محددات نجاح المقاومة المدنية في مصر

 مصطفي النمر

مقدمة 

تجدد الحديث عن آليات التغيير للمشهد السياسي المصري خلال الآونة الأخيرة خاصة بعد دعوات التظاهر في سبتمبر2019. وقد جددت تلك الدعوات حالة الأمل والرغبة في التغيير لدى الشارع المصري واتسمت بمشاركة أطياف مجتمعية جديدة في الحراك الجماهيري. وعلى الرغم من عدم قدرة تلك التحركات السلمية على إحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي إلا أنها أحيت النقاش حول جدوى التظاهرات في إحداث التغيير وقدرة الحراك السلمي على النجاح في تحقيق أهدافه.

وتنطلق الورقة من فرضية مفادها أن الحراك السلمي في مصر يمر بموجات صعود وهبوط منذ يناير 2011 وأن الموجة الصاعدة الحالية لا تزال لديها فرصة لإحداث تأثير إيجابي على مسار التغيير المنشود للحالة السياسية في مصر.

وبناء على تلك الفرضية تناقش الورقة المحددات الرئيسية التي تساعد في نجاح النضال السلمي وما هو تقييم الحالة المصرية من تلك المحددات. وتأتي هذه الورقة استكمالاً لورقة سبق نشرها بعنوان “دليل قيادة النضال المجتمعي للتغيير”[1].

أولاً: فلسفة اللاعنف

إذا اعتبرنا أن فلسفة التغيير السياسي تدور حول القدرة على انتزاع السلطة من يد نظام حاكم لا يرغب في تداولها فإن نجاح الحركات اللاعنيفة يكمن في قدرتها على ممارسة سلطة أعلى من سلطة النظام الحاكم مما سمح لها بانتزاع السلطة منه[2]. تتعارض تلك الفلسفة مع فرضية شائعة أن السلطة تنبثق من السيطرة على الموارد والقدرة على ممارسة العنف والتي فشلت في تفسير نجاح حركات التغيير السلمي على الرغم من عدم تكافؤ أدوات العنف بين السلطة وبين الحركة. في بحث أجرته شينوث وستيفن[3] قارنت 323 حركة تغيير بين 1900 وحتى 2006 وانتهت إلى أن فرص نجاح التغيير السلمي ضعف فرص نجاح التغيير العنيف.

تنظر الحركات السلمية إلى السلطة نظرة معمقة. تمثلت تلك النظرة في أن السلطة تعتمد في استمرارها على طاعة العناصر المكونة لها من مؤسسات وأنظمة وأفراد وإبداء فروض الولاء والتعاون للنظام القائم. تتنوع أسباب تلك الطاعة مثل المصلحة الشخصية، أو الخوف من العقوبة، أو اعتياد الطاعة، أو عدم المبالاة، أو غياب الثقة في النفس، أو قيود ثقافية وأخلاقية في المجتمع، أو الحب الأعمى لرأس السلطة، أو فقدان الأمل، أو التقليد. النتيجة الحاصلة من تلك الأسباب هو إعلان فروض الولاء والطاعة واستمرار قدرة النظام على العمل نظرا لتوافر أدوات تحريكه التي يعتمد عليها.

تنجح الحركات السلمية لتركيزها على تفكيك تلك العناصر واستهدافها لسحب العناصر الموالية للسلطة نحو عدم الاستجابة لأوامر النظام وتفكيك بنية النظام من الداخل بشكل منظم واستراتيجي مما ينتج عنه تغيير كامل للسلطة وتحقيق الحركة لأهدافها. فعندما لا يقدم الناس فروض الطاعة لا يعود بالإمكان للجنرالات بالاستمرار في إصدار الأوامر والحكم بشكل مطلق.

تتنوع الأدوات التي تستخدمها الحركات السلمية لتحقيق ذلك الهدف[4] ابتداء من استراتيجية مرنة تهدف إلى تحديد الأهداف والتكتيكات المناسبة والتوقيتات المختلفة لاستخدام تلك التكتيكات. الجزء الآخر يعتمد على تنوع التكتيكات؛ منها تكتيكات تستخدم من أجل إظهار الاحتجاج فقط مثل توزيع المنشورات والتظاهر، أو تكتيكات لإظهار العصيان مثل تكاسل الموظفين عن أداء أعمالهم أو قيام المواطنين بسحب مدخراتهم من البنوك أو الجلوس في المنزل، أو تكتيكات ذات طابع هجومي ومنها التباطؤ أثناء السير بالسيارات من أجل تعطيل المرور أو التكدس داخل مؤسسة محددة من أجل تعطيلها عن العمل.

لكن على الرغم من تنوع تلك الأساليب فقد منيت حركات تغيير سلمي بالفشل أو عدم القدرة على تحقيق أهدافها في العديد من التجارب مثل إيران ومصر وبورما. يدفعنا ذلك إلى النظر في المحددات الرئيسية التي تساهم بصورة أكبر في نجاح الحركات السلمية على حساب الحركات الفاشلة. وعلى الرغم من تعقيد ذلك السؤال البحثي وصعوبة إيجاد علاقة سببية واضحة بين المحددات المختلفة والنتائج نظرا لخصوصية كل تجربة وظروفها المحيطة بها وسياقها الخاص إلا أن هناك بعض السمات المشتركة في الحالات الناجحة يمكن النظر لها على أنها تساهم بصورة أساسية في دفع حركة التغيير السلمي نحو تحقيق أهدافها وهي؛ الوحدة، والتخطيط، والانضباط.

ثانياً: الوحدة

يقصد بمفهوم الوحدة هو توحيد جهود الحركات المناهضة للسلطة بحيث تتحرك سويا بشكل منظم وبأدوار متبادلة. الهدف من توحيد تلك الجهود هو تنويع وجذب شرائح مختلفة وواسعة من المجتمع للمشاركة في المقاومة السلمية. تحاجج شينوث وستيفن[5] أن القيمة المضافة التي تميز المقاومة السلمية عن المقاومة العنيفة هي قدرة المقاومة السلمية على جذب أعداد أكبر وأكثر تنوعا للمشاركة في العمل النضالي. يقصد بتنوع الأعداد التنوع على مستوى الأعمار من أطفال وشباب وشيوخ والتنوع على مستوى الجنس سواء ذكور أو إناث والتنوع على مستوى الأيدولوجيات والأفكار وحتى التنوع على مستوى التأييد للنظام فقد يشارك بعض مؤيدي النظام في إنجاح النضال السلمي في حال تحول موقفهم من النظام إلى موقف حيادي أو موقف داعم لكنه غير فعال.

لا يتعلق الأمر فقط بأرقام المشاركين في النضال وإنما يتعلق بالقدرة على جذب شريحة متنوعة من المجتمع. يمكن تحليل أطياف المجتمع تحليلا سريعا بتقسيمهم إلى 7 مجموعات فيما يعرف بخريطة الحلفاء وهم: مجموعة قيادة العمل السلمي، ومجموعة الفاعلين النشطين في العمل السلمي، مجموعة المؤيدين الخاملين للعمل السلمي، مجموعة المحايدين أو الغير معنيين بالصراع، مجموعة المؤيدين الخاملين للنظام، ومجموعة الفاعلين النشطين لخدمة النظام، ومجموعة رؤوس النظام. يهدف التنوع إلى زيادة القدرة على تجنيد وجذب أكبر قدر من تلك الشرائح لتكون مجموعة مؤيدة للعمل السلمي وبالتالي ينعكس ذلك إيجابيا على نتائج الحراك. من أجل تحقيق ذلك ينبغي السعي إلى توحيد جبهة قيادات العمل النضالي.

إن وجود قيادة موحدة لا يعني بالضرورة إلغاء الاختلافات بين أعضاء تلك القيادة وإنما يعني إيجاد صياغة مشتركة من أجل وضع رؤية جامعة وأهداف استراتيجية تعمل عليها الحركة. يتطلب ذلك الاتفاق على ما هو مشترك والتحلي بالشجاعة الكافية لتبادل الثقة بين الأطراف المختلفة. يلي ذلك وضع رؤية تخاطب الأطياف المختلفة للمجتمع وايلاء التخطيط الاستراتيجي أهمية كبيرة حتى لا يتحول النضال إلى ردود أفعال وتكتيكات لحظية لا تؤدي إلى نتائج إيجابية. يستلزم وضع الرؤية والتخطيط الاستراتيجي تحليلا كليا لبيئة الصراع ولذلك يقول هاردي[6] “وتتولّى الحركات الفعّالة كجزء من عملية التخطيط التي تضطلع بها جمع المعلومات بصورة رسمية أو غیر رسمية، والإصغاء للناس على المستوى الشعبي، وتحليل ذاتها وخصومها والأطراف الثالثة غیر الملتزمة تحليلا متواصلا أثناء فترة الصراع”.

تعقيبا على الحالة المصرية نجد أن الحراك السلمي ضد الانقلاب العسكري فشل في جذب شرائح متنوعة من المجتمع للحشد ضد السيسي في بداية الانقلاب. لكن على مدار الست سنوات الماضية ظهرت العديد من المبادرات والمواثيق التي تدعو الأطياف السياسية المختلفة إلى التوحد والوقوف صفا واحدا ضد الانقلاب. لا يتسع المقال الحالي لذكر تلك المحاولات وتقييمها ولكن ما يسعنا هو ذكر نظرة إجمالية لتلك المحاولات على مستوى الرؤية والتخطيط الاستراتيجي وتحقيق النتيجة المرغوبة في النهاية وهي تشكيل قيادة موحدة ضد الانقلاب العسكري في مصر.

على مستوى الرؤية فقد سعت المواثيق والمبادرات السابقة بصورة مستمرة للجمع بين كل الأطراف وكتابة وثيقة تهدف بصياغتها عدم إثارة السخط والغضب من أطراف المعارضة المختلفة ودائما ما كانت تسعى إلى مخاطبة الجميع وإنهائها بحملة من التوقيعات لشخصيات وكيانات سياسية معروفة ومتنوعة من جميع أطياف المعارضة. لكن مع ذلك لم ينتج عن تلك المبادرات نتائج حقيقية ملموسة غيرت المشهد السياسي أو قربت المعارضة المصرية من تحقيق هدفها بإسقاط النظام العسكري وإحداث تحول ديموقراطي في مصر. يدفعنا فشل تلك المواثيق والمبادرات إلى ترجيح أن الأمر لا يتعلق بكتابة وثيقة لها صياغة جامعة أو إعلان مبادرة تجمع مختلف الأطياف السياسية بل يتعلق الأمر بقدرة المعارضة المصرية على إثبات كفاءتها لقيادة عملية التغيير من الأساس.

ينبغي على المعارضة المصرية استيعاب أن لها تجربة سلبية في ذاكرة المجتمع أثناء إدارة العملية الانتقالية بين 25 يناير 2011 وحتى الانقلاب العسكري في يوليو 2013. تلك التجربة تستلزم حل عقدتها أولا قبل الشروع في مبادرات ومواثيق وذلك عن طريق تقديم إنجازات حقيقية في المشهد السياسي. أي أن الشارع المصري يحتاج إما إلى لاعب جديد في المشهد السياسي أو إلى معارضة قادرة على التخطيط الاستراتيجي وتحقيق إنجازات تعيد ثقة الشارع مرة أخرى. بمعنى آخر لم تعد الأطياف السياسية المتصدرة للمشهد الحالي ذات قدرة على إحداث تحريك حقيقي للشارع المصري دون أن تثبت أولا أنها جديرة بالثقة ليس فقط عن طريق كتابة أو إطلاق مبادرات ومواثيق ولكن عن طريق شرعية الإنجاز وتحقيق خطوات للأمام وهو ما ينقلنا إلى النقطة الثانية وهي التخطيط الاستراتيجي.

تكمن أهمية التخطيط الاستراتيجي في القدرة على تحقيق نتائج إيجابية على المستوى القريب والمتوسط وبعيد الأجل ما يعطي انطباعا إيجابيا في قدرة المعارضة على الفعل وتغيير المشهد. تتسم عملية التغيير بمستوى عالي من التعقيد ينبغي معه اتخاذ قرارات صعبة قد تظهر في حال غياب استراتيجية واضحة بأنها قرارات متناقضة ولحظية. على سبيل المثال ما موقف المعارضة المصرية من الجيش المصري بصورته الحالية وما الطريقة التي ينبغي التعامل معها؟ هل سيكون هناك دعم أو رغبة لتغيير النظام الحالي من داخل المؤسسة؟ هل لدى المعارضة القدرة بالأساس على اختيار طريق مختلف عن ذلك؟ ما موقف المعارضة من العملية السياسية التقليدية للمشهد المصري؟ ما موقف المعارضة من دعوات التغيير التي تظهر من تيارات أخرى؟ تلك الاسئلة هي غيض من فيض من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عنها ليس بصورة فردية من أشخاص المعارضة وإنما الإجابة عنها في إطار نموذج عمل تتحرك فيه القيادة بصورة متجانسة ومنتظمة.

إن مهمة استعادة ثقة المشاركين ليست بالأمر السهل وتحتاج إلى عقد جلسات نقاشية بين قادة المعارضة واعترافهم في البداية بوجود تلك الأزمة حتى يتسنى التفكير في حلول لها. لا تقدم الورقة الحالية حلاً بذاته إلا أن النظر إلى تجارب أخرى مثل تجربة حركة أوتبور في صربيا قد يكون مفيدا في تلك الحالة.

عانت التجربة الصربية من عدة مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية حيث ورط ميلوسوفيتش البلاد في عدة حروب خلال العقد الأخير من القرن العشرين بالدخول في حرب البوسنة والهرسك وكرواتيا، إضافة إلى الفساد الاقتصادي الذي تسبب في تضخم غير طبيعي أدى إلى خفض المرتبات في عام 1979 من 400 يورو شهريا إلى 70 يورو فقط بالشهر عام 1988، إضافة إلى تعرض صربيا لموجة من التضخم عام 1993 وصلت إلى خفض المرتبات لـ 3 يورو بالشهر (وصلت نسبة التضخم 700,000,000%)1. على المقابل لم تستطع الأحزاب السياسية الوصول إلى نتائج إيجابية في صراعها مع ميلوسوفيتش على مدار عشر سنوات حيث عانت من التشتت وانعدام ثقة الشارع والفساد الداخلي.

لكن مع حلول عام 2000 نجحت حركة أوتبور بتوحيد المعارضة – 19 حزبا سياسيا مختلفا – وإسقاط ميلوسوفيتش في الانتخابات. ومع تعدد أسباب النجاح لعوامل داخلية وخارجية تمثل النجاح داخليا في قدرة الحركة على تقديم رؤية جامعة ووضع خطة استراتيجية ذات هدف واضح قابل للقياس “في تلك الحالة هو التصويت ضد ميلوسوفيتش” واستخدام تكتيكات قليلة المخاطر إلا أنها كانت استفزازية للنظام ما أعطى انطباعا بالقدرة على تحقيق نجاحات وأخيرا هو استهداف شريحة مجتمعية مهمة وهم طلبة الجامعات.

إذا ينبغي على المعارضة الحالية إيلاء الاهتمام بشرعية الإنجاز وذلك بوضع هدف استراتيجي قابل للقياس أكثر من شرعية الرؤية وتجميع الأطياف المختلفة. ذلك الإنجاز قد يحدث داخل أو خارج مصر. استطاع نظام السيسي رفع ضريبة المعارضة من الداخل بحملات اعتقال ممنهجة ورد فعل قاسي ضد أي محاولات لمعارضة النظام. إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود فرص في الداخل لكن ينبغي اختيار التكتيكات ذات الخطورة المنخفضة ومحاولة الابتكار في وسائل أخرى قد لا تحتاج إلى وجود عنصر بشري فيها مثل مظاهرة الدمى التي حدثت في روسيا[7]. تكمن أيضا أهمية ملف الداخل في إضفاء شرعية أكبر على المعارضة في الخارج بكونهم لديهم رصيد على الأرض.

لكن على المقابل؛ فإن المعارضة من الخارج تتمتع بحرية أكبر في الحركة والوصول إلى جهات معنية وتكوين شبكة العلاقات العامة التي تخدم أهدافها وقدرتها على العمل والتواصل مع حركات المجتمع المدني في دول أخرى واستخدامها للضغط على حكومات تلك البلاد وتوظيف الملفات القانونية للتأثير سلبا على ملف العلاقات الدولية لنظام السيسي. بمعنى آخر؛ فإن المعارضة في الخارج لا يزال لديها مهام ومسؤوليات لم يتم القيام بها بعد وعليها أن تسعى إلى إيجاد وسائل لمخاطبة الخارج وعدم الانشغال فقط بتحريك الشارع.

ثالثاً: التخطيط العملياتي

إن عملية التخطيط العملياتي يقصد بها مستوى التكتيكات والفعاليات التي تقوم بها الحركة في إطار رؤيتها الاستراتيجية. لا يمكن إنجاح استراتيجية بدون تكتيكات فعالة وكذلك فإن القيام بتكتيكات دون وجود استراتيجية لا يؤدي إلى إحداث تغيير. إن عمل المقاومة السلمية معقد ولا ينبغي اختزاله في مشاهد التظاهر والاحتجاج فقط والتي لا تمثل سوى تكتيك واحد من المقاومة السلمية. في إطار استراتيجية سليمة فإن حركات المقاومة تكون أكثر فاعلية إذا فهمت التكتيكات التي ينبغي اختيارها ومتى وأين يجب تنفيذها، ومن الذي ينبغي عليه التنفيذ، ومن الجهة المخاطبة من ذلك التكتيك، وما ترتيب تلك الخطوة بين غيرها من التكتيكات.

ينبغي للحركة المعارضة الإجابة عن تلك الأسئلة عن طريق تحليل دقيق لقدراتها وإمكانياتها والفرص المتاحة لها، والتحديات التي تواجهها، ونقاط الضعف فيها. كما ينبغي أيضا تحليل بيئة الصراع وأطرافه بما في ذلك المحايدون الذين يمكن أن يؤثروا على الصراع. بناء على ذلك يمكن تطوير تكتيكات قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأمد وتطوير تكتيكات للتعامل مع الأحداث المفاجئة وكذلك تكتيكات يمكن من خلالها خلخلة المشهد.

يمكن تقسيم التكتيكات المستخدمة في النضال السلمي بناء على أهدافها إلى ثلاثة أقسام:

الأول: التكتيكات المستخدمة لإظهار الاحتجاج ونشر الفكرة:

تشمل مجموعه من الأنشطة مثل جمع التوقيعات، وتوزيع الملصقات الدعائية للترويج لأفكار الحملة، وتعطيل العمل والاعتراض عليه، نشر الرموز الدعائية الخاصة بالحركة، الأغاني الاحتجاجية، التظاهرات، الاحتجاجات الشعبية، القيام بالفعاليات ذات الطابع الرمزي مثل إطفاء واشعال الإضاءة المنزلية كرمز للاحتجاج.

تعد الرمزية وإظهار الدعاية الخاصة بالحملة “البروباجندا” هي السمة الأساسية لتكتيكات الاحتجاج والإقناع ولكنها نادرا ما تنجح مقاومة اللاعنف كنتيجة للأعمال الرمزية فقط ومع ذلك يعد دورها مهما في استخدامها بالإضافة إلى تكتيكات أخرى. في الدول شديدة القمعية أو التي تفرض قيود على الحركة السياسية أو تجمع الأشخاص فإن مثل هذه التكتيكات قد تكون عالية الخطورة. أن الهدف المبدئي لتكتيكات الاحتجاج والإقناع هي إيصال الرسالة بأن هناك شيئا ما خاطئ يحدث وأنه يجب اتخاذ إجراء ضد هذا الأمر وأن هناك مجموعه من الفاعلين سيقومون باتخاذ هذا الإجراء. يمكن أيضا اعتبار هذه التكتيكات كممهد للطريق ومؤشر على فعاليات وتكتيكات أخرى لاحقة ستقوم بها الحملة تكون أكثر تأثيرا وأكثر خطورة.

الثاني: تكتيكات عدم التعاون:

وهي مجموعة من التكتيكات تتكون من عدم تعاون المحتجين أو أعضاء الحملة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مع الخصم مثل النبذ الاجتماعي لأفراد وهيئات معينة، الإضرابات، تأجيل القيام بالأعمال أو قيام الموظفين بعدم إنهاء معاملات العملاء، قيام الأفراد بسحب مدخراتهم ورؤوس أموالهم من البنوك، الجلوس في المنزل وعدم الذهاب للعمل أو الدراسة، إجراءات المقاطعة على مستوى المستهلكين أو العاملين أو التجار.

تكتيكات عدم التعاون تعني بشكل آخر رفض طاعة الأوامر وعدم تقديم الدعم اللازم للخصم بعدم إظهار التعاون معه. بعض هذه التكتيكات يتطلب مشاركة أعداد كبيرة فيها حتى يتسنى لها النجاح، والبعض الآخر مثل مقاطعة المستهلكين أو تأجيل الموظفين، وإنهاء معاملات عملائهم تعطي الفرصة لقطاعات أو فئات مختلفة كالشباب وكبار السن أو الرجال والنساء بالقيام بأفعال قليلة الخطورة لكنها تؤثر في نجاح حركة النضال السلمي.

الثالث: تكتيكات الهجوم والتدخل:

مثل الاعتصامات أو تعطيل حركة المرور أو التسبب في تكدس وازدحام متعمد لأحد المؤسسات أو المواصلات العامة أو الأماكن الخاصة، تشكيل مؤسسات موازية أو بديلة، اقتحام بعض المباني والاعتصام بداخلها، العصيان المدني، تعمد أن يتم اعتقال أفراد من الحملة لأهداف لاحقة قضائية أو دعائية أو تورط النظام بشكل قانوني.

تتميز هذه التكتيكات بنتائجها المباشرة التي تضعف الخصم وتستهلك من مقدراته وقدراته على الاستمرار لكنها أيضا تكتيكات عالية الخطورة وفي حال فشلها فإنها تؤثر بشكل سلبي عميق على حركة النضال السلمي. في بعض الأحيان لا تحتاج هذه التكتيكات إلى أعداد كبيرة للمشاركة فيها وتحقيق نجاحات قوية ضد الخصم. يلزم الإعداد الجيد أولا لأفراد الحملة وزيادة عدد المتعاطفين معها بشكل عام قبل القيام بمثل هذه التكتيكات حتى لا تعطي فرصه للخصم بتصوير أعضاء الحملة إعلاميا بالهمجية ومهاجمتهم معنويا.

على صعيد المشهد الداخلي المصري؛ أثر غياب استراتيجية واضحة وفعالة على طبيعة التكتيكات المستخدمة. حيث انحصرت الفعل السلمي المقاوم على تكتيكات تستهدف إظهار الاحتجاج مثل التظاهرات وإطلاق الصفارات وتوزيع المنشورات والقيام بحملات على مواقع التواصل الاجتماعي. أتت تلك التكتيكات بنتائج عكسية حيث تسببت في اعتقال المئات من المشاركين فيها إضافة إلى عدم تحقيق نتائج إيجابية في المشهد السياسي مما زعزع الثقة في نجاح تكرار مثل تلك الدعوات مستقبلا.

ينبغي على المعارضة المصرية تقييم بيئة الصراع أولا وتحديد إمكانياتها قبل الشروع في اختيار تكتيكات تناسب استراتيجيتها. كما ينبغي التركيز على تنويع التكتيكات في الخارج والداخل وإعطاء الأولوية في الداخل لتكتيكات ذات مخاطر منخفضة وتأثير عالي وهو الأمر الذي يتطلب إيجاد حلول إبداعية ومبتكرة.

رابعاً: الانضباط

ينبغي الحفاظ على الطبيعة اللاعنيفة للمقاومة رغم الاستفزاز وردود الافعال القمعية من قبل النظام وذلك لكون الجوهر الذي تقوم عليه عملية التغيير هو اللاعنف. يهدف الالتزام باللاعنف زيادة نسبة المشاركة المدنية في حركة التغيير ورفع تكلفة قمع الخصم لها. كما يساعدها ذلك أيضا على إقناع أطرف محايدة ومتعاونة مع النظام بجدارة قضية الحركة وأحقيتها كما بينت دراسة شيونيث وستيفن[8].

يتطلب ذلك تدريبا واعيا للأفراد ومحاولة غرس فكرة اللاعنف في نفوس المشاركين. لذلك الأمر أسباب عملية حيث يمكن لأعمال العنف التي يقوم بها أفراد الحركة إلى تقليص مصداقية وسمعة الحركة بصورة دراماتيكية وتعطي الخصم الحجة الكافية لاستخدام المزيد من القمع.

لكن أصبح مصطلح السلمية سيء السمعة في المشهد المصري. أصبح المصطلح يرمز إلى السلبية والضعف حيث يحمل المعارضون لفكرة السلمية ما حدث في مذبحة رابعة إلى مبدأ السلمية الذي اعتمدته جماعة الإخوان المسلمين وكذلك النتائج التي وصل إليها المشهد السياسي بأن السلمية تسببت في اعتقال الآلاف الشباب حتى الآن. إلا أن العلة الحقيقية ليست في استخدام مبادئ السلمية ولكنها ترجع إلى غياب استراتيجيات وتكتيكات العمل كما أوردنا سابقا. ففي حال وجود شرعية إنجاز وتسجيل نقاط ضد النظام كلما رفع ذلك من رصيد المعارضة في الشارع المصري.

خاتمة

يختلف نجاح كل تجربة مقاومة لاعنفية حسب سياقاتها المختلفة إلا أن التجارب الناجحة اتسمت بتوافر ثلاثة محددات رئيسية وهي؛ الوحدة والتخطيط العملياتي والانضباط مما يرجح ثقل الوزن النسبي لتلك المحددات في إنجاح أي مقاومة لا عنيفة. يقصد بالوحدة تكوين جبهة موحدة لقيادة العملية اللاعنفية وإيلاء اهتمام كبير بالتخطيط الاستراتيجي حتى لا تتحول فعاليات الحركة إلى فعاليات لحظية أو موسمية دون أن تخدم خطة أكبر. يلي ذلك عملية التخطيط العملياتي والتي تشير إلى طبيعة الفعاليات التي ستقام على الأرض والخطوات الفعلية التي تخدم وتحقق الأهداف الاستراتيجية للحملة. أما عن الانضباط فهو المحدد الذي يجعل الحركة قادرة على السير في طريقها الواضح لتحقيق أهدافها حيث يجب على الحركة الانتباه لعدم انحراف أتباعهم للعنف على الرغم من الاستفزازات والقمع الذي سيتعرضون له وبذلك تحافظ الحركة على مصداقيتها وقدرتها على جذب أتباع جدد.

في السياق المصري يقع على عاتق مناهضي الانقلاب العسكري في مصر معالجة التصورات السلبية التي شكلها الشارع المصري عنهم خلال السنوات الست الماضية. نتج عنها غياب الرؤية الواضحة وفقدان ملكة التخطيط الاستراتيجي، مما ترتب عليه أخطاء أثرت سلبا على ثقة الشارع المصري في قيادات المعارضة مما يرجح عدم نجاح أي محاولات مستقبلية في حال عدم علاج تلك الأسباب أولا. لا ينبغي توجيه طاقة المعارضة المصرية الأن نحو إطلاق المزيد من المبادرات أو الإعلان عن مواثيق جديدة وإنما ينبغي صرف الوقت والمجهود نحو اكتساب شرعية الإنجاز.

التوصيات:

توصي الورقة بما يلي:

  • ينبغي على قيادات المعارضة صرف الوقت والمجهود في استعادة ثقة متابعيهم عن طريق تحقيق نجاحات صغيرة متراكمة واكتساب شرعية إنجاز.
  • ينبغي إيلاء الاهتمام بملف التخطيط الاستراتيجي أكثر من محاولة إنشاء مبادرات وإعلان المواثيق وذلك بهدف استغلال الفرص المهدرة وخلق فرص أخرى تسمح للمعارضة باكتساب نقاط إيجابية على حساب النظام.
  • ينبغي الاهتمام بملف حراك المعارضة بالخارج والتركيز على تقوية شبكات العلاقات العامة للمعارضة مع فاعلين ولاعبين دوليين وليس على الصعيد الإعلامي فقط بما يخدم المصالح الاستراتيجية للمعارضة.

الهامش

[1] مصطفى النمر “دليل قيادة النضال المجتمعي للتغيير” المعهد المصري للدراسات، نوفمبر 2017. رابط

[2] ھاردي مریمان “ثلاثية المقاومة المدنية: الوحدة والتخطيط والانضباط”، ICNC، يناير 2017. رابط

[3] Erica Chenoweth & Maria J. Stephan “Why civil resistance works”, Columbia University press, 2011.

[4] تم مناقشة تلك الأدوات بالتفصيل في “دليل قيادة النضال المجتمعي للتغيير”، رابط.

[5] مصدر سابق “Why civil resistance works”

[6] هاردي مريمان، مصدر سابق.

[7] الرابط

[8] مرجع سابق

 

رابط المصدر:

https://eipss-eg.org/%d9%85%d8%ad%d8%af%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d9%86%d8%ac%d8%a7%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%af%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b5%d8%b1/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M