مدن الملح في زمن النفط وكورونا

سالم الكثيري

فجأة ودون مُقدمات أطل علينا سيئ الذكر كورونا من نوافذنا الزجاجية المحكمة الإغلاق، ليحول ناطحات السحاب والقصور الفارهة والبيوت الجميلة إلى سجون كبيرة، وقد أدت حالة الاستنفار القصوى وإغلاق الحدود فيما بين الدول واتخاذ القرارات بتعليق الدراسة والعمل في مختلف القطاعات إلى إصابة العالم أجمع بشلل شبه تام.

كُنَّا نائمين في عالم مليء بالسكينة والهدوء وأفقنا على عالم آخر مليء بالذعر والخوف حتى بالاقتراب من أقرب الناس إلينا وأكثرهم منفعة لنا.

بعبارة أخرى باتت مدننا الصاخبة بالناس وحركتهم الدؤوبة شبه خاوية على عروشها وأقرب إلى مدن الأشباح منها إلى مدن البشر في صباح كورونا البغيض.

وقد تزامن مع تفشي هذا الوباء الهبوط الحاد لأسعار النفط، الأمر الذي أدى بالكثير من الشركات إلى تسريح عمالها بل وتعليق العمل في مصانعها أحيانا أخرى، كما لا يخفى على كل مُتابع أزمات الرهن العقاري التي تحدث باستمرار عالميًا ويصل صداها إلى ضفاف الخليج لتصبح الأبراج العالية والعمارات الشاهقة والمصانع والأسواق الكبيرة مهجورة بلا ساكن أو عامل أو متسوق بين ليلة وضحاها.

يقودنا هذا الحديث إلى التساؤل، هل مدننا محصنة بما فيه الكفاية للصمود طويلاً في وجه مثل هذه الأزمات، بمعنى آخر هل هي مدن حية، منتجة، مُتماسكة ومتفاعلة مع ذاتها في مختلف مجالات الحياة في حال إنغلاق الدول على نفسها جراء نشوب حرب أو حصار اقتصادي مثلما يحدث دائماً أو بسبب جائحة وباء أو انخفاض أسعار النفط مثلما هو حاصل هذه الأيام؟ أم أنها لا تعدو كونها خرسانات إسمنتية ضخمة بلا روح ستخر هامدة على وجهها عند أول صدمة.

بصيغة أدبية، هل ما نراه أمام أعيننا هي مدن الملح التي تحدث عنها عبد الرحمن منيف في خماسيته الروائية الشهيرة منتقداً نمط نمو المدن الخليجية التي ظهرت بشكل فجائي مع استخراج النفط وتصديره فأنتجت غنى فاحشا لا يقوم على منطق التدرج ولم تصل إلى ما هي عليه من تطور وعمران كنتيجة حضارية تراكمية مع مرور الزمن ولذلك فهي قابلة للذوبان عند أي امتحان حقيقي.

للإجابة على التساؤلات السابقة ووفقاً لما ذكره الدكتور عمر الشهابي في كتابه المثير والممتع “تصدير الثروة واغتراب الإنسان، خلل الإنتاج في دول الخليج العربية” فإنَّ مدن الملح هذه ما تفتأ تظهر في دول الخليج مع كل أزمة اقتصادية أو مالية جديدة بسبب اعتمادها الكلي في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والتنقل والسفر على النفط. ولا يتفاءل الشهابي كثيرا بمستقبل الخليج إذا استمر تحت تخدير النفط حيث يؤكد أنَّ بوادر زوال “دولة الرفاه” التي كانت السمة الغالبة لدول الخليج خلال العقود الماضية أخذت تتضح بصورة جلية مع الأزمات المتلاحقة مؤخرًا ومن الأمثلة على بداية أفول “نجم دولة الرفاه” رفع أسعار الوقود والخدمات كالماء والكهرباء وغيرها وفرض ضرائب القيمة المضافة التي بدأت بعض الدول في تطبيقها ومشكلة الباحثين عن عمل التي باتت تتفاقم وتطفو على السطح مؤخرا وخفض الموازنات العامة وغيرها من الإجراءات التقشفية المتواترة تباعًا.

ولذا إذا بتنا مكتوفي الأيدي معتمدين كدول ومجتمعات خليجية على النفط كمصدر وحيد للدخل والطاقة في آن واحد دون أن نستفيد منه في تحقيق تنويع حقيقي لمصادر الدخل -وهي الدعوة الملازمة لكل الخُطط السنوية والخمسية والرؤى الإستراتيجية الاقتصادية لدول الخليج منذ بداية نشأتها الحديثة إلى اليوم -وإنشاء صناعات تمكننا من استثمار المقومات التي نمتلكها كالطاقة الشمسية وغيرها من المعادن والثروات الطبيعية والاستثمار في الموارد البشرية والابتكار والمعرفة بهدف خلق مجتمع متعلم، واع، مسؤول ومنتج يخبز خبزه بيده ويزرع أرضه ويرويها بعرق جبينه ويشغل مصانعه بمهاراته الوطنية دون الاعتماد على القوى العاملة الوافدة وإلا فإنَّ مدننا لن تصمد كثيرا في وجه الصدمة تلو الأخرى وستكون عرضة للذوبان مختفية مع أي هزة عابرة أو موجة هائجة وذلك لأنَّ إنسانها لم يعد كامل الأهلية في توفير غذائه وباقي احتياجاته بسبب ما وصل إليه من رفاهية وتخمة مفرطة لا تكاد توجد حتى في أي مجتمع آخر من المجتمعات الغنية.

رابط المصدر:

https://gulfpolicies.org/2019-05-18-07-26-26/95-2019-06-27-10-00-21/2379-2020-04-15-11-32-14.html

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M