متلازمة هوبريس وامراض السلطة

بحسب نظرية الحاجات الشهيرة لعالم النفس ديفيد ماكليلاند والذي ينسب اليه تطوير نظرية دافع الإنجاز المعروفة بالحاجة للإنجاز أو نظرية الحاجة للإنجاز. فإن هناك ثلاثة محفزات كبرى لدى البشر، وهي:

– الحاجة إلى الإنجاز.

– الحاجة إلى الانتماء.

– الحاجة إلى السلطة أو القوة.

وبحسب الدافع المهيمن على الشخص تتحدد أنماط سلوكه وطريقة قيادته، وقد أثَّرت هذه النظرية كثيراً في علم النفس السلوكي، كما تعرضت لانتقادات، ولكنها -على أيَّة حال- ركزت على أهمية دافع الإنجاز باعتباره هو ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، ويحمي الإنسان من (مطاردة الأوهام التي ليس له فيها باع)، بخلاف الدافعَين الآخرَين، حيث الهوس بالقوة والتحكم في الآخرين، أو التبعية حيث ينساق الإنسان عند سيطرة أي منهما لاتباع الأوهام سواء عن استحقاقه الذاتي وقوته، أو عن القيم الشائعة في المجتمع والثقافة المحيطة.

الدوافع الثلاثة موجودة لدى الأشخاص بدرجات متفـاوتة، ودافع القوة يحرك أغلب القادة، وهو شيء طبيعي لأنه يُغذي الصفات القيادية مثل الشجاعة والثقة والإقناع وتولي زمام الأمور، ولكن النظرية تفرق بين نوعين من الحاجة إلى السلطة:

الأول: هو السلطة الاجتماعية حيث يُبدي من خلالها الشخص اهتماماً بالآخرين، ويتمتع بصفات القائد الذي يتحمل مسؤولية أفعاله، ويتبنى قيادة الفريق والعمل المؤسسي.

أما النوع الثاني: فهو القوة الشخصية؛ فيستغلون فيه الأشخاص الآخرين لمصلحتهم الخاصة، ويتورطون في الاعتداءات الجسدية أو النزاعات والتهور، ويتبعون جميع الأساليب بما فيها الكذب والتخويف والاحتيال.

وأظهرت العديد من الدراسات أنه في حين يرتبط دافع الإنجاز لدى القادة بتنمية بلدانهم اقتصادياً وعلمياً، وحل الأزمات، فإن دافع القوة الشخصية له تأثير سلبي أثناء حلول النزاعات؛ إذ يمنع صناعَ القرار والمفاوضين من تقديم تنازلات أو الوصول إلى حلول وسط، وهو العامل المشترك بين رؤساء الولايات المتحـدة الذين انخـرطوا في الحروب. وفي أزمة الصواريخ الكوبية تم نزع فتيل المحرقة النووية بين روسيا والولايات المتحدة في اللحظات الأخيرة؛ إذ كان الأشخاص ذوو الحاجة الشديدة إلى القوة والمؤثرين على صناع القرار في غرفة الحرب يدفعون باتجاه اتخاذ قرارات من شأنها أن تشعل حـرباً نووية عام 1962م.

يقول الكاتب روبرت أي كابلان ان الحكام الذين تعتريهم نشوة السلطة لديهم نقاط عمياء: أي طموح جامح واهداف لا يمكن الوصول اليها وهوس بالعمل واحتياج الى الشعور بالتقدير يبرزونه من خلال المبالغة في التأكيد على مظهرهم الخارجي، مثل هؤلاء الناس يضخمون قيمتهم الذاتية، ويصابون بالغطرسة، ويفرضون وصايتهم على الاخرين، ويتدخلون في كافة الأمور..

يعتمد هؤلاء الناس على المدح وينسبون لأنفسهم الفضل في أمور اداها اشخاص آخرون ومع ذلك فانهم يلقون على الاخرين باللوم في الأخطاء التي يرتكبونها هم انفسهم.. ينشغل هؤلاء الناس بطريقة غير عادية بتأثيرهم في المجال العام ويضفون صفة المثالية على العلامات المادية للنجاح، بينما يجن جنونهم عند تعرضهم للانتقاد ولا يستطيعون ان يعترفوا بأخطائهم او نقاط ضعفهم..

غالبا ماتكون المواجهات مع المرضى بالهوس النرجسي مرهقة. فمن الضروري التملق لهم، لان الصمت قد يفسر على انه انتقاد لهم..

فوفقا لرأي الفيلسوف (فيلوديموس) الذي عاش في العصور القديمة، فان الشخص المتغطرس ينشغل دائما بمكانته وقدراته.. وباستطاعته ان يتوهم انه اكثر أهمية من الاخرين وذلك عندما يؤدي عملا يظن انه عمل مهم.. او انه يعتقد فقط ببساطة ان قدراته تضمن له ان يحقق نجاحا في المستقبل..

يندرج تسلّط الحكّام والمدراء وغرورهم المرضي بالسلطة تحت مسمّى (متلازمة الغطرسة).. حيث إنّ تسمّم الشخصية بمهام السلطة يقود إلى تبديل طبائع السياسيين والمدراء العامّين إلى درجة السقوط في فخّ النرجسية والثقة العمياء بالنفس.

هل ما نشاهده اليوم وفي بقاع متعددة من العالم من جنون القادّة والحكام أو ما يُسمّى في علم النفس بمتلازمة “غطرسة المُمسكين بمواقع القرار”، استشرى في الحقبة الأخيرة أكثر بكثير ممّا كان عليه في الحقبات السابقة؟ وإلام تعود هذه الظاهرة المرضية؟ وهل أدرجت متلازمة الغطرسة ضمن صفحات الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية؟

إن مفهوم «متلازمة الغطرسة» هو مفهوم جديد ينطبق بالأكثر على السياسيين، لكنه يمس أيضاً كل الوظائف المهنية في شتى المجالات كالمؤسسات، البنوك والجامعات….

و(المتلازمة) في الطب، تعني حالة تتميَّز بمجموعة أعراض مرضيَّة، بل، أحياناً، بمجموعة أمراض، ومع ذلك لا تعتبر، في حدِّ ذاتها، مرضاً..

متلازمة الهوبريس المكتسب معروفة منذ زمن قديم، أما لفظ «هوبريس » فيعني، لدى قدماء الإغريق «إساءة استخدام السلطة»؛ لكنه كمصطلح طبي ما يزال غير متفق عليه. إلا أن أول من نبه إلى وجودها في مجال السياسة الحديثة هو وزير الخارجية البريطاني المخضرم، السير (ديفيد أوين) الذي كتب مع جوناثن ديفيدسون وهو طبيب نفسي مشهور وعضو في مجلس اللوردات أيضا، مقال في مجلة متخصصة في علم النفس تحت عنوان مثير هو: «متلازمة الغطرسة: اختلال نفسي مكتسب؟ دراسة لحالات رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، ورؤساء وزراء بريطانيا في مئة عام»، والمقال يحلل إحصائياً وبناء على معطيات هذا المرض، ومعايير سلوكية معينة رؤساء أمريكيين ورؤساء وزراء بريطانيين سابقين للكشف عن إصابتهم بأعراض هذا المرض.

ويرى ديفيد أوين وجوناثان ديفيدسون وجوب تصنيف هذا المرض ضمن الأمراض النفسية التي تستوجب العلاج، وعلى وجه الخصوص في الأفراد الذين بقوا في مناصبهم مدداً طويلة منها، ومنهم يخشى الخطر على بلدانهم أو على السلم العالمي.

وقد أوضح اللورد أوين في مقاله كيف أن الحالة العقلية والجسدية تؤثر على صانعي القرار من الحكام والمسؤولين، واستعرض تأثير الحالة النفسية والجسدية من خلال مائة عام لجون كنيدي كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وعوامل إصابته بمرض أديسون وآلام الظهر التي كان يعانى منها، والتي تسببت في استعماله عقاقير ضد الألم، وكذلك المنبهات والكورتيزون، مما كان له أبلغ الأثر في اتخاذه قرارات خاطئة، كما حدث في مشكلة خليج الخنازير من أجل الإطاحة بكاسترو في كوبا.

ومتلازمة الغطرسة أو الهوبريس تشير الى تسلّط الحكّام والمدراء وغرورهم المرضي بالسلطة حيث إنّ تسمّم الشخصية بمهام السلطة قد يقود إلى تبديل طبائع السياسيين والمدراء إلى درجة السقوط في فخّ النرجسية والثقة العمياء بالنفس.

يعتقد الانسان في هذه الحالة أنّه كفء وقدير أكثر من سائر البشر ويتمتّع بمهارات خارقة ليست متوفّرة عند غيره، ليقع عندها بما يُسمّى (العجرفة اللامحدودة أو الغطرسة).

وقد أثبتت التجارب على مرّ التاريخ أنّ تمركز السلطة في قبضة إنسان واحد لفترات طويلة من الزمن أدّى حتما إلى بسط روحية الاستبداد والديكتاتورية.

أما الدكتاتور المصاب بهذه المتلازمة فيرى شعبه وبلاده من خلال شخصه وليس العكس، وهو يرى نفسه دائماً على أنه القائد، الزعيم، الملهم، المانح، المانع، المهيمن، والشعب على أنه من يستلهم، ويطيع، ويسير خلفه. وقد تتطور حالته إلى حالة تشبه انفصام الشخصية فيتقمص دور القائد المحب العطوف أحياناً، وشخصية الجلاد الذي لا يرحم أحايين أخرى.

وكانت هذه سمات شخصيات ديكتاتورية مثل ستالين، وماو، وصدام حسين، أما شخصيات مثل روزفلت، وخروتشوف فقد طغى عليها حالات من تقلب المزاج المرضي من فرح ونشاط مفرط غير طبيعي، وحالات من الاكتئاب الشديد. وقد أدمن كثير من هؤلاء الرؤساء مثل نيكسون، وتشرتشل على الكحول، وغيرهم على الأدوية والعقاقير.

عاد (ديفيد أوين) ووسع مقاله في كتاب حمل عنوان (في المرض وفي القوة: عن متلازمة الغطرسة وأمراض زعماء الدول خلال السنوات الـ ١٠٠ الأخيرة)..

واتخذ الكاتب امثلة اخرى ( لندون جونسون، الرئيس الأمريكي الأسبق، وكيف أصيب بالاكتئاب ثم اضطراب الهوس الاكتئابي (ثنائي القطب)، والذى ظهرت لديه جلياً خلال مشكلة حرب فيتنام. وأيضا أنتونى إيدن أثناء العدوان الثلاثى على مصر واستعماله المتكرر للمهدئات والمنبهات، مما أثر فى قراراته وكان من نتائجها استقالته من رئاسة الوزراء. فالأمثلة كثيرة والقائمة طويلة تضم على سبيل المثال رئيس فرنسا الأسبق فرانسوا ميتران، وكذلك شاه إيران، والرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون، الذي أصيب بالقلق والاكتئاب واستعماله المفرط للكحوليات. وهناك أيضا أمثلة كثيرة بين الحكام العرب وفى أمريكا اللاتينية. ومن هنا نستطيع أن نستنبط العلاقة المباشرة بين ازدياد القوة والاستعلاء وظهور «متلازمة الغطرسة»،

وللتذكير فقط فإن هذه المتلازمة، تصيب أيضاً كثيراً من المديرين، والمسؤولين، والعسكريين، والتجار، وغيرهم الذين يجدون أنفسهم في مراكز قوة وسلطة لمدد طويلة، بحيث تتسلل لهم الغطرسة مع قضاء وقت طويل في الكراسي، فيستفحل فيهم المرض بعد الإحساس بأنهم لم يصلوا لمراكزهم نتيجة لظروف معينة، أو لأهداف محددة، بل لأنهم فعلاً من فئة أعلى وأرقى من غيرهم، فلا تأخذهم فيهم لا رحمة ولا شفقة، وللغطرسة ضروب وفروع، ولكنها كلها في المحصلة النهائية نتيجة متلازمة مرضية واحدة.

تتميز متلازمة هوبريس بالأعراض التالية:

1- الثقة الزائدة بالنفس وعدم الثقة بالآخرين بل وعدم السماع لهم أصلا.

2- تضخم الذات والتغطرس واحتقار الآخرين.

3- الاستئثار بالرأي والامتناع عن سماع النصح والتصرف دونما روية أو اكتراث واتخاذ قرارات أحادية متسلطة متسرعة وعدم الاكتراث بالتفكير في عواقبها وخصوصا على الآخرين.

4- عدم الإحساس بالواقع المحيط والنرجسية في رؤية العالم ومطابقة المصالح والرغبات الشخصية مع مصالح ورغبات الأمة والميل إلى تعميم الرؤى الشخصية بصرف النظر عن حساب نتائجها غير المرغوب فيها.

5- يبدي المريض ثقة مفرطة في ذاته وعبقريته فيرى أنه على صواب دائما وغيره على خطأ باستمرار.

6- يخلط المريض بين شخصية بلده وشخصيته بل يوحدهما في ذات واحدة.. فالذي ينتقده هو خائن للبلد والذي يعارضه هو عدو للبلد.

7- يرى المريض نفسه دائما على أنه القائد الزعيم الملهم المانح المانع المهيمن ويرى الشعب على أنه من يستلهم منه ومن يطيعه ومن يسير خلفه.

8- يتقمص المريض دور القائد المحب العطوف أحيانا وشخصية الجلاد الذي لا يرحم أحايين أخرى.

9- تقلب مزاج المريض من فرح ونشاط مفرط غير طبيعي إلى حالات متباينة من الحزن أو الخمول أو الاكتئاب الشديد.

10- يتلذذ المريض بإهانة واحتقار أفراد شعبه وإيذائهم من وقت لآخر ليحسوا أنهم في موقع أدنى منه وليحس هو أنه في منزلة أعلى منهم فتجريد أفراد الشعب من كرامتهم يؤكد انفراد الزعيم الأوحد بها أما كرامته الشخصية فهي كرامة قدسية والمساس بها جريمة لا تغتفر.

11- يقحم المريض المبررات الأخلاقية والمثل العليا السامية في كل كبيرة وصغيرة بسبب وبدون سبب.

12- ينظر المريض للعالم على أنه مسرح من أجل تضخيم ذاته فقط ويكون على استعداد لاتخاذ أية قرارات لتحسين صورته فقط ولا شيء آخر ويبدي حرصا غير طبيعي على تلميع صورته أمام شعبه مهما كلفه الأمر.

13- يتكلم المريض بنوع من النغمة المتعالية على البشر من حوله وكأنه يحمل رسالة سماوية أو إلهية لهم أو أن السماء انتدبته كرسول أو نبي لإنقاذهم ولحكم كل ما يدب على وجه الأرض.

14- يحس المريض بأنه ليس مسؤولا أمام شعبه بل مسؤول فقط أمام سلطات أعلى منه مثل الله والتاريخ.

15- يفقد المريض تدريجيا صلته بالواقع ويعيش في وهم الذات ويتخذ أحيانا قرارات اعتباطية فردية مندفعة دون دراسة كافية.

16- وفي نهاية المطاف فإن المصاب بهذا المرض ينتهي به الحال إلى عدم التقدير السليم للأمور وعدم الكفاءة في اتخاذ القرارات والفشل في إنجاز الأعمال الموكولة إليه وتعاظم الإحساس بالعظمة والغطرسة وربما الانفصام التام عن الواقع أو الاكتئاب أو الإدمان.. وأخيرا الجنون.

وإلى ذلك يصنف اوين أعراضاً معينة؛ إذا توفرت أربعة منها في رئيس حكومة ما، يعتبر أنه يعاني هذه «المتلازمة». أبرز هذه الأعراض هي: الثقة الزائدة بالنفس، وبقدراتها الخارقة واتخاذ قرارات تقوم على التقديرات الذاتية، وتسلط الضوء فقط، على النفس، والتصرف بغير تحسب للعواقب، وعدم الإحساس بالواقع المحيط، والنزعة النرجسية في رؤية العالم، ومطابقة المصالح والرغبات الشخصية مع مصالح ورغبات الأمة، والميل إلى تعميم الرؤى الشخصية، بصرف النظر عن حساب نتائجها غير المرغوب فيها، وعدم القابلية لتقبل المحاسبة أو النقد من الآخرين، مع الاعتقاد الراسخ بأن ذلك موكول، فقط، لإرادة الخالق.

كما يوجد بعض الاضطرابات الشخصية التي إن زادت عن حدها قد تصل إلى «متلازمة الغطرسة»، منها الشخصية النرجسية العاشقة لذاتها، وكذلك الشخصية المستهينة بالتقاليد والأعراف في سبيل الاستمرار في القوة والسلطة المطلقة.

ويورد المؤلف قصص الأمراض الجسدية والنفسية لرؤساء أميركا ورؤساء الحكومات البريطانية وزعماء آخرين تقاطعوا مع أحداث مهمة لموضوع الكتاب. ويفصل في إشكالات علاجهم للحساسيات المتوقعة.

غير أن مفاجأة الكتاب الأبرز هي محاولة اقتراح محددات لاضطراب الشخصية المكتسب بفعل ممارسة السلطة، بمعنى أنه وخلافًا للتعريف الكلاسيكي لمحددات اضطراب الشخصية كما في التصنيفات المعتمدة للأمراض النفسية التي تلزم أن تكون محددات اضطرابات الشخصية تجلت في سن الثامنة عشر، فإن المؤلف يحاجج بأن القوة قد تولد اضطرابًا لمن مارسها وإن تجاوز هذا العمر. إذ ثمة أسوياء تجاوزوا العقدين الأوليين من العمر، وما إن يتمكنوا من السلطة لحولين كاملين مع نجاحات ينتشي لها الزعيم، فالمرجح ظهور سمات وطبائع: «متلازمة الغطرسة». والشخصية المتغطرسة بسبب ثمالة القوة تتصف بالغرور والطيش وفرط الثقة، ورفض كل من لا يبجل، وشعور رسالي أن من لا يبارك كل أفعاله هو أحمق أو شيطان، بل ويمشي متبخترًا، وتتغير حتى طريقة كلامه، ثم ينغمس إلى طمأنينة أن آراء من لا يتفقون معه إلى سعير، وأن محكمة الأرض ليست له ولأمثاله وأن التاريخ وحده سينصفه.

بينما وصف الفيلسوف البريطاني ديفيد كوبر الغطرسة بأنها نوع من المبالغة الزائدة في الثقة بالنفس تصرف نظر صاحبها عن أيّ تحذير أو نصيحة لدرجة ازدرائها، وهذه الغطرسة نوع من فقدان الأهلية التي لو علم صاحبها بدلالتها على نقصه لفر منها حتى لا يفُتضح أمره! ومن صفاته يستبين أنه لا يدرك هذا المعنى، وليس فيمن حوله غالبًا ناصح أمين أو صادق شجاع يخبره بالحقيقة أو بطرف منها ولو غمسه بعسل الدنيا كلها؛ عسى أن ينتهي أو يعتدل قليلًا.

وينقل المؤلف عن المؤرخة والمؤلفة الأمريكية باربرا توكمان قولها: إن السلطة تولد الحماقة فالقدرة على إعطاء الأوامر تعطل المقدرة على التفكير، وعندما أصبح المؤلف وزيرًا للخارجية واجه مناسبات أوضحت له مدى تأثير المرض على عملية الحكم وصنع القرار، ولاحظ أن الزعماء الذين سلموا من المرض وقعوا في أسر الغطرسة وهي المرادف لديه لوصف الحماقة التي تعرفها باربرا بأنها الاستمرار في سياسة من الجلي أنها غير مجدية وذات نتائج عكسية، وتتابع قائلة: الذهنية المتخشبة هي منبع خداع الذات حين تتعاطي مع الأمور من خلال أفكار مسبقة مع تجاهل أو رفض أيّ مؤشرات معاكسة.

وذكرت بابرا توكمان أربعة سلوكات تؤدي في المعتاد الى حالات طلاق وانهاء علاقات وحروب وكوارث، اول هذه السلوكات هو السلوك المستبد وهو عادة سيئة منتشرة على نطاق واسع من العمل وحتى مائدة الطعام.. السلوك الثاني هو الطموح اللامتناهي، اما السلوك الثالث فهو الانحطاط الناتج عن القوة وكذلك العجز الذي أدى الى سقوط الإمبراطورية الرومانية.. اما السلوك الرابع فهو العناد غير العاقل، أي الميل الى تصرفات تتعارض مع مصالح الفرد على الدوام.

يظهر من جنون العظمة الذي أصاب الاسكندر الأكبر مدى صعوبة ان يسيطر العقل على النجاح في كثير من الأحيان.. يندرج ضمن الاعراض المرضية لجنونه العظمة ان يؤمن المريض ايمانا مبالغا فيه بأهميته، وان يقتنع ان الأشخاص ذوي الأهمية فقط هم من يدركون عبقريته.. كما يشعر المريض ان أي اتصال جديد بأشخاص اخرين يمثل عبئا عليه حتى يثبت العكس..

فمن خصائص الغطرسة رفض تغيير المسار لأن هذا يتضمن الاعتراف بالخطأ، ولأجل ذلك اقتبس المؤلف نصًا عن برتراند رسل يعلي من فضيلة التواضع، وأشار إلى أن أنظمة التسديد والمقاربة في المجتمعات الديمقراطية تحمي نفسها من قادة من هذا الصنف الضار إذ يكبح البرلمان والإعلام جماحهم حتى يغدو السياسي خادمًا للشعب، فالسلطة حسب هذا المفهوم يمكن إعارتها ويمكن سحبها كذلك.

كما شخص المؤلف أعراض الهوس الخفيف بالابتهاج والحماسة، والطاقة الزائدة والثقة العالية بالنفس، ثمّ شخص نوبة الهوس في مرض الثنائي القطبي من خلال عدة أعراض هي: زيادة الطاقة والأرق، وفرط البهجة، وتسابق الأفكار مع سرعة الحديث، والتشتت، وغرابة الأطوار، والبعد عن الواقعية في النظر للقوة والقدرات الذاتية، وسوء تقييم الأمور، وتعاطي المخدرات، والتبذير، وإنكار الخطأ، وزيادة الرغبة الجنسية، وعدوانية السلوك.

من المعطيات الإحصائية المدهشة في كتاب الطبيب ووزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية ديفيد أوين، أن 29% من جميع رؤساء أميركا، يعانون من مرض عقلي، وأن 49% منهم قد ظهرت عليهم ملامح موحية بوجود المرض العقلي في وقتٍ ما من حياتهم، وأن سبعة رؤساء كانوا يعانون من أمراضٍ عقلية، أثناء إدارتهم شؤون الحكم بين 1906 ـ 2006م، من بينهم تيودور روزفلت، وويلسن، وكوليدج، وجونسون ونيكسون.

أغلب أمراض الرؤساء تسترت عليها الأجهزة الطبية الخاصة، تحت شعار الموازنة بين مصلحة المريض ومصلحة الدولة. ففي فرنسا مثلاً، توفي الرئيس جورج بومبيدو سنة 1974م، وهو في سدّة الحكم نتيجة مرض أُخفي خبره عن الفرنسيين. كما تُستّر على مرض الرئيس متيران بسرطان البروستات، وتحوّل إلى سرّ من أسرار الدولة العليا، وكذلك أُخفيت إصابة الرئيس الأميركي جون كنيدي بالكآبة؛ وهو التستّر نفسه الذي تكرّر مع أمراض تشرشل وريغان وبوش الأب وتاتشر وبلير وبوش الابن وشيراك وشارون. اثنان فقط أجبرا على التخلّي عن السلطة رسمياً بتهمة الجنون، هما الرئيس الفرنسي بول ديشانال عام 1920م، والملك الأردني طلال والد الملك حسين.

المصدر  : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/37175

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M