بدأت اليابان يوم 24 أغسطس تصريف مياه تبريد مفاعل فوكوشيما الذي تضرر جراء تسونامي عام 2011 ونتج عنه تسريب في المفاعل، ومن المفترض أن تتم عملية التصريف على مدار ثلاثين عامًا بمقدار 1.34 مليون طن من المياه المعالجة سنويًا، وقد دار خلاف حول تلك المياه بين اليابان والصين التي وجهت العديد من الاعتراضات، في حين تؤكد طوكيو على أن المياه آمنة. إذ أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرًا في يوليو الماضي يفيد بأن المشروع الذي تقدمت به يفي بمعايير السلامة الدولية، وسيكون له تأثير إشعاعي ضئيل على البيئة والسكان. وأضاف تقرير الوكالة أن تركيز مادة التريتيوم في المياه التي ستتخلص منها اليابان أقل من المستويات المتوقعة، كما أنها لا تشكل أي خطر.
عقوبات صينية
أبدت الصين اعتراضها على ما أقدمت عليه اليابان، واعتبرته تصرفًا أنانيًا يضر بالمحيط الذي من المفترض أنه ملكية للبشر جميعًا، فقد رأت بعض التحليلات أن المياه المصرّفة لامست قلب المفاعل لتبريده، وهو ما يجعلها جزءًا من عملية مشعة ويمكنها التفاعل مع مكونات ناتجة عن انصهار القلب. لذا ستكون عملية تصريفها محفوفة بالمخاطر. وحتى رغم إعطاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية الضوء الأخضر لتصريف تلك المياه، فإن أبحاث التأكد من سلامة مياه لامست قلب المفاعل تكاد تكون مستحيلة.
واستكمالًا لهذا الموقف الحاد، كأكبر مشترٍ للمأكولات البحرية من اليابان بحوالي 1.1 مليار دولار سنويًا؛ فرضت بكين مجموعة إجراءات على طوكيو تقضي بحظر استيراد المنتجات البحرية، وإجراء اختبارات إشعاعية على المواد الغذائية اليابانية. واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانغ ون بين” أن القرار يتوافق مع القوانين واللوائح ذات الصلة من اتفاقية منظمة التجارة العالمية.
وقد تم إطلاق حملات على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية ضد اليابان وتأثير ما تقوم به على سلامة الغذاء، إلى الحد الذي جعل هناك شراهة في شراء ملح الطعام من الأسواق وبعض منتجات التجميل اليابانية بزعم أنها تستخدم مياه البحر في صناعتها. في المقابل، جاءت حملات من الجانب الياباني أيضًا لإثبات سلامة منتجاتها البحرية، وتأكيد ذلك من خلال نشر مقاطع مصورة لرئيس الوزراء الياباني وبعض المسئولين وهم يتناولون الأسماك لطمأنة الجماهير، بجانب إقرار حزمة إنقاذ لمساعدة صناعة الأسماك في اليابان وزيادة الاستهلاك المحلي وإيجاد أسواق خارجية جديدة.
اتهامات متبادلة
في الوقت الذي توجه فيه الصين الاتهامات لليابان بأن المياه التي يتم تصريفها تحتوي على مادة التريتيوم المشعة، ظهرت تقارير تفيد بأن الصين تصرف عبر بعض مصانعها مياهًا تحتوي على تلك المادة. كما أن مياه الصرف الصحي الناتجة عن محطات الطاقة النووية في الصين تحتوي على مستويات أعلى من التريتيوم الموجود في تصريف مياه فوكوشيما، ويصل عدد تلك المحطات إلى 13 محطة، فقد أظهرت بيانات قطاع الطاقة النووية الصيني أن محطة تشينشان في غرب الصين أطلقت 218 تريليون بيكريل من التريتيوم في عام 2021، في حين أن الكمية التي من المفترض أن تطلقها فوكوشيما سنويًا ستكون 22 تريليون بيكريل. لكن أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانغ ون بين” أن هناك فارقًا بين المياه التي لامست قلب المفاعل وبين المياه المستخدمة في التشغيل الطبيعي للمحطات النووية.
لم يتركز نطاق الانتقادات الموجهة لليابان من خارجها فقط، فقد ذكر مركز المعلومات النووية في اليابان أنه من غير المعروف الآثار طويلة المدى لضخ التريتيوم في البحر، معتبرًا ذلك بمثابة فشل لكل من الحكومة اليابانية والوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما أشارت منظمة السلام الأخضر في اليابان إلى أنه لم يتم تقييم المخاطر الإشعاعية الناتجة عن فوكوشيما بشكل كامل، إذ تم تجاهل الآثار البيولوجية للتريتيوم الذي تراه منظمة الصحة العالمية موجودًا بنسب مقبولة وصالحة لإدخالها في مياه الشرب، بجانب نسب للكربون 14 واليود 129 والسترونتيوم 90 التي تعتبرها شركة تيبكو المسئولة عن تصريف مياه المفاعل أنها أقل بكثير من المعيار التنظيمي للتصريف. وأضاف بيان منظمة السلام الأخضر أن تصريح الحكومة بعدم وجود بديل لقرار تفريغ المياه في المحيط يعني الفشل في خطة وقف تشغيل المحطات التي تم تدميرها في عام 2011، مما يعني انتظار المزيد من المياه الملوثة دون حل.
وقد تعرّضت بعض المؤسسات اليابانية، ومنها المدارس والسفارة اليابانية في بكين، لهجمات من الرأي العام الصيني، مما دفع وزارة الخارجية اليابانية لأن تستدعي السفير الصيني بسبب المكالمات المسيئة التي تعرضت لها تلك المؤسسات. وفي إطار طلب اليابان من الصين ضمان سلامة مواطنيها، أصدرت الخارجية اليابانية تحذيرًا لمواطنيها بتجنب التحدث باللغة اليابانية بصوت مرتفع في الأماكن العامة الصينية، لكن جاء الرد الصيني بأن “الصين تحمي دائمًا سلامة وحقوق والمصالح المشروعة للأجانب في الصين، مع الأخذ في الاعتبار مخاوف الجانب الياباني”.
المؤسسات الدولية في الأزمة
كشف تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية النقاب عن الدور الذي قد تقوم به بعض التقارير الدولية في الأزمات بين الدول، مما يدفع جانبًا للخروج بتقارير مناوئة، والبحث عن سبل أخرى للدعم، فقد ظهر بعضها كالآتي:
- تشكيك صيني في تقرير وكالة الطاقة: أظهرت بعض التقارير أنه لم يتم إجراء الاختبارات الكافية على المياه، وأنها لا تزال تحتوي على بعض المواد المشعة التي تسبب الأضرار فيما بعد، خاصة أن اليابان لم تعلن رسميًا عن كافة الأنواع المشعة التي كانت موجودة بالمياه. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوكالة سبق أن فشلت في التحقيق في تشغيل جبال الألب، وتجاهلت الوقود الإشعاعي الذي انصهر ويستمر في تلويث المياه الجوفية التي تصل إلى ألف متر مكعب كل عشرة أيام. كذلك، فشلت خطة التصريف في إجراء تقييم شامل للأثر البيئي.
- تصعيد ياباني في المجموعات الدولية: فقد أشار وزير الأمن الاقتصادي الياباني إلى عزمه تقديم شكوى لمنظمة التجارة الدولية ضد الصين في حالة لم تستجب الأخيرة للطرق الدبلوماسية للتراجع عن قرار حظر المنتجات البحرية. كما أبدى رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا” عزمه مناقشة سياسات الإغراق خلال الاجتماعات الدولية القادمة لرابطة الآسيان ومجموعة العشرين، وهو ما يمكن أن يؤثر سلبًا على الموقف الصيني في حالة خضوع دول تلك المجموعات للمطالبات اليابانية لأنهم لن يكونوا أول المتضررين مما تقوم به اليابان، خاصةً أنها كسبت تعاطفًا دوليًا منذ أزمة فوكوشيما حتى الوصول إلى مرحلة الرغبة في إلقاء مياه المفاعل في المحيط.
إجمالًا لما سبق، يمكن رؤية ما دار بين الصين واليابان بشكل أوسع من مجرد وجود مخاوف حقيقية، إذ يتم توظيفه سياسيًا في ظل الاتهامات التي يتم توجيهها للصين كالملوث الأكبر عالميًا وتقديم الصين نفسها كقوة محافظة على الأمن البيئي العالمي، وكذلك في إطار المنافسات بين القوى الكبرى والحرب الباردة الجديدة والتقارب الياباني من الولايات المتحدة في قضية تايوان، بجانب الخلاف التاريخي بين البلدين بشأن بعض الجزر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
من جانب آخر، فإن مساعي اليابان للحصول على الدعم من المجموعات الدولية يُثير مزيدًا من الشكوك ويؤكد التقارير التي تشير إلى وجود بعض الغموض حول التقرير الذي وافقت عليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية رغم أنها غير معنية بحماية البيئة البحرية العالمية، إلا أنه من غير المرجح أن تتخذ اليابان موقفًا استفزازيًا للصين إدراكًا منها لضرورة الحفاظ على علاقات مستقرة معها، وهو ما جعل بعض التقارير تشير لرغبة رئيس الوزراء “كيشيدا” في توجه “توشيهيرو نيكاي” أحد أكثر الشخصيات المؤيدة للصين في الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم في زيارة لبكين لحل الأزمة.
.
رابط المصدر: