مشهد استراتيجي عالمي جديد: ارتدادات الحرب الروسية-الأوكرانية على منطقة الإندو-باسيفيك

محمد فايز فرحات

 

ظل التحول الاستراتيجي الأهم على المستوى الدولي قبل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية يتمثَّل في اتجاه الولايات المتحدة إلى التركيز على منطقة المحيطين الهادي والهندي (الإندو-باسيفيك)، وغالباً ما قُرئ معظم السياسات والسلوكيات الأمريكية في أقاليم عدة على أنها مؤشرات على الاستعداد الأمريكي للتفرُّغ لهذا المسرح الدولي الجديد؛ ويندرج ضمن ذلك -على سبيل المثال- الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في عام 2021، واستئناف محادثات فيينا مع إيران في أبريل 2021، بهدف العودة إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة” (الاتفاق النووي) الموقع في عام 2015 والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في مايو 2018. فقد ذهب العديد من التحليلات إلى أن الأهداف النهائية لهذه السياسات الأمريكية، وغيرها، هو التفرُّغ لمواجهة الصين.

 

وما عزَّز هذا التوجه الأمريكي، قيام إدارة بايدن في مارس 2021 بترقية “الحوار الأمني الرباعي” (كواد) The Quadrilateral Security Dialogue (QUAD) -الذي يضمّ الولايات المتحدة، والهند، واليابان، وأستراليا، وسبق تدشينه في عهد إدارة ترامب في 2017- إلى مستوى القمة، ثم تأسيس تحالف “أوكوس” AUKUS في سبتمبر 2021، بعضوية كلٍّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، والذي دُشِّنَ بالاتفاق على تسليح أستراليا بغواصات تعمل بالوقود النووي.

 

ولم تخلُ العلاقات الأمريكية-الروسية من توتر قبل بدء الحرب في أوكرانيا، على نحو ما عكسته وثائق “استراتيجية الأمن القومي الأمريكي”، و”استراتيجية الدفاع الوطني”، التي وصفت روسيا (والصين أيضاً) بأنهما منافسين استراتيجيين للولايات المتحدة، ويتصدران “القوى المُراجعة/التعديلية” Revisionist Powers التي تسعى إلى تقويض النظام العالمي من الداخل، وإعادة هيكلته بشكل يتناسب مع نموذجهما “السلطوي”، حسبما جاء في وثيقة استراتيجية الدفاع الوطني الصادرة في مطلع 2018.[1] لكن احتفظت الصين ومنطقة الإندو-باسيفيك بالاهتمام الأمريكي الأكبر قبل وقوع الحرب.

 

ومع أن الحرب استحوذت على اهتمام ملحوظ من جانب الولايات المتحدة وحلف الناتو، لكن المفارقة المهمة أن هذا الاهتمام لم يستتبعه تراجع الانشغال الأمريكي بمنطقة الإندو-باسيفيك، والمسألة الصينية باعتبارها القضية المركزية في هذا المسرح الدولي الجديد. فعلى العكس، تزايد الاهتمام الأمريكي بالإندو-باسيفيك على نحو فتح المجال أمام طرح العديد من الفرضيات حول مستقبل الالتزامات الأمريكية تجاه أقاليم أخرى، بما فيها أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط.

 

ويمكن في هذا السياق مناقشة خمسة مستويات لارتدادات الحرب الروسية-الأوكرانية على الإندو-باسيفيك. أولها، مستوى التماسك الأمريكي-الأوروبي، الذي سيكون له انعكاساته على مسرح الإندو-باسيفيك. والمستوى الثاني، الربط بين روسيا والإندو-باسيفيك. والثالث، احتمال توسيع أجندة عمل الناتو لتشمل الإندو-باسيفيك. أما الرابع فيتطرق لاحتمالات تغير مواقف القوى الإندو-باسيفيكية نفسها إزاء التحولات الرئيسة في الإندو-باسيفيك، خاصة فيما يتعلق بالتحالفات والفاعلين الرئيسين بالمنطقة. وسيتناول الخامس، تزايد احتمالات حدوث نقلة في طبيعة العلاقات الصينية-الروسية.

 

1. اتساع حجم التوافق الأمريكي-الأوروبي

أحد التداعيات المهمة للحرب الروسية-الأوكرانية، اتساع حجم التوافق الأمريكي-الأوروبي في مواجهة روسيا؛ وعلى رغم وجود بعض التباينات بين الجانبين، وداخل الاتحاد الأوروبي نفسه، حول عدد من النقاط، فإن الحرب خلقت واقعاً ومشهداً استراتيجياً جديداً عنوانه الرئيس إحياء العلاقات عبر الأطلسي، وإحياء الأهداف الاستراتيجية التقليدية لحلف الناتو. هذه الحالة تؤسس لواقع جديد بعد انتهاء الحرب.

 

وفي شكل عام، يتسم هذا الواقع الجديد بثلاثة ملامح أساسية:

أولها، تزايد الأهمية النسبية للتهديدات الأمنية التقليدية من جديد؛ فقد تبع تفكك الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن الماضي تراجعاً كبيراً في مستوى التهديدات الأمنية التقليدية لأوروبا من ناحية الشرق. وقد تبع هذا التطور المهم توسع حلف الناتو شرقاً، ما أدى إلى تراجع شديد في مستوى التهديدات الأمنية من هذا الاتجاه. في المقابل، تَرَكَّزَ اهتمام الحلف على التهديدات غير التقليدية، عموماً، واتجه إلى خلق مجالات حركة جديدة بعيداً عن الجبهة الشرقية، شملت -على سبيل المثال- مواجهة الإرهاب (حالة أفغانستان خلال الفترة 2001- 2021)، والمشاركة في مشروعات إزاحة الأنظمة السياسية بهدف نشر الديمقراطية في الخارج (حالة ليبيا في 2011). لكن الحرب الروسية-الأوكرانية جاءت لتعيد الاعتبار من جديد للتهديد الروسي التقليدي للأمن الأوروبي.

 

ثانيها، إعادة الاعتبار لسياسة الأحلاف العسكرية في إدارة الصراعات وبناء التوازنات الدولية الجديدة؛ فقد كان لتوسع حلف الناتو شرقاً دوراً رئيساً في وقوع الحرب الروسية-الأوكرانية، لكن خبرة الحرب أكدت أيضاً أهمية الحلف في حماية الأمن الأوروبي، وحماية الأمن القومي لدول شرق أوروبا على وجه الخصوص، وهو ما يُفسِّر بدء موجة جديدة من التحاق دول أوروبية بالحلف، أبرزها فنلندا والسويد.[2] إن إعادة الاعتبار من جديد لسياسة الأحلاف العسكرية تحمل دلالة كبيرة بالنسبة لمنطقة الإندو-باسيفيك، التي باتت هي الأخرى تمثل مسرحاً لبناء شبكة من التحالفات الجديدة، إلى جانب التحالفات والشراكات الاستراتيجية والعلاقات الدفاعية القوية القائمة بين الولايات المتحدة وعدد من دول المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن؛ فإلى جانب التحالف الأمني بين الولايات المتحدة واليابان، والعلاقات الدفاعية القوية بينها وبين كوريا الجنوبية وتايوان، شهدت المنطقة إحياء “الحوار الأمني الرباعي” في نوفمبر 2017، وترقيته إلى مستوى القمة في مارس 2021، ثم تأسيس تحالف “أوكوس” في سبتمبر من العام نفسه. وتكمن أهمية استقرار التحول نحو سياسة الأحلاف/التحالفات في أنَّه قد يُحفِّز دولاً عدة أخرى في الإندو-باسيفيك، خاصة في إقليم جنوب شرقي آسيا، على الالتحاق بالتحالفات والأبنية الأمنية الجديدة في الإندو-باسيفيك.

 

ثالثها، إعادة تقسيم العالم على أساس الموقف من الحرب الجارية، وذلك بصرف النظر عن عدد الدول المنضوية في كل معسكر، أو وزنها النسبي داخل النظام العالمي. وكشفَ عن هذا الانقسام اتجاهات التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن على مشروعات القرارات ذات الصلة بالحرب، والدعم العسكري والسياسي الذي حصلت عليه روسيا خلال العام الأول من هذه الحرب، حيث يمكن التمييز بين ثلاثة معسكرات: الأول، مثلته الولايات المتحدة وحلف الناتو ومعهما عدد من دول العالم تبنَّت موقفاً معارضاً على طول الخط لروسيا. والثاني، مثلته الصين ومعها عدد محدود من الدول تبنَّت مواقفاً تراوح بين دعم صريح لروسيا (بيلاروسيا، كوريا الشمالية، إيران)، أو تبني مواقف متحفظة نسبياً تجاه السياسات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا. ومن المؤشرات المهمة على تبلور هذا المعسكر المناورات العسكرية المشتركة بين روسيا والصين وإيران في بحر العرب تحت عنوان “حزام الأمن البحري-2023″، بمشاركة حاملة الصواريخ فرط الصوتية الروسية “الأدميرال غورشكوف”[3]. وذلك إلى جانب المناورات العسكرية العديدة بين روسيا والصين. بينما شمل المعسكر الثالث كتلة دولية أوسع، تحاول تبني مواقف متوازنة نسبياً، من خلال التمسك بالقواعد التقليدية الحاكمة للنظام العالمي والدفاع عنها، والحفاظ على المؤسسية الدولية القائمة، وعلى رأسها الأمم المتحدة.

 

هذا التقسيم ليس تقسيماً جامداً، فقد تراوح موقف بعض الدول بين أكثر من معسكر، لكن بشكل عام بات هناك فرز جديد للقوى الدولية على أساس تأثير الحرب على قواعد النظام العالمي، وعلى أساس الموقف من القوة المهيمنة على هذا النظام (الولايات المتحدة)، والقوى الصاعدة أو المرشحة لاحتلال مواقع متقدمة على قمة النظام (روسيا والصين)، أو انطلاقاً من أن الحرب تمثل حلقة مهمة في عملية بناء نظام عالمي متعدد الأطراف.

 

هكذا، فإن الحرب الروسية-الأوكرانية سوف تعيد الاعتبار لأنماط التهديدات التقليدية، بشكل عام، خاصة تلك المرتبطة بكلٍّ من روسيا أو الصين. كما أنها تُعيد -ثانياً- الاعتبار لسياسة الأحلاف/التحالفات الدولية بوصفها أداة رئيسة في إدارة الصراعات والتوازنات الدولية ومواجهة التهديدات الأمنية التقليدية الجديدة، بما لذلك من تداعيات مهمة على منطقة الإندو-باسيفيك. وتعيد -ثالثاً- إمكانية تقسيم العالم إلى معسكرات دولية، في مشهد أقرب إلى مرحلة الحرب الباردة، حيث تمثل منطقة الإندو-باسيفيك مسرحاً محتملاً لتكريس هذا التقسيم.

 

لكن هذا لا يعني اختفاء الخلافات الأمريكية-الأوروبية، أو الخلافات الأوروبية-الأوروبية؛ فمع مرور الوقت، وخلال الحرب الجارية، سرعان ما بدأت بوادر خلاف أمريكي-أوروبي، وأوروبي-أوروبي. ومن المتوقع أن تتسع هذه الخلافات عقب انتهاء الحرب. وبشكل عام، هناك ثلاث قضايا أساسية من المتوقع أن تكون موضوع لهذه الخلافات. الأولى، طريقة إدارة العلاقات مع روسيا بعد انتهاء الحرب؛ فمع إقرار أوروبا بخطورة السلوك الروسي ضد أوكرانيا، لكن من المتوقع أن يظهر خلاف أوروبي-أوروبي حول الطريقة الأمثل لاحتواء أو موازنة التهديد الروسي. الثانية، تتعلق بالتوازنات الجديدة داخل أوروبا، على خلفية اتجاه ألمانيا إلى التخلص من إرث مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وزيادة حجم إنفاقها العسكري، الأمر الذي قد يخلق تنافساً حول قيادة الأمن الأوروبي. والثالثة، مستقبل العلاقات عبر الأطلسي، وحدود الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة في حماية الأمن الأوروبي، خاصة في ظل تزايد الأهمية النسبية لمسرح الإندو-باسيفيك بالنسبة للولايات المتحدة.[4]

 

2. وضع الصين وروسيا في جبهة واحدة 

لقد كشفت الحرب الروسية-الأوكرانية عن تزايد الأهمية النسبية للمسرح الأوروبي على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، وبدء مواجهة طويلة الأمد نسبياً مع روسيا، وذلك حتى بعد انتهاء الحرب؛ إذ من المتوقع أن تتحول سياسة احتواء روسيا إلى جزء من التوجهات الأمريكية المستقرة لفترة طويلة. صحيح أن هذه السياسة كانت واحدة من الأولويات الأمريكية قبل بدء الحرب، استناداً إلى تصنيف الوثائق الأمريكية لروسيا -جنباً إلى الصين- على أنها “منافس استراتيجي”، و”قوة مراجعة/تعديلية” Revisionist Power، وقوة “تسعى إلى تشكيل عالم مناقض لقيم الولايات المتحدة ومصالحها”[5]، لكن من المتوقع أن تأخذ هذه السياسة أبعاداً أكثر وضوحاً -عسكرية واقتصادية- خلال مرحلة ما بعد الحرب.

 

بعض التحليلات افترضت أن الانشغال الأمريكي-الأوروبي بالجبهة الروسية سيكون على حساب الاهتمام بالصين، وأن الحرب قد تدفع بالولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إلى التنسيق مع الصين لمصلحة التفرغ لروسيا، لكن مسار العلاقات الأمريكية-الصينية خلال العام 2022 والربع الأول من العام 2023 يشير إلى أن هذا الافتراض لم يكن دقيقاً؛ فإذا افترضنا أن السياسات الأمريكية مدفوعة هيكلياً بهدف الحفاظ على استقرار الهيمنة الأمريكية على قمة النظام العالمي، فإنه يصعب في هذه الحالة استبعاد الحسابات الأمريكية للتداعيات الاستراتيجية للصعود الصيني على مستقبل هذا النظام، خاصة في ظل تصاعد مصادر التوتر في العلاقات الأمريكية-الصينية، والاهتمام الذي حظيت به الصين داخل الوثائق الأمريكية السالفة الإشارة والسابقة على بدء الحرب، سواء الصادرة عن البيت الأبيض أو وزارة الدفاع.

 

بمعنى آخر، فإن الانشغال الأمريكي بروسيا والمسرح الأوروبي لم يأتِ على حساب مسرح الإندو-باسيفيك، بل إن الواقع العملي كشف عن توجه الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين -بما في ذلك الناتو- إلى مزيد من الربط بين سياسات المواجهة مع روسيا وسياسات المواجهة مع الصين؛ والتعامل معهما باعتبارهما مصدر تهديد رئيس للأمن العالمي وللمصالح الأمريكية والأوروبية. وهناك العديد من المؤشرات على هذا التوجه، أبرزها الميل الأمريكي-الأوروبي منذ بدء الحرب الروسية-الأوكرانية لوضع الصين في جبهة واحدة مع روسيا، و”التلاسُن” الإعلامي بين الصين والقوى الأوروبية حول موقف الصين من روسيا والحرب وحلف الناتو، والضغوط الأمريكية-الأوروبية على الصين لإجبارها على أخذ مسافة بعيداً عن روسيا، لكن كل هذه المحاولات فشلت في تغيير الموقف الصيني المحسوب بدقة من هذه الحرب، بل واستغلال الصين للحرب للتأكيد على مواقفها الثابتة من السياسات الأمريكية والأوروبية.

 

أضف إلى ذلك، وضْع الوثائق الأمريكية للصين وروسيا في جبهة واحدة؛ بوصفهما منافسين استراتيجيين للولايات المتحدة، وقوى مراجعة، وأنظمة سلطوية -حسب الرؤية الأمريكية- تسعى إلى إزاحة الولايات المتحدة من على قمة النظام العالمي؛ فمن إجمالي 31 مرة أُشير فيها إلى الصين في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2018، جاءت روسيا مقرونة بها عشر مرات. ومن إجمالي 25 مرة أُشير فيها إلى روسيا، جاءت الصين مقرونة بها عشر مرات. ومن إجمالي 14 مرة أُشير فيها إلى الصين في استراتيجية الأمن القومي المؤقتة الصادرة عن إدارة بايدن في مارس 2021، جاءت روسيا مقرونة بها ثلاث مرات. ومن إجمالي 5 مرات أُشير فيها إلى روسيا، جاءت الصين مقرونة بها ثلاث مرات.[6] وتأكَّد هذا التوجه الأمريكي خلال الجولة الآسيوية للرئيس بايدن، التي بدأها في 20 مايو 2022، إذ صرَّح أثناء زيارته كوريا الجنوبية “أن آسيا تُعدّ ساحة معركة رئيسة في المنافسة العالمية بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية”، قائلاً “تحدثنا بشيء من التفصيل عن حاجتنا إلى جعل هذا يتجاوز الولايات المتحدة واليابان وكوريا، ليشمل كامل المحيط الهادي والمحيط الهندي. اعتقد أن هذا فرصة”.[7]

 

وفي تطور أكثر دلالة على الربط بين روسيا والصين، زادت، على خلفية الحرب، حدة السجال بين حلف الناتو والصين، وتوسع خطاب الاتحاد الأوروبي والناتو حول الصين والإندو-باسيفيك، على نحو أثار سؤالاً مهماً حول احتمال اتجاه الناتو إلى مزيد من الانخراط في منطقة الإندو-باسيفيك. وتجدر الإشارة هنا أن الموقف الصيني الرافض لتوسع الناتو شرقاً كان سابقاً على بدء الحرب الروسية-الأوكرانية، وهو الموقف الذي عُبِّر عنه صراحةً في البيان الصيني-الروسي المشترك الصادر في 4 فبراير 2022،[8] وهو سنناقشه تالياً بمزيد من التفصيل.

 

3. جدال حول محاكاة حالة أوكرانيا في تايوان 

أثارت الحرب الروسية-الأوكرانية جدلاً واسعاً حول تأثيراتها المحتملة على مشكلة تايوان. وقد ذهب العديد من التحليلات إلى عقد مشابهات بين السلوكين الروسي ضد أوكرانيا، والسلوك الصيني المحتمل ضد تايوان. وفقاً لهذه الكتابات، فإن كلاهما (أوكرانيا وتايوان) يحكمهما نظامان ديمقراطيان يواجهان تهديدات من دول ذات أنظمة سلطوية. كما وصف بعض المحللين أوكرانيا وتايوان بأنهما “حالتا اختبار حاسمتين” لمدى استعداد الولايات المتحدة لحماية هذه الديمقراطيات وحماية الأمن العالمي ضد هذه التهديدات. وقد عبَّر عن هذا التوجه رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في كلمته أمام “حوار شانجري لا” Shangri-La Dialogue (سنغافورة، يوليو 2022)، عندما قال “لدي شعور قوي بأن أوكرانيا اليوم قد تكون شرق آسيا غداً”.

 

لكن تظل هناك اختلافات بين الحالتين لا تقل أهمية عن عناصر التشابه السابقة؛ فرغم أن الحدود البرية الواسعة لأوكرانيا مع روسيا مكَّنت القوات البرية الروسية من دخول أوكرانيا، كما سمحت لدول من حلف الناتو بإمداد القوات الأوكرانية بالأسلحة دون الدخول المباشر في الحرب خوفاً من فتح حرب مباشرة بين روسيا والحلف، فإن الوضع الجغرافي لتايوان سيجعل من الدخول البري للقوات العسكرية الصينية للجزيرة أكثر صعوبة، الأمر الذي سيدفع الصين في الأغلب -في حالة حدوث عمل عسكري- إلى البدء بحصار بحري يجعل من الصعب توفير الإمدادات العسكرية المباشرة للجزيرة.

 

من ناحية أخرى، وعلى العكس من القيد الذي مثله عدم عضوية أوكرانيا في حلف الناتو على الولايات المتحدة ودول الناتو من التدخل المباشر في الحرب، ففي حالة تايوان تعد الولايات المتحدة شريكاً أمنياً رئيساً لتايوان، بموجب “قانون العلاقات مع تايوان”. أضف إلى ذلك، الموقع الاستراتيجي لتايوان على طرق التجارة البحرية والمهم بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. وعلى العكس من حالة أوكرانيا التي استبعد الرئيس بايدن صراحة في بداية الأزمة إمكانية إرسال قوات أمريكية إليها، وهو موقف أدى بلا شك دوراً في تشجيع روسيا على بدء عملياتها العسكرية، فإن تايوان تتمتع بعلاقة أمنية وثيقة مع الولايات المتحدة بموجب القانون السابق الإشارة إليه، كما أعلن بايدن في مناسبات متعددة أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان ضد أي هجوم صيني.

 

لكن بعيداً عن أوجه التشابه والاختلاف بين حالتي أوكرانيا وتايوان، مِن المؤكد أن كل طرف من الأطراف الثلاثة (الولايات المتحدة، والصين، وتايوان) يدرس بدقة الطريقة التي قرأ بها الطرف الآخر خبرة الحرب الروسية-الأوكرانية، ومتى وكيف يمكن أن تبدأ الحرب في تايوان؟

 

فيما يتعلق بالصين هناك أربعة استخلاصات متوقعة من تجربة الحرب الروسية-الأوكرانية. أولها، تجنُّب استدراج الصين للقيام بعمل عسكري ضد تايوان، طالما لم تكن هناك حاجة ماسة لهذا العمل العسكري. ثانيها، أهمية صياغة خطاب صيني حول الحرب المحتملة في تايوان في حالة حدوثها. ثالثها، ضرورة استعداد الصين لسيناريو فرض العقوبات وتقليل تكاليف هذا السيناريو في حالة حدوثه. رابعها، تجنُّب بعض الأخطاء التي وقع فيها الجيش الروسي في حربه ضد أوكرانيا، خاصة التقدير الخطأ لرد الفعل العسكري المتوقع من جانب الخصم -سواء أوكرانيا أو دول أوروبا والناتو- وعدم توظيف عنصر المفاجأة بفعالية، والمشاكل اللوجستية. وقد أدت عناصر الضعف تلك دوراً مؤثراً في عدم قدرة روسيا على تحقيق نصر عسكري حاسم وسريع.

 

4. تعميق الارتباط بين الأمن الأوروبي وأمن الإند-وباسيفيك 

تبع انتهاء الحرب الباردة نشوء جدل واسع حول النطاق الجغرافي لعمل حلف الناتو، وطبيعة التهديدات التي يجب أن يعمل عليها الحلف. وجاءت الحرب الروسية-الأوكرانية لتعيد مسألة توسع حلف الناتو إلى الواجهة، وبدء موجة انضمام جديدة للحلف. لكن الجديد أن هذه الحرب خلقت في الوقت نفسه فرصة كبيرة للربط بين الأمن الأوروبي وأمن الإندو-باسيفيك. وهناك مجموعة من المؤشرات المهمة التي أسست لهذا الربط وأكدته، نشير فيما يلي إلى أهمها:

 

أ. تنامي الاهتمام الأوروبي بمفهوم الإندو-باسيفيك، الذي اعتمدته الولايات المتحدة وعدد من شركائها في المنطقة، مفهوماً ووحدةً استراتيجية ليكون بديلاً لمفهوم “آسيا-المحيط الهادي”. وبدأ هذا الاهتمام الأوروبي بإعلان ثلاث من دول الاتحاد الأوروبي (الأعضاء في الناتو أيضاً) استراتيجيات رسمية إزاء هذا المسرح الدولي الجديد؛ هي فرنسا وألمانيا وهولندا. وقادت هذه الدول تياراً داخل الاتحاد لدفع الأخير إلى إعلان استراتيجية رسمية بشأن “الإندو-باسيفيك”، وهو ما تحقق بالفعل بإصدار مجلس الاتحاد الأوروبي، في أبريل 2021، وثيقة “استراتيجية التعاون في الإندو-باسيفيك”، ثم إصدار المفوضية الأوروبية بالتعاون مع الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في سبتمبر من العام نفسه وثيقة أخرى بعنوان “استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتعاون في الإندو-باسيفيك”. تبع ذلك تبني لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الأوروبي في 22 مارس 2022 (بعد مرور 27 يوماً على بدء العملية العسكرية الروسية داخل أوكرانيا)، تقريراً حول التحديات الأمنية في “الإندو-باسيفيك”، أكد ضرورة حماية مصالح الاتحاد الأوروبي في المنطقة بالتعاون مع “الشركاء”. وكان لافتاً تأكيد التقرير أهمية الحفاظ على السلام والاستقرار وحرية الملاحة في المنطقة، وأن تحقيق الأمن الإقليمي يتطلب حواراً مفتوحاً وشاملاً مع الفاعلين الإقليميين والدوليين من خارج المنطقة. وعَدَّ التقرير “كواد” و”أوكوس” ركائز أساسية في أمن الإندو-باسيفيك.

 

ب. تنامي اهتمام حلف الناتو بمسألة الصعود الصيني، وتأثير هذا الصعود على أمن الحلف. وعُولِجَ الصعود الصيني في قمتي الحلف في يونيو 2021، ويونيو 2022، من خلال الربط بين الصين وروسيا. وكان لافتاً وصف البيان الصادر عن اجتماع يونيو 2021 لطموحات الصين بأنها تمثل “تحديات هيكلية” Systemic Challenges “للنظام الدولي القائم على القواعد والمجالات ذات الصلة بأمن الحلف”. وتضمن البيان العديد من التوجهات السلبية إزاء الصين.[9] وأُعيد تأكيد هذا الموقف في اجتماع الحلف المُنعَقِدْ في 29 يونيو 2022 من خلال وثيقة “المفهوم الاستراتيجي للناتو 2022” الصادرة عن الاجتماع نفسه؛ ففي الوقت الذي اعتبرت الوثيقة روسيا “التهديد الأهم والمباشر لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية”، أكدت في الوقت نفسه أن الصين تمثل تحدياً للمصالح والأمن والقيم الأوروبية. وأعربت الوثيقة عن قلق الحلف إزاء جهود الصين “للسيطرة على القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسة، والبنية التحتية الحيوية، وسلاسل التوريد”. واتهمت الوثيقة الصين بمحاولة “تقويض النظام الدولي القائم على القواعد”، وأشارت إلى جهود بكين لتوسيع قدراتها النووية ورفضها محادثات الحد من التسلح أو الحد من المخاطر. وأكدت أن الشراكة بين الصين وروسيا يمكن أن تُقوِّض أمن الحلف. ووضعت الوثيقة إطاراً لإدارة هذه التحديات، من خلال “العمل معاً بشكل مسؤول، كحلفاء، لمواجهة التحديات النظامية التي تفرضها جمهورية الصين الشعبية على الأمن الأوروبي الأطلسي، ولضمان قدرة الناتو الدائمة على ضمان دفاع وأمن الحلفاء”. وفي إشارة ضمنية إلى “التهديد الصيني”، جاء في الوثيقة (على لسان قادة الحلف): “سوف ندافع عن قيمنا المشتركة والنظام الدولي القائم على القواعد، بما في ذلك حرية الملاحة”، وتعزيز شراكة الناتو الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، بهدف معالجة “التحديات النظامية التي تفرضها جمهورية الصين الشعبية على الأمن الأوروبي-الأطلسي”. وشددت الوثيقة على أهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ بالنسبة للأمن الأوروبي، وأن الحلف سيعمل على تقوية الحوار والتعاون مع الشركاء القائمين والجدد في المنطقة لمواجهة التحديات عبر الإٍقليمية والمصالح الأمنية المشتركة.[10]

 

ج. كان من المؤشرات المهمة على هذا الربط أيضاً، استضافة قمة الحلف في يونيو 2022، ولأول مرة، أربع دول من الإندو-باسيفيك، هي: اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا. حيث التزم قادة الحلف بتعزيز الحوار والتعاون مع الدول الأربع، ومع الشركاء الآخرين في المنطقة. وتأتي أهمية مشاركة الدول الأربع ليس باعتبارها سابقة مهمة، لكن بالنظر أيضاً إلى سعي هذه الدول إلى تأكيد ارتباطها بالأطر الأمنية الغربية، وفي ضوء المراجعات التي تقوم بها بعض هذه الدول لسياساتها وعقائدها الأمنية الموروثة عن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (حالة اليابان بشكل خاص).[11]

 

د. بالإضافة إلى ذلك، هناك أساس جغرافي لتعميق الربط بين الناتو والإندو-باسيفيك، يتمثل في وجود دولة “إندو-باسيفيكية” ضمن أعضاء حلف الناتو، هي فرنسا، وذلك استناداً إلى امتلاك الأخيرة عدد من الجزر بالمنطقة، ما يجعلها دولة من الدول ذات السيادة بمنطقة الإندو-باسيفيك، الأمر الذي (قد) يؤسس قانوناً لحقّ فرنسا في توظيف المادة الخامسة من معاهدة الحلف في حالة تعرُّض أي من جزرها الإندو-باسيفيكية لاعتداء. لقد جاء في المادة الخامسة من معاهدة الحلف: “يتفق الأطراف على أن أي هجوم أو عدوان مسلح ضد طرف منهم، أو عدة أطراف، في أوروبا أو أمريكا الشمالية، يُعدُّ عدواناً عليهم جميعاً”. إن تعبير “أوروبا أو أمريكا الشمالية” الوارد في نص المادة قد ينصرف إلى أن الإطار الجغرافي لتنفيذ هذه المادة يشمل أوروبا وأمريكا الشمالية فقط، لكن تفسيراً آخر قد يُطرح وهو أن الإطار الجغرافي المقصود هنا لا ينصرف إلى منشأ الهجوم أو العدوان، أو نطاق تنفيذ مقتضيات الأمن الجماعي، لكنه مجرد إشارة إلى الموطن الجغرافي الأساسي للدول الأعضاء بالحلف.

 

هذه التوجهات الأوروبية نحو الإندو-باسيفيك قد تغذيها الولايات المتحدة بشكل أكثر كثافة خلال المرحلة المقبلة. ومن المتوقع أن يغذي هذه التوجهات أيضاً اندماج أعضاء من الناتو داخل الأبنية الأمنية الجاري استحداثها وتعميقها داخل الإندو-باسيفيك. المثال الأبرز هنا هو تشكيل المملكة المتحدة، مع كل من الولايات المتحدة وأستراليا، في سبتمبر 2021، تحالف “أوكوس”، الذي أثار قلق الصين بشكل كبير. ورغم ردود الفعل السلبية من جانب فرنسا على هذه الخطوة بسبب إلغاء استراليا صفقة عسكرية متفق عليها بين الطرفين في عام 2016، لصالح صفقة بديلة مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لكن الهيكل الراهن لأوكوس لا يمكن عدَّهُ المحطة الأخيرة، إذ من المتوقع ضم دول أخرى من الناتو إلى هذا التحالف، كجزء من السياسة الأمريكية الرامية إلى بناء شبكة من الأبنية الأمنية حول الصين. إن التوسع في هذا التوجه سوف يستتبعه مزيد من الاندماج الأوروبي في الأبنية ذات التوجهات الصراعية مع الصين، ومزيد من الشراكات الأوروبية مع دول المنطقة، خاصة في ظل تنامي المصالح الأوروبية مع العديد من دولها.

 

وقد أكدت وثيقة المجلس الأوروبي وجود قائمة غير قليلة من القضايا يمكن أن تؤسس لهذه الشراكات، سواء على أساس ثنائي أو متعدد الأطراف، مثل الأمن البحري، وتكنولوجيات الجيل الخامس، ومواجهة الإرهاب، والأمن السيبراني، والاتجار في البشر، والصيد الجائر وغير القانوني، والأوبئة[12]. ودعا التيار المؤيد لانخراط الاتحاد الأوروبي في الإندو-باسيفيك إلى البناء على بعض المهام والمشاريع الأمنية ذات الصلة التي قام بها الاتحاد بمنطقة الإند-وباسيفيك، مثل مهمة أتالانتا ATALANTA ضد القرصنة في غرب المحيط الهندي[13]، والتي بدأ تنفيذها في ديسمبر 2008، ومشروع كريماريو CRIMARIO،[14] وهو ما أعادت تأكيده وثيقة مجلس الاتحاد الصادرة في أبريل 2021.

 

5. احتمالات تغيُّر مواقف القوى الإندو-باسيفيكية 

الافتراض المطروح هنا أن الحرب الروسية-الأوكرانية، من خلال ما حملته من دلالات مهمة، قد تدفع دول الإندوباسيفيك إلى اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً من التحالفات الجديدة في المنطقة. ذلك أن الدلالة الرئيسة التي حملتها الحرب أن روسيا انتهكت عدداً من المبادئ الأساسية المستقرة في النظام العالمي القائم منذ تأسيسه عقب الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها احترام السيادة، والسلامة الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، حتى وإن استند السلوك الروسي ضد أوكرانيا إلى مخاوف أمنية مشروعة تتعلق بتوسع الناتو شرقاً بالقرب من الحدود الروسية. وعمَّقت هذه الحرب مخاوف العديد من دول الإندو-باسيفيك حول مدى إيمان الصين والتزامها مستقبلاً بالمبادئ الثلاث السابقة، بما يحمله ذلك من مخاوف شديدة في حالة تعمُّق الخلل في موازين القوى في الإندو-باسيفيك. وتزداد هذه المخاوف في حالة الدول الإندو-باسيفيكية الأطراف في نزاعات مع الصين في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي.

 

بهذا المعنى، فإن خبرة الحرب وما حملته من دلالات بالنسبة لمستقبل “التهديد الصيني”، قد يدفع العديد من دول الإندوباسيفيك إلى موازنة التهديد الصيني المحتمل، من خلال مزيد من التقارب مع الولايات المتحدة واتخاذ مواقف أكثر وضوحاً من شبكة التحالفات الأمريكية الجديدة في الإندوباسيفيك، كما حدث في حالة أستراليا التي تخلت عن السياسة “الحذرة” تجاه الصين وانضمت إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتأسيس “أوكوس”. وبهذا، فقد تتجه بعض دول جنوب شرقي آسيا إلى الانخراط في “كواد” أو “أوكوس”، خاصة الفلبين التي أعلنت صراحة تأييدها تحالف “أوكوس”، عقب الإعلان عنه مباشرة في سبتمبر 2021.

 

ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط؟ 

الارتدادات الجارية للحرب الروسية-الأوكرانية على منطقة الإندوباسيفيك قد تترك آثارها على منطقة الشرق الأوسط أيضاً. من الناحية الجغرافية، هناك تعريفان لمنطقة الإندوباسيفيك، الأول تعريف ضيق، تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ عرَّفت وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الأمريكي” لسنة 2017 منطقة “الإندو-باسيفيك” بأنها المنطقة الممتدة من السواحل الغربية للهند إلى الشواطئ الغربية الأمريكية.[15] وانعكس هذا التعريف على تحديد النطاق الجغرافي لمسئوليات القيادة الأمريكية لمنطقة الإندو-باسيفيك. في المقابل، تتبنى دول أخرى حليفة للولايات المتحدة مفهوماً موسعاً للمنطقة. فعلى سبيل المثال، تعرِّفها الهند بأنها المنطقة الممتدة من السواحل الشرقية الأفريقية على المحيط الهندي إلى سواحل الأمريكيتين على المحيط الهادئ.[16] وبهذا المعنى، فإن التعريف الواسع، الذي تتبناه معظم الدول المعنية بهذا المسرح الدولي الجديد، يجعل المسطحات المائية ذات الصلة بمنطقة الشرق الأوسط امتدادات طبيعية لمنطقة الإندوباسيفيك.

 

لكن سيظل السؤال: كيف ستمتد التفاعلات الجارية في الإندو-باسيفيك إلى الإقليم؟ هناك مداخل عدة لفهم هذه التأثيرات أو بالأحرى استشراف تأثيرها على الإقليم. أحد أهم هذه المداخل هو تأثير “الحوار الأمني الرباعي”، و”الرباعي بلس” Quad Plus على الإقليم[17]. الكواد هو آلية/صيغة أمنية أكثر منها عسكرية لمواجهة الصعود الصيني. كما تعد “كواد بلس” صيغة سياسية/اقتصادية أكثر منها أمنية وعسكرية لتحقيق الهدف نفسه. وقد اُستحدِث “كواد بلس” لبناء تكتل دولي واسع لتحجيم النفوذ الصيني من خلال استخدام/محاكاة الاستراتيجيات الصينية في مجالات البنية التحتية والأوبئة وسلاسل التوريد، ليس فقط في منطقة الإندو-باسيفيك، لكنها قد تمتد إلى أقاليم أخرى، من بينها الشرق الأوسط.

 

قد يستغرق الأمر بعض الوقت لتفاعل دول الشرق الأوسط مع مثل هذه الأطر الجديدة، كما أن التطورات المهمة التي شهدتها العلاقات السعودية-الإيرانية، والنقلة المتوقعة في العلاقات الصينية-الإيرانية، عقب الإعلان السعودي-الإيراني-الصيني الصادر في العاشر من مارس 2023، فضلاً عن تنوع علاقات ومصالح دول الإقليم مع الصين لتشمل مجالات نوعية جديدة، بدءاً من الاستفادة من القدرات الصينية في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، وانتهاء بالطائرات المسيرة، ومروراً بالطاقة النووية السلمية؛ كل ذلك من المتوقع أن يكون ضابطاً مهماً على احتمالات ومستوى تفاعل دول الإقليم مع أطر الإندو-باسيفيك.

 

لكن في الوقت نفسه فإن دول الإقليم ليست على مسافة واحدة من هذه الأطر الإندو-باسيفيكية؛ ففي الوقت الذي تحرص فيه معظم دول الإقليم -حتى الآن- على مبدأ التوازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين، بما يضمن حالة من تعددية الأطراف في الإقليم، فإن دولاً أخرى مثل إيران تنظر إلى الصين بوصفها بديلاً سياسياً واقتصادياً وأمنياً للولايات المتحدة. وتسعى إلى بناء “اصطفاف استراتيجي” جديد يخفف من أعبائها الأمنية والاقتصادية الناتجة عن علاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة. هذا “الاصطفاف” البديل يشمل: الصين، وروسيا، وإيران، وباكستان. فهناك مصالح استراتيجية متنامية بين الدول الأربع في مجالات تجارة السلاح، والطاقة، والتجارة، والموانئ، ومواجهة الهيمنة الأمريكية، وغيرها. ورغم انفتاح دول عدة من الشرق الأوسط على الصين، لكن يبدو أن العلاقات الاستراتيجية الصينية-الإيرانية تقوم على اختيارات استراتيجية طويلة الأمد، على نحو ما عكسه اتفاق الشراكة الاستراتيجية لمدة 25 عاماً الموقَّع بين الجانبين في مارس 2021، ومشروع التعاون العسكري، مثل تطوير الصواريخ طويلة المدى المضادة للسفن، وشراء إيران مقاتلات صينية من طراز Chengdu J-10.

 

وعلى العكس من إيران، فإن باقي دول الإقليم لا تصل علاقاتها مع الصين إلى مستوى “البديل” الاستراتيجي للولايات المتحدة، ولا زالت تقع في منطقة تنويع علاقاتها الخارجية وخلق حالة تعددية أطراف في الإقليم، ما يعني وجود فرصة لإمكانية التفاعل مع صيغة “كواد بلس”، كآلية للتأكيد على التوازن والحفاظ على علاقة جيدة مع الولايات المتحدة بالتوازي مع الانفتاح على الصين، خاصة أن “كواد بلس” تمثل صيغة فضفاضة أكثر مرونة من “كواد”، فضلاً عن أبعادها غير الأمنية.

 

وفي النتيجة، سيظل انخراط دول الشرق الأوسط في الأطر الأمنية الإندو-باسيفيكية (خاصة “كواد”، و”أوكوس”) أمراً مستبعداً على الأرجح، لكن هذا لا يمنع إمكانية تفاعل بعض دول الإقليم مع الأطر الأكثر مرونة، والتي تتضمن مجالات تعاون ذات طبيعة اقتصادية، مثل “كواد بلس”، كمدخل لتأكيد التوازن وتعددية الأطراف داخل الإقليم. لكن هذا السيناريو لا ينسحب على حالة إيران بسبب مصالحها الاستراتيجية مع الصين، واتجاهها إلى الاندماج في “اصطفاف استراتيجي” مغاير.

 


[1] Department of Defense, Summary of the 2018 National Defense Strategy of the United States of America, Sharpening the American Military’s Competitive Edge, January 2018, p. 2. Available at: https://dod.defense.gov/Portals/1/Documents/pubs/2018-National-Defense-Strategy-Summary.pdf

[2] Colin Wall, Sean Monaghan, & Pierre Morcos, “Will Finland and Sweden Join NATO?”, Critical Questions, CSIS, April 15, 2022. https://www.csis.org/analysis/will-finland-and-sweden-join-nato; Gabriela Rosa Hernandez, “Finland, Sweden in Talks to Join NATO”, Arms Control Today, May 2022. https://www.armscontrol.org/act/2022-05/news/finland-sweden-talks-join-nato; Paul Levin, “The Turkish Veto: Why Erdogan in Blocking Finland and Sweden’s Path to NATO”, Foreign Policy Research Institute, Analysis, 8 March 2023. Available at: https://www.fpri.org/article/2023/03/the-turkish-veto-why-erdogan-is-blocking-finland-and-swedens-path-to-nato/ 

[3] انظر: “حزام الأمن البحري-2023… بدء مناورات روسية صينية إيرانية في بحر العرب”، روسيا اليوم، 15 مارس 2023. متاح على الرابط: https://cutt.us/6Oy3j 

[4] انظر على سبيل المثال: Klaus F. Zimmermann, “Ukraine crisis hinders European autonomy”, China Daily, 16 Feb. 2023. https://www.chinadaily.com.cn/a/202302/16/WS63ed67fda31057c47ebaf048.html

[5] THE WHITE HOUSE, National Security Strategy of the United States of America, Dec. 2017, pp. 45- 47. Available at: https://trumpwhitehouse.archives.gov/wp-content/uploads/2017/12/NSS-Final-12-18-2017-0905.pdf; The White House, Interim National Security Strategic Guidance, Washington, March 2021. Available at: https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2021/03/NSC-1v2.pdf; Department of Defense, Summary of the 2018 National Defense Strategy of the United States of America, Sharpening the American Military’s Competitive Edge, January 2018, p. 2. Available at: https://dod.defense.gov/Portals/1/Documents/pubs/2018-National-Defense-Strategy-Summary.pdf 

[6] THE WHITE HOUSE, National Security Strategy of the United States of America 2018, Dec. 2017, pp. 25, 45- 47. Available at: https://trumpwhitehouse.archives.gov/wp-content/uploads/2017/12/NSS-Final-12-18-2017-0905.pdf; The White House, Interim National Security Strategic Guidance, Washington, March 2021. Available at: https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2021/03/NSC-1v2.pdf; Department of Defense, Summary of the 2018 National Defense Strategy of the United States of America, Sharpening the American Military’s Competitive Edge, January 2018, p. 2. Available at: https://dod.defense.gov/Portals/1/Documents/pubs/2018-National-Defense-Strategy-Summary.pdf 

[7] نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط، 23 مايو 2022، ص 10. 

[8] جاء في البيان بهذا الشأن: “يعتقد الطرفان أن دولاً محددة، وتحالفات عسكرية وسياسية، تسعى إلى الحصول، بشكل مباشر أو غير مباشر، على مزايا عسكرية أحادية الجانب، تضر بأمن الآخرين، بما في ذلك من خلال استخدام ممارسات المنافسة غير العادلة، وتكثيف التنافس الجيو-سياسي، وتأجيج العداء والمواجهة، بما يقوض بشكل خطير نظام الأمن العالمي والاستقرار الاستراتيجي. ويعارض الطرفان المزيد من توسيع الناتو، ويدعوان حلف شمال الأطلسي إلى التخلي عن المقاربة الأيديولوجية لمرحلة الحرب الباردة، واحترام سيادة الدول الأخرى وأمنها ومصالحها، وتنوع خلفياتها الحضارية والثقافية والتاريخية، وتبني توجهات عادلة وموضوعية إزاء التطور السلمي للدول الأخرى. ويقف الجانبان ضد تشكيل تكتلات مغلقة ومعسكرات متعارضة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ويظلان يقظين للغاية بشأن التأثير السلبي لاستراتيجية الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ على السلام والاستقرار في المنطقة. لقد بذلت روسيا والصين جهوداً متسقة لبناء نظام أمني منصف ومنفتح وشامل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ غير موجه ضد دول ثالثة، ويعزز السلام والاستقرار والازدهار”. انظر: “Joint Statement of the Russian Federation and the People’s Republic of China on the International Relations Entering a New Era and the Global Sustainable Development”, February 4, 2022. http://en.kremlin.ru/supplement/5770; “China joins Russia in opposing Nato expansion”, BBC, February 4, 2022. https://www.bbc.com/news/world-asia-60257080 

[9] لمزيد من التفصيل انظر: “Brussels Summit Communiqué Issued by the Heads of State and Government participating in the meeting of the North Atlantic Council in Brussels 14 June 2021. https://www.nato.int/cps/en/natohq/news_185000.htm 

[10] لمزيد من التفصيل، انظر وثيقة “المفهوم الاستراتيجي” الصادرة عن حلف الناتو في يونيو 2022: “NATO 2022 STRATEGIC CONCEPT”, adopted by Heads of State and Government at the NATO Summit in Madrid 29 June 2022. Available at:  https://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/2022/6/pdf/290622-strategic-concept.pdf

[11] لمزيد من التفصيل، انظر وثيقة الأمن القومي الياباني، الصادرة عن مجلس الأمن القومي، في ديسمبر 2022، ووثيقة “استراتيجية الدفاع الوطني” الصادرة عن وزارة الدفاع في اليوم نفسه، واللتان تضمنتا تحولات مهمة في اتجاه التخلص من إرث مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: The National Security Council (Japan), “National Security Strategy of Japan”, December 16, 2022. Available at: https://www.cas.go.jp/jp/siryou/221216anzenhoshou/nss-e.pdf; Ministry of Defense (Japan), “The National Defense Strategy”, Dec. 16, 2023. Available at: https://www.mod.go.jp/j/policy/agenda/guideline/strategy/pdf/strategy_en.pdf

[12] انظر على سبيل المثال: Garima Mohan, “A European Strategy for the Indo-Pacific”, The Washington Quarterly, Winter 202. pp. 177-178. https://bpb-us-e1.wpmucdn.com/blogs.gwu.edu/dist/1/2181/files/2019/03/Mohan_TWQ_43-4.pdf 

[13] “أتالانتا” هي مهمة تضطلع بتنفيذها القوات البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي في الصومال The European Union Naval Force Somalia (EU NAVFOR)، بهدف ردع القرصنة والقضاء عليها وحماية السفن المعرضة للخطر، والشحنات التابعة لبرنامج الأغذية العالمي والاتحاد الأفريقي قبالة سواحل الصومال. وبدأت العملية في الثامن من ديسمبر 2008، بالتنسيق مع مجلس الأمن والقرارات الصادرة عنه ذات الصلة. وفي أواخر عام 2020، قرر مجلس الاتحاد الأوروبي تمديد فترة عمل “المهمة” حتى ديسمبر 2022، كما عُدِّل التفويض الممنوح لها لتشمل بجانب مهمتها الأساسية السابقة مراقبة أنشطة الصيد قبالة سواحل الصومال، ومراقبة تجارة الأسلحة والمخدرات والاتجار غير المشروع بالفحم والصيد غير المشروع، وغير المبلغ عنه، وغير المنظم. ومع الأخذ في الاعتبار الطابع العابر للحدود للجرائم البحرية، قرر مجلس الاتحاد الأوروبي أن تسهم “أتالانتا” في إنفاذ حظر الأسلحة المفروض على الصومال وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2182 (لسنة 2014)، ومكافحة تهريب المخدرات قبالة سواحل الصومال. لمزيد من التفصيل، انظر: European Union, “EU Naval Force – Somalia Operation ATALANTA”. https://eunavfor.eu/mission/ 

[14] “كريماريو” هو أحد مشاريع ومبادرات الاتحاد الأوروبي التي تندرج تحت مظلة برنامج الطرق البحرية الحرجة (CMR)، وغطت المرحلة الأولى من المشروع، والتي امتدت خلال الفترة 2015- 2019 منطقة غرب المحيط الهندي، واستهدفت تعزيز الوعي البحري، من خلال تبادل المعلومات وبناء القدرات والتدريب. وللوصول إلى ذلك الهدف استحدثت منصة خاصة بهذا الغرض (IORIS)، كأداة لتبادل المعلومات ومهام أخرى؛ إلى جانب برنامج للتدريب المكثف في معالجة البيانات البحرية (MDP). وفي المرحلة الثانية من المبادرة CRIMARIO II (2024-2020) وُسِّعَ نطاقها الجغرافي ليشمل جنوب وجنوب شرق آسيا، بهدف تعزيز الأمن البحري في هذه المناطق. وتركز المبادرة على ثلاثة مجالات عمل أساسية، هي: تعزيز تبادل المعلومات وتحليلها، وإدارة الأزمات؛ تعزيز التعاون العابر للقطاعات والهيئات ذات الصلة بالأمن البحري، وأخيراً تسهيل تنفيذ القانون الدولي والإجراءات الإقليمية في مجال الأمن البحري. على أن يُنفَّذ الهدف الأول في غرب المحيط الهندي وفي الدول الآسيوية، بينما يقتصر تنفيذ الهدفين الثاني والثالث في دول جنوب وجنوب شرق آسيا. وبلغت ميزانية المرحلة الثانية من المشروع 7.5 مليون يورو. لمزيد من التفاصيل انظر: EU Critical Maritime Routes in Indian Ocean. https://www.crimario.eu/en/the-project/rationale-objectives/ 

[15] The National Security Strategy of the United States of America, The White House, December 2017.

[16] Prime Minister Modi, “Prime Minister’s Keynote Address at Shangri La Dialogue,” Ministry of External Affairs, Government of India, June 1, 2018. 

[17] “كواد بلس” هو مجموعة دولية نشأت بمبادرة من “كواد” على خلفية جائحة كورونا بهدف تنسيق مواجهة الجائحة، شاركت فيها في البداية كوريا الجنوبية وفيتنام ونيوزيلندا، وشاركت فيها لاحقاً البرازيل وإسرائيل. لا يوجد تعريف أو تحديد دقيق لهذه المجموعة. ويذهب البعض إلى أنه يمكن اعتبارها تجمعاً دولياً مرناً يضم الدول الملتزمة بالحفاظ على “نظام مؤسسي ليبرالي قائم على القواعد”، وعلى القيم الديمقراطية. ويرى آخرون أهمية التركيز على الالتزام المشترك بالحفاظ على النظام الدولي الحالي، واستبعاد “القيم الديمقراطية” التي يصعب تعريفها. وتظل المجموعة في حالة تطور ولم تصل بعد إلى صيغتها النهائية. 

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/mashhad-astiratiji-alami-jadid-airtidadat-alharb-alruwsia-al-uwkrania-ala-mintaqat-al-indu-basifik

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M