي الليبي، ويمكن إبراز هذه التحديات، وذلك على النحو التالي:
1- أحد التحديات والإشكالات البنيوية الرئيسية التي تواجه المبادرة الأممية في ليبيا تتمثل في ما تعتبره بعض الدوائر تهميشاً لبعض الأطراف المهمة في المشهد الليبي، وهو ما يتجسد بشكل واضح في حكومة أسامة حماد في شرق ليبيا، والتي يُنظر إليها على أنها طرف سياسي شرعي ومنبثق عن مجلس النواب الليبي، كما أن المبادرة لم تشهد تمثيلاً لإقليم الجنوب وخصوصاً منطقة فزان، بالإضافة لبعض الفئات النوعية من الأمازيغ والطوارق والتبو، جنباً إلى جنب مع فريق سيف الإسلام القذافي، وهو إشكال يدفع العديد من الدوائر الليبية إلأى التحفظ على هذه المبادرة أو رفضها من الأساس.
2- يوجد خلاف بين بعض الأطراف الممثلة في المبادرة حول بعض النقاط الرئيسية والأولويات الملحة في الفترة الراهنة، فعلى سبيل المثال يركز مجلس النواب الليبي على ضرورة تشكيل حكومة جديدة توافقية، وتمثيل حكومة الشرق في الإطار التشاوري، وذلك في الوقت الذي يرفض فيه الدبيبة ومجلس الدولة برئاسة محمد تكالة هذا الطرح، وفي ذات السياق فإن رئيس الحكومة منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة يُظهر إعلامياً دعماً واضحاً للمبادرة الأممية إلا أنه يتبنى في الوقت ذاته رؤية تقوم على أولوية إقرار دستور جديد دائم للبلاد قبيل عقد أي انتخابات.
3- أحد الإشكالات الرئيسية التي تواجه المبادرة الحالية تتمثل في مدى القدرة على إلزام الأطراف الرئيسية للأزمة في المشاركة في الإطار التشاوري، وذلك في ضوء تحفظ بعض الأطراف على القواعد الحاكمة والمحددة لهذا الإطار، وهو ما يمكن فهمه من إعلان هذه الأطراف عن شروط مسبقة قبل الجلوس على طاولة الحوار وتبرير رفضها للحوار المرتقب كونه مقتصرًا على الأطراف التي يحملونها مسئولية الانسداد السياسي الراهن، وفي حال تجاوز هذه العقبة، يوجد عقبة أخرى تتمثل في مدى قدرة الإطار التشاوري على بناء توافقات بين أطراف الأزمة حول الملفات العالقة.
4- أحد التحديات الرئيسية والمعضلات المستمرة التي تواجه الأزمة الليبية، تتمثل في استمرار الانقسام الدولي بشأن الوضع السياسي في ليبيا، والذي يضعف كثيراً الوساطة الأممية ويحد من فاعلياتها، خصوصاً وأن المواقف الدولية تجاه الأزمة محكومة على الأرجح بالمصالح الاستراتيجية لهذه الدول، وتحالفاتها في الداخل الليبي، بعيداً عن أولوية حل الأزمة السياسية بشكل مستدام.
وفي الختام يمكن القول إن المبعوث الأممي إلى ليبيا نجح بشكل نسبي في تجاوز العتبة الأولى الخاصة بالمبادرة، متمثلةً في طرح البنود الرئيسية لهذه المبادرة، لكن المبادرة تواجه في مرحلتها الثانية تحديات عديدة، ما يجعل من المبكر الحكم على مسارها ومآلاتها المحتملة، إلا أن المكسب الأهم يتمثل فيما يمكن أن تتيحه هذه المبادرة من فرصة لجلوس الأطراف الرئيسية للأزمة على طاولة المفاوضات، ووجود حراك سياسي يمكن البناء عليه في الفترات المقبلة
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80214/
