خلال رحلته الأخيرة إلى روسيا الاتحادية، زار زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، في 13 سبتمبر 2023، قاعدة فوستوشني الفضائية في مدينة أوغليغورسك، بمقاطعة آمور، أقصى الشرق الروسي، وأجرى هناك محادثات مع الرئيس فلاديمير بوتين. وأثارت زيارة كيم لأهم مركز إطلاق فضائي روسي، وكذلك مواقع عسكرية متطورة، تكهُّنات بأن بيونغيانغ تستعد لتزويد روسيا بأسلحة وذخيرة سوفيتية الصنع (خصوصاً المدفعية) لتعويض العجز الناجم عن اشتداد المعارك في أوكرانيا، مقابل وصول كوريا الشمالية للتكنولوجيا النووية الفائقة الروسية إلى جانب مساعدات اقتصادية وواردات غذائية.
تبدو توقعات كيم من القيادة الروسية، التي أكدتها مخاوف الإدارة الأمريكية، مُتَّسقة مع طموحه العسكري. فخلال المؤتمر الثامن لحزب العمال الكوري، المنعقد في يناير 2021، كلَّف كيم مساعديه بتحقيق تسعة أهداف، يواجه الوصول لاثنين منها (الأقمار الصناعية المخصصة للتجسس والاستطلاع، والغواصات النووية) تحديات كبيرة. ويؤكد تكوين الوفد المرافق له في الزيارة أيضاً طبيعة الأهداف. وأثارت الزيارة، وقربها من زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي ولقائه بوتين، في 20 سبتمبر، تساؤلات حول صعود محور ثلاثي يضم البلدان الثلاثة لإحباط التحالف الصاعد الذي يضم الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية.
الفرص من زاوية نظر الصين
كان مثيراً للاهتمام تجنُّب المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية التعليق، بالسلب أو الإيجاب، على القمة الروسية-الكورية الشمالية، والاكتفاء بالقول إن القمة “بين الدولتين”، أي أنَّها ليست من شأن الصين. ويبدو أن بيجين ترغب في الحفاظ على مسافة من التقارب بين بيونغيانغ وموسكو.
وسواء صحت المخاوف الغربية أو شابتها المبالغة، فإن تداعيات هذه الزيارة عميقة وستنتج ترتيبات ثنائية ذات طابع استراتيجي وطويل المدى. ولا يمكن لأي تحليل جاد إغفال أن الصين رقم صعب في حسابات الدولتين، أو الإفتراض أنهما راغبتين/قادرتين على صياغة ترتيبات عميقة ومهمة دون وضع مصالحها في الاعتبار.
وتستند حسابات بيجين على مقاربة الولايات المتحدة وحلفائها، والربح والخسارة من موازنة التحالف الآخذ في التطور بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية لاحتواء صعود بيجين. وفي هذا السياق، قد يقدِّم التقارب المتسارع بين كوريا الشمالية وروسيا فرصاً للصين دون تكبُّد كلفة مرتفعة إذا ما تمكنت من الحفاظ على مسافة من القوتين. تتمثل هذه الفرص في الآتي:
- رفع كلفة سياسات الاحتواء الأمريكية في شرق آسيا عبر تنشيط المعضلة الكورية الشمالية، وتعزيز قوة النظام في بيونغيانغ وثباته. وإذا كانت الصين تواجه عقبات للقيام بذلك، متمثلة في العقوبات وتراجع منسوب الثقة مع الولايات المتحدة، فإن روسيا لديها المساحة الاستراتيجية الكافية للمناورة وتبادل المنفعة مع كوريا الشمالية.
- تقوية أوراق التفاوض الصينية إزاء الولايات المتحدة، وزيادة الحاجة الغربية لبيجين في سياق كبح جماح طموح كيم النووي.
- تعزيز القدرات الصاروخية لكوريا الشمالية يوفر فرصة بالنسبة للصين لاختبار قدرات وفاعلية منظومات الصواريخ الأمريكية (ثاد) المتمركزة في كوريا الجنوبية، ومدى التقدم في التعاون التكنولوجي والصاروخي بين الجانبين.
- منح أوراق ضغط لكوريا الشمالية قد تُجبر واشنطن، في المستقبل، على تقديم تنازلات، من بينها رفع جزئي للعقوبات المفروضة على بيونغيانغ. لكن التنازلات الأهم بالنسبة للصين ستتمثل في وقف المناورات العسكرية المكثفة مع كوريا الجنوبية في بحر الصين الشرقي، واشتراط تعاون الصين في الملف النووي الكوري بتعاون واشنطن في ملفات حساسة لبيجين، مثل القيود على الرقائق.
- في المقابل، ستضطلع كوريا الشمالية بمهمة مدّ روسيا بالذخائر التي تواجه شحاً لتجنُّب عدم تعرض الجيش الروسي لهزيمة حاسمة في الميدان، ومن ثم تجنُّب حصول اهتزازات عنيفة للنظام في موسكو. وتتسق هذه الأهداف مع الرؤية الصينية أيضاً، وترفع عن كاهل بيجين عبء دعم روسيا بشكل مباشر.
وعلى رغم كل هذه المكاسب، التي يحمل بعضها قيمة استراتيجية، فإن التحديات قد تلحق أضراراً بالغة بالمصالح الصينية في المقابل.
تحديات “التحالف” الروسي مع كوريا الشمالية
لا تنظر القيادة الصينية لزيارة الزعيم الكوري الشمالي إلى روسيا في منتصف سبتمبر الماضي، والتي استغرقت ستة أيام، بعين الرضا بشكل كامل. فهذه أطول زيارة خارجية لكيم منذ توليه منصبه. والذهاب إلى روسيا، وليس إلى الصين، في أول زيارة له خارج كوريا الشمالية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تحمل دلالات عميقة بالنسبة لبيجين.
فوق ذلك، يبدو أن المخططين في وزارة الخارجية الصينية حرصوا على تنظيم زيارة وانغ لروسيا بعد انتهاء زيارة كيم، في تأكيد على الرغبة الصينية في عدم المشاركة في دعم سردية “المحور الثلاثي” التوسعي (طموح كوريا الشمالية في شبه الجزيرة الكورية، ومساعي الصين لضم تايوان، وحرب روسيا على أوكرانيا) التي تبدو في مصلحة الزعيمين الكوري الشمالي والروسي أكثر من الجانب الصيني.
يأتي الحرص الصيني في سياق تجنُّب أو تقليل الكلفة التي قد تنتج عن الظهور كراعي لمثل هذا المحور. ولهذه المقاربة أسباب موضوعية:
أولاً، لا يعكس الصعود السريع في الروابط بين الدول الثلاث مستوى الثقة الحقيقي الذي يجمعها. فالصين وروسيا دعمتا نظام العقوبات الأممية على كوريا الشمالية، ما أدى إلى تراجُع العلاقات بين بيجين وبيونغيانغ حتى عام 2018. وتاريخياً، حرص الزعيمان الكوريان، الجد والأب، على موازنة علاقات بلادهم بالاتحاد السوفييتي (وروسيا لاحقاً) والصين لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة. ويبدو أن كيم مهتم بالاستفادة من التغيرات الجيوسياسية الحالية التي تسمح بعودة توازنات الحرب الباردة في نظر بيونغيانغ. وتخشى الصين أيضاً من إنتاج الشراكة مستوى من الثقة يسمح لكوريا الشمالية وروسيا بالتصعيد لمستويات أبعد تجاه كوريا الجنوبية وأوكرانيا.
ثانياً، قلق الصين الخاص، والدائم، تجاه تزويد روسيا كوريا الشمالية بالتكنولوجيا النووية المتقدمة. يندرج ذلك ضمن الخطة الخمسية الكورية للتحديث العسكري. تشمل قائمة مستهدفات كيم من روسيا أقمار الاستطلاع العسكرية، وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية المتقدمة، والرؤوس الحربية الاستراتيجية والتكتيكية الأكثر تقدماً، والغواصات النووية، وأنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات والكمبيوتر والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (C4ISR). وإذا زوَّدت روسيا كوريا الشمالية بهذه الإمكانات فقد تكون كافية لتطوير برنامجها النووي بمعدلات تتخطى المقبول من الناحيتين الأمنية والاستراتيجية لواشنطن وسيول، وهو ما قد يزيد من الوجود العسكري الأمريكي في شبه الجزيرة الكورية، ويدفع باتجاه زعزعة الاستقرار الإقليمي الهش على الحدود الصينية، أو اندلاع صراع كامل مع كوريا الجنوبية وتدخل الولايات المتحدة عسكرياً. وعبَّر الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول عن هذه المخاوف في شكل مباشر بالقول إن تزويد روسيا كوريا الشمالية بهذه الإمكانات النووية سيكون “استفزازاً مباشراً لا يهدد السلام والأمن في أوكرانيا فحسب، بل أيضاً في جمهورية كوريا”.
ثالثاً، التقارب الروسي-الكوري الشمالي قد يُعمِّق من التحالف الثلاثي الناشئ بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية. فالهدف الاستراتيجي المشترك من التحالف هو إعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية في شرق آسيا لتقويض طموح الصين وكبح جماح كوريا الشمالية. وتنظر الصين لهذا التحالف باعتباره الأولوية القصوى حالياً (إلى جانب كواد وأوكوس) التي تسعى لاحتوائه ومنعه من التطور لمهدد مباشر لأمنها. وعكس دعم الصين لعقد قمة ثلاثية مع اليابان وكوريا الجنوبية قلق القيادة الصينية البالغ من تداعيات هذا التحالف.
رابعاً، التناغُم مع اتجاه تشكيل “محور ثلاثي” مع موسكو وبيونغيانغ يحمل مخاطر فقدان الصين للمصداقية بصفتها قوة عظمى مسؤولة، وعزل مساعيها للقيام بأدوار مركزية في الصراعات الدولية، وأهمها خطتها للحل الدبلوماسي في أوكرانيا، فضلاً عن زيادة الضغوط على دورها كلاعب مركزي في قضية نزع السلاح النووي الكوري الشمالي.
اقرأ أيضاً: |
السيناريوهات المحتملة
بناءً على ما سبق، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات لإمكانية تشكُّل محور تحالف ثلاثي يضم الصين وروسيا وكوريا الشمالية في المدى القريب:
السيناريو الأول: إقامة محور ثلاثي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية. يفترض هذا السيناريو دخول الدول الثلاث في تحالف رسمي له هدف معلن هو تقويض التحالف الأمريكي المعلن مؤخراً مع اليابان وكوريا الجنوبية. يشمل التحالف صفقات أسلحة متقدمة وتبادل تكنولوجي، بما في ذلك التكنولوجيا النووية.
ستكون لهذا السيناريو تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار في شرق آسيا، في صورة تصعيد في العلاقات الثنائية الصينية-الأمريكية، والعلاقات الصينية مع كلٍّ من طوكيو وسيول، وتقارب غير مسبوق بين واشنطن والدولتين. قد يجد المسؤولون الأمريكيون ذريعة إضافية لزيادة التموضع العسكري بشكل مفاجئ وكبير، وهو ما سيُنظر له في الصين وكوريا الشمالية بوصفه تهديداً مباشراً قد يُنتِج تصعيداً مفاجئاً في خليج تايوان، وزيادة في عدد التجارب النووية والصاروخية في كوريا الشمالية. وستحاول الولايات المتحدة أيضاً منْح حلف الناتو دوراً مباشراً في المسرح الشرق آسيوي، وهو إن حصل سينتج عنه تغيرات على المديين القريب والمتوسط في الاستراتيجيات الدفاعية لباقي الحلفاء الغربيين. في هذا السيناريو ستظهر فرصة لإيران وسوريا وبيلاروسيا وفنزويلا لكسر العزلة الدولية، لكن دون الانضمام بشكل رسمي تحسباً للعقوبات الغربية، ودون الحصول على تكنولوجيا عسكرية متقدمة.
غير أن هذا السيناريو يظل مستبعداً في المدى القريب، ويواجه تحديات أهمها ارتفاع كلفة الانضمام له من وجهة نظر الصين، وتحسُّب روسيا إزاء نقل تكنولوجيا نووية متقدمة لبيونغيانغ. يرجع ذلك لعدم رغبة بيجين في تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا إلى مستويات أدنى. ولا ترغب الصين أيضاً في تعميق ديناميات “المعضلة الأمنية” التي تتشكل في شرق آسيا عبر استعداء اليابان وكوريا الجنوبية، وخسارة هاتين القوتين الكبريين بشكل كامل لصالح واشنطن. ولا ترغب الصين كذلك في دفع شبه الجزيرة الكورية لحافة الاشتعال والتعامل مع التبعات المباشرة لذلك على أمنها.
والصين وروسيا ليستا وحدهما في التحسب لهذا السيناريو. فقد أرسل كلٌّ من اليابان وكوريا الجنوبية إشارات تهدئة للصين خلال اجتماع نواب وزراء الخارجية، في 26 سبتمبر، الذي انعقد للتحضير لقمة بين الزعماء الثلاثة. يعني ذلك أن الدولتين (بالتوافق مع الولايات المتحدة) رغبتا في استباق الاستنتاجات غير الدقيقة في بيجين حول تحالفهما مع واشنطن ونزع فتيل أي توتر في ضوء القلق في المنطقة حول تبعات هذا التصعيد المتسارع على الاستقرار في خليج تايوان أيضاً.
لكن، في النهاية، سيتوقف تحقُّق هذا السيناريو من عدمه على حسابات الكلفة في بيجين. فإذا ارتأت القيادة الصينية أن المكاسب التي قد تحصل عليها من الانضمام لمثل هذا المحور (بعض المكاسب المحتملة سيبقى في نطاق السرية) فقد يتغير الاتجاه الاستراتيجي وتقرر الصين الانضمام في المستقبل.
السيناريو الثاني: معارضة الصين لتشكُّل المحور. يُفترض في هذه الحالة عدم تشكُّل محور ثلاثي استناداً إلى التحديات المذكورة في السيناريو الأول، واقتصار التقارب بين روسيا وكوريا الشمالية على جوانب التعاون الثنائي منخفضة المخاطر. ويفترض هذا السيناريو تزويد كوريا الشمالية لروسيا بذخائر المدفعية وأسلحة أخرى، مع اقتصار إمدادات روسيا لكوريا الشمالية على مصادر الطاقة والمساعدات الاقتصادية والغذائية فقط.
ويبدو هذا السيناريو واقعياً إلى حدٍّ ما، استناداً إلى عدم التماثل الذي يحكم التكهنات حول إمدادات كوريا الشمالية لروسيا بالذخيرة ذات الطبيعة قصيرة الأمد، وطبيعة التكنولوجيا النووية والفائقة طويلة الأمد التي تسعى بيونغيانغ للحصول عليها. هذه المقايضة تبدو ظاهرياً غير منطقية وخاسرة في الحسابات الروسية.
وبالنسبة للصين، ستتمثل التحديات في تبعات سياسة الموازنة التي تتبناها كوريا الشمالية للعلاقات بين القوتين، ومن بين تلك التبعات: اكتساب موسكو درجة عالية من النفوذ على كوريا الشمالية، ونجاح بيونغيانغ في انتزاع بعض التنازلات من بيجين. لكن في المجمل، لا يتوقع أن تشمل هذه التنازلات ملفات استراتيجية، من قبيل التغيير الجذري في موقف الصين من الأزمة الكورية أو حصول خرق حاسم وكبير للعقوبات الأممية. وسيظل المستوى الساحق من النفوذ على كوريا الشمالية بيد الصين. وإذن، يمكن اعتبار التحديات في السيناريو الأول دوافع تحقق السيناريو الثاني.
السيناريو الثالث: تشكُّل محور من كوريا الشمالية وروسيا وإيران وبيلاروسيا، مع عدم انضمام الصين إليه رسمياً. في هذا السيناريو قد تتحقق دعوتا الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بتشكيل محور يضم بلاده مع روسيا وكوريا الشمالية، ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بإجراء مناورات عسكرية بين روسيا وكوريا الشمالية معادية للغرب. ويفترض السيناريو انضمام إيران، حتى لو بشكل غير معلن رسمياً بسبب الظروف الشرطية المتصلة برغبة القيادة الإيرانية في التهدئة مع دول الخليج والولايات المتحدة في هذه المرحلة على وقع الوضع الاقتصادي الصعب، وربما العودة للمفاوضات النووية أيضاً. وستكون العقيدة الحاكمة في هذا المحور محاولة تقويض منظومة وفاعلية العقوبات الغربية.
ومع أن اتساع نطاق عضوية هذا المحور المفترض ليضم دولاً صديقة لبيجين، خصوصاً إيران، قد يزيد من نفوذ بيجين على المحور ويحد من تبعاته غير المستحبة، إلا أن خضوع جميع هذه الدول لدرجة عالية من العقوبات الغربية، يجعله محوراً غير فعال. وتشكُّل المحور دون الصين سيُشجِّع الولايات المتحدة على فرض المزيد من العقوبات على الدول المزودة لروسيا وكوريا الشمالية بالأسلحة، وفي مقدمتها إيران. وسيُرسِل امتناع بيجين عن الانضمام رسائل لواشنطن وطوكيو وسيول بعدم رغبتها في تصعيد الموقف في شرق آسيا واستعدادها للعمل الدبلوماسي. قد تُنتج هذه التفاعلات إجراءات صينية غير مباشرة للضغط على كوريا الشمالية إذا ما شعرت بالثقة الزائدة جراء صعود هذا المحور (على سبيل المثال، خطوة كيم الرمزية في 28 سبتمبر بإعلان تكريس وضع الدولة دستورياً قوة نووية)، وهو دور تشجع الولايات المتحدة الصين على القيام به.
.
رابط المصدر: