معالجة القرآن الكريم لإشكاليات العقل الجمعي

اعداد :  محسن الكومي – المركز الديمقراطي العربي

  • هل ذكر القرآن الكريم نماذجا أظهرت تحرر العقل الفردي من نزوات العقل الجمعي ؟

 

ملخص :

لم تكن قضايا العبادات والمعاملات  وحدها التي عالج القرآن الكريم إشكاليتها بل إتجه أيضا لمعالجة طرق التفكير وإعمال العقل محررا إياه من تبعية التفكير الجمعي حتى لا يقع تحت تأثير البيئة المحيطة ، فيدعوه الى التحرر كي يستنير ويهتدي للفطرة ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَاۚ لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾[الروم : ٣٠] وايضا كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” ما من مولود إلا يولد على الفطرة ” وفي رواية: على هذه الملة، ولكن أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه………. [1]  أي إن الفطرة هي الغالبة ولكن العقل الجمعي يؤدي إلى إنحراف هذه الفطرة بالتهويد أو التنصير أو التمجيس . ولذلك كانت معاجلة القرآن في أكثر من موضع لهذه الإشكاليات بعد تبيانها بشكل واضح وظاهر .

المقدمة

حار علماء الإجتماع في تفسير ظواهر الجنوح العقلي الجمعي  تجاه قضية معينة ، ونهجوا مناهج للبحث  خلف مثيرات السلوك لدى المجموع ، وتشعبت الآراء حول أسباب الشطط الجماعي وفك أسرار خصائص هذا النوع من العقول ، والتي يمكن تلخيصها في نمطية التفكير ووحدة السلوك والتصرف  تجاه موقف محدد  أو فئة معينة ، هذا الجنوح أو الشطط إنما هو  نتاج تفكير جماعي  يصبغ عقل الجموع معطلا فردية التفكير ، ولذا عرف البعض العقل الجمعي بأنه مجموعة الأفكار والقيم (سلبية أو إيجابية) والتي يتبناها ويؤمن بها أكثر من شخص ، محددين طبيعة هذا التفكير بقولهم “العقل الجمعي  يطبع عقول أعضائه بطابعه المشترك ،ويجعلهم يفكرون عند اجتماعهم بأسلوب مخالف لتفكيرهم عند الإنفراد ”  ([2] )   إذا فهو نمطية ثابتة  تسري بين عقول المجموع وتتسلل بينها فيتعطل التفكير الفردي ويتشكل  رأيا أو فكرة محددة تنتقل بإنسيابية وسلاسة  إلى عقول مجموعة من البشر وهم لا يشعرون .

إشكالية البحث:

تتركز إشكالية البحث في الإجابة على الأسئلة الأتية :

  • هل عالج القرآن مشكلات العقل الجمعي
  • هل ذكر في القرآن أمثلة لتحرر العقل من ربقة تفكير المجموع
  • تحصين الإسلام أفراده ضد محاولات العقل الجمعي السلبي في التأثير على الناس.

فروض البحث :

يناقش البحث فروضا عدة سعيا  للإجابة عن مشكلة البحث الرئيسة وهي كيف أظهر القرآن معالجة إشكاليات العقل الجمعي وقد افترض البحث فروضا عدة ومنها :

  • قدرة العقل الفردي على التحرر والإتجاه للفطرة متى تمايز عن العقل الجمعي
  • كلما كان هناك تمايزا بين العقل الفردي والعقل الجمعي كان هذا باعثا على التغيير والإهتداء للفطرة السوية
  • حرص الإسلام على تحرر العقل وإزالة تبعيته لثقافة القطيع حتى يهتدي للفطرة السوية .

منهج البحث :

اعتمد البحث في طياته على المنهج الاستنباطي والاستدلالي من خلال رصد القصص القرآني الحكيم  واستنباط المعالجة القرآنية الراشدة لقضايا العقل وتحرره من ربقة العقل الجمعي . وكيف أن هناك أمثلة يستدل من قصصها قدرتها على التحرر من شباك أسر العقلي الجمعي المسيطر وكيف أن العقل الفردي عندما يهتدي إلى الطريق القويم والفطرة السليمة يرفض الإنصياع والتبعية لسطوة تفكير المجموع .

أهداف البحث:

يسعى البحث إلى عدة أهداف منها:

  • إظهار السبق القرآني في إشهار قضية العقل الجمعي ومسمياته المختلفة
  • تبيان عظمة القرآن الكريم في الإهتمام بقضايا العقل والتفكير
  • التذكير بطرق المعالجة لاشكاليات العقل الجمعي وأثر التفكير الفردي للتحرر من تبعية المجموع .

خطة البحث  – تتشكل خطة البحث في مبحثين

  • المبحث الأول : تحرير الإسلام للعقل البشري  وإبعاده عن تأثير المجموع .
  • المبحث الثاني : نماذج  التحرر من أسر العقل الجمعي في القرآن الكريم  .

أولا:

المبحث الأول : تحرير الإسلام للعقل البشري  وإبعاده عن تأثير المجموع :

وسط توجيهات القرآن الكريم المتعدد والشاملة للإنسان كي يستقيم حاله ليصبح لائقا لخلافة الله في الأرض ، نلحظ أنه رغب في تخلص العقل من القيود والتي تحد من ملكاته وقدراته ،وقد صنف ربنا تلك القيود ذاكرا مثالا لها فقال تعالى ﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُوا۟ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ﴾ ]المائدة ١٠٤[   ففي هذه الأية  يذكر ربنا قيدا جمعيا سرى بين الأسلاف وانتقل ضلاله الى الخلف من بعدهم فقالوا ” حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤ ” فهم يعللون ضلالهم إلى مؤثرات العقل الجمعي السائد في الأسلاف . وقد أورد الطبري في تفسير هذه الآيات معلقا عليها :   يقولون:”نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة، وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل” ([3] )  وهم بذلك قد انتهجوا الفكر الجماعي  السابق فسري بينهم منتصرا على التفكير الفردي ،  وبهذا أتى  الوصف القرآني الرائع بوسم أسلافهم بالجهل وعدم الدراية والهداية فهو تفكير ضال مضل فقال تعالى ” أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ “. تلك حالة من حالات تفشي التفكير الجمعي وغلبته للتفكير الفردي المنفصل .

وقد  حرص القرآن على نجاة الفرد من عواقب التفكير الجمعي حتى يكون عند تفكيره حرا بعيدا عن  تأثير المجموع بما يشكله من تأثيرات بيئية سلبية فيدفعه إلى الشطط المذموم سواء كان ذلك  في  السلوك أو في العاطفة ، إن حركة تحرر العقل التي دعى إليها القرآن الكريم تعد  أكبر حركة تحرر قد تمت ذلك أنها لا تنقذ جسدا من أسر ،بل تنقذ عقلا من جاهلية  تلك كانت من أعظم دعوات القرآن الكريم ، إذ أراد الله تعالى أن ينقذ الإنسان من الأسر الجمعي وثقافة القطيع فيقول تعالى واصفا آليات النجاة والتحرر من الأسر الجمعي في سورة سبأ ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ ]سبأ 45:46[  ففي هذه الآيات نجد وصفا لسلوك المجموع والذي نتج عن تفكير العقل الجمعي  الفاسد  ، متخذا  قراره في تكذيب الرسل  ولذا كان  وعظ النبي  لهم  ملخصا في شيء واحد ألا وهو أن يقوموا لله مثني وفرادى  والسر في ذلك أن ينتشلهم من غمامة وأسر ثقافة القطيع  والعقل الجمعي الفاسد ،إلى رحابة الفكر الفردي وتحرير العقل بعيدا عن مؤثرات المجموع،  فينتج التفكير المتحرر معلنا حريته من قيد وأسر العقل الجمعي الغالب ، فيهتدوا إلى أن صاحبهم ليس به جنة بل هو نذير مبين ، ولن يستطيعوا أن يصلوا إلى هذا أثناء تواجدهم ووقوعهم في شباك أسر المجموع بل يجب أن يفكروا فرادى أو أقصى تقدير مثنى حيث سعة التفكير الفردي وعبقرية التحرر كي يهتدوا للحقيقة ، وفي هذه الآيات دعوة صريحة إلى التحرر من قيد المجموع إلى رحابة التفكير الحر بصورته الفردية  .

ولهذا فقد أعطى القرآن الكريم كل الحرية للعقل ليقوم بوظائفه الفكرية دون إملاء أو قيود، وترك له الحرية في اختيار الطريق الذي يصل به إلى الدين الحق، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة 256). بمعنى أن من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا. ([4] ) فكانت هذه دعوة صريحة إلى تحرر العقل الفردي وعدم الإنسياق وراء العقل الجمعي حتى لو كان ناتجا عن الإكراه ،لأن المنتج النهائي التابع للدين في هذه الحالة إنما هو منتج هش يسهل عليه الترك كما سهل عليه الإتباع . فكانت الإشارات القرآنية الراقية للتحرر العقلي عظيمة ودالة في الأمور كلها ومن أجلها تلك الأمور هي أمور الاعتقاد .

أما عن  ورود ذكر  العقل الجمعي في القرآن الكريم  لفظا ومعنى فلم يرد في القرآن الكريم نصا صريحا بلفظة العقل الجمعي او الوعي الجمعي بل أتى المعنى بأكثر من صورة وأشملها ورودا هي لفظة “الملأ ” وقد وردت في عشرين موضع في القرآن الكريم وقد أشتمل لفظ الملأ في ثناياه على نوعي العقل الجمعي المسيطر بخيره وشره ومنها على سبيل المثال:

  • ملأ الخير ومثاله في قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام ” قَالَ یَـٰۤأَیُّهَاٱلۡمَلَؤُا۟ أَیُّكُمۡ یَأۡتِینِی بِعَرۡشِهَا”
  • ملأ معتدل ومثاله في قوله تعالى على لسان ملكة بلقيس قَالَتۡ یَـٰۤأَیُّهَاٱلۡمَلَؤُا۟ أَفۡتُونِی فِیۤ أَمۡرِی
  • ملأ الشر ومثاله في قوله تعالى (قَالَٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِ

وفي مقارنة بسيطة لعدد ذكر خيرية الملأ أو اعتداله او شره فقد ورد ذكر شر الملأ في الآيات العشرين اثني عشر مرة  بين تكذيب وكفر وإيذاء واستكبار وهذا يؤكد سطوة العقل الجمعي وخطورته ومعظمها قد أتى في بني إسرائيل وثنايا قصة الصراع بين موسى و فرعون

ملمح آخر يصف  فيه الله تبارك وتعالى صفات الجمع السيء من الناس في جملة “أكثر الناس” وهو تعبير عن كثرة للناس تشبه الملأ والذي يعني في بعض المعاني له  المعجم الوسيط  “الجماعة ”  وبالبحث في آيات القران الكريم حول عدد ورود جملة  “أكثر الناس” في القرآن الكريم   نجدها قد وردت في عشرين موضعا بلفظ صريح وقد ورد معها أربعة صفات قبيحة  وهي :

  • لا يعلمون وقد وردت في القرآن أحدى عشرة مرة
  • لا يؤمنون وقد وردت في القرآن أربع مرات
  • لا يشكرون وقد وردت في القرآن ثلاث مرات
  • كفورا وقد وردت في القرآن مرتين

وهنا تأكيد على خطورة التجمع على الضلال وخطورة العقل الجمعي وأثره في نسج سحابة من التضليل تحول دون تحرر العقل الفردي ليتجه إلى الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها

المبحث الثاني : نماذج  التحرر من أسر العقل الجمعي في القرآن الكريم  :

إن تركيب العقل الجمعي هو نتاج لقيم وأفكار سائدة تجمع العقول الفردية وتصهر بعضها إلى بعض ليجتمعوا على الإيمان بتلك القيم والأفكار ليتشكل عقل واحد له سماته وتركيبه الخاص والذي يتمايز به عن العقل الفردي ، ولا يخفى على الكل أثر ثقافة القطيع وسطوة الرأي الجمعي ومما يستتبع ذلك من نتائج  .

أن هذه السطوة والثقافة السائدة لدى العقل الجمعي  لهي تخضع إلى معادلة قائمة على التباين  والتمايز بين العقلين “الجمعي والفردي”  وأنه كلما كان هناك تباينا واضحا وتمايزا في الرؤى  بينهما كلما كان ذلك مدعاة للتحرر و الإبداع ،مما يستتبعه سهولة تطبيق التغيير وذلك نتيجة أثر العقل الفردي وتمايزه عن عقل المجموع وعلى العكس من ذلك فإن قل التفاوت وتساوى العقلان “الجمعي والفردي” فإن العقل الجمعي يصاب بالجمود والتكلس ويزداد بذلك درجة التخلف [5]  نظرا لتبعية العقل الفردي له ولنزوات ورؤى وأفكار المجموع بعدما كان يؤمل فيه بأن يحرر المجموع من ريقة التبعية وضلال الإتباع .

وأما فيما يخص ما ورد في القرآن الكريم من أمثلة تؤكد التحرر من ثقافة العقل الجمعي فقد وردت قصصا كثيرة لذلك ومنها :

قصة أصحاب الكهف :

قصة انتصار العقل الفردي على عقل المجموع  حيث رصدت القصة هؤلاء الفتية الذين امنوا وزادهم الله هدى فتمايزوا بعقلهم واعتزلوا  قومهم الذين اتخذوا آلهة من دون الله وقد سيطر على قومهم ضلال العقل الجمعي فلجمهم الكفر إلجاما ، بعدما عطلوا عقولهم وتماهى وتشابه العقل الفردي مع العقل الجمعي لديهم فأصيب الكل بالتخلف والكفر الإ هؤلاء الفتية الذين عابوا على عقل قومهم الجمعي ، وسيطرته  وتعطيله لملكة التفكير وقد وصفوا قومهم كما ورد في القرآن إذ يقول تعالى  ﴿هَـٰۤؤُلَاۤءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةࣰۖ لَّوۡلَا یَأۡتُونَ عَلَیۡهِم بِسُلۡطَـٰنِۭ بَیِّنࣲۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا﴾ ]الكهف ١٥[  وقد عابوا عليهم طريقة التفكير  وتعجبوا من فعلهم وهنا يذكر ابن كثير في تفسيره لمعنى السلطان البين بقوله : أَيْ هَلا أَقَامُ هؤلاء عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا صَحِيحًا؟[6] )  ولكن لأن العقل الفردي قد عٌطٍلَ لحساب المجموع فكان الضلال من القوم هو السائد . وعلى العكس من ذلك كان أمر الفتية إذ يلحظ تمايز لدى عقولهم الفردية عن عقول المجموع ، فكان التحرر والتغيير ورفض الكفر والشرك ولذا كانت النتيجة ﴿وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥۤا۟ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَیُهَیِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقࣰا﴾ ]الكهف ١٦[   هكذا عالج الفتية أثر ضلال العقل الجمعي للقوم الكافرين بأن أعتزلوهم واعتزلوا آلهتهم أيضا وآواوا إلى الكهف مشكلين بذلك وحدة شعورية ناجمة عن تحرر العقل وما كان ذلك إلا للهداية الربانية  والإيمان الراسخ لهذا العقل والذي تحرر و تمايز عن عقل المجموع .

سحرة فرعون :

إن كان مثال فتية الكهف السابق هو  نتاج تحرر عقلي عن عقل المجموع من أول لحظة للتمرد الفردي عن ثقافة القطيع إلا أن ثمة نموذجا آخر قد سار مسيرة القطيع لفترة وقد تطابق معا في هذه الفترة “العقل الجمعي والفردي ” فلم يلحظ تمايز ولا تباين بينهما ، ولكن لما تحررت عقولهم فجأة أعلنوا الرفض التام لكفر المجموع وكان إعلانا على الملأ رفعة لموسى وأخيه وإذلالا لفرعون وحاشيته فيصف ربنا تبارك وتعالى الموقف بقوله ﴿قَالُوا۟ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاۤءَنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلَّذِی فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَاۤ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَاۤ (٧٢) إِنَّاۤ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِیَغۡفِرَ لَنَا خَطَـٰیَـٰنَا وَمَاۤ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَیۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰۤ (٧٣)﴾[طه ٧٢-٧٣]

هؤلاء السحرة الذين عاشوا سنين تحت سيطرة العقل الجمعي وضلال سطوته وقد تماشت عقولهم الفردية  وتناغمت مع العقل الجمعي دون تمايز فعاشوا في ظل  ما عاش به المجموع  ولما سنحت لهم الفرصة ورأوا الآيات البينات التي جاء بها موسى  ، تم تشغيل ما عطل من العقل الفردي نظرا لقوة الآيات فقالوا “فاقض ما أنت قاض” وقد صرخ فيهم فرعون معلنا رفضه التام لتحرر عقولهم فقال ﴿آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم﴾ أي أن خروجكم عن العقل الجمعي دون إذن مني لهي عقوبة تستوجب القتل وتقطيع أطرافكم من خلاف ، وما كان فرعون ليقدم على هذا إلا لعلمه الشديد بأثر هؤلاء على ثقافة المجموع وهذا أشد ما يخشاه فرعون .وفي هذا المثال الرائع لسحرة فرعون نجد تباين العقل الفردي عن عقل المجموع  نتيجة رؤية الآيات بعد إعادة تشغيل آلات التفكير الفردي التي كانت معطلة.

لم تكن قصة سحرة فرعون هي الوحيدة في سلسلة الصراع بين موسى وفرعون والدالة على  التمايز و التباين بين العقل الفردي الرافض للإنقياد وراء الجمع ،  بل أيضا  هناك قصة ماشطة بنت فرعون والتي كانت معالجتها للتمايز مختلفة فكانت تكتم إيمانها وقد صبغته بعقل فردي ذكي متمايزا في الخفاء خشية البطش والتنكيل  ولما شكل التمايز لها مسارا  للبلاء صبرت  ،فعن عبدالله بن عباس مرَرْتُ ليلةَ أُسري بي برائحةٍ طيِّبةٍ فقُلْتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ ) فقال: هذه ماشطةُ بنتِ فرعونَ كانت تمشِّطُها فوقَع المُشطُ مِن يدِها فقالت: بسمِ اللهِ فقالت بنتُ فرعونَ: أبي؟ قالت: ربِّي وربُّ أبيك قالت: أقولُ له؟ قالت: قولي فقالت فقال لها: ألكِ مِن ربٍّ غيري؟ قالت: ربِّي وربُّك الَّذي في السَّماءِ في قصة فرعون موسى …………..[7]  ولذا  أعطاها الله تعالى هذه الدرجة العالية نتاج الصبر على البلاء والإيمان الراسخ والنابع من قلب وعقل ذكي قد خالف المجموع فأصبح مؤمنا خالصا.

وكما وردت أمثلة عديدة في القران شكلت السنة أيضا نموذجا مؤكدا للمعالجة الحكيمة  في إشكاليات العقل الجمعي

ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح بن حبان    ( يا ويح قريشٍ لقد أكلتهم الحربُ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائرِ العربِ. ………..)[8]  وهنا نجد طلب النبي بالتخلية بينه وبين العرب ليوصل لهم رسالته هذا الطلب يوحي بتأثير قريش في الصد عن سبيل الحق والإيمان بكافة الطرق ومنها طريق القوة والإبعاد والمحاربة وقد يكون أيضا تأثيرا جمعيا بالتفكير وإثارة الدسائس والفتن والشائعات حول النبي وأصحابه من خلال تعبئة عامة سلكتها قريش   فقد كان الوافدون من كافة الجزيرة العربية للبيت الحرام ، يتأثرون بدعوته، ناقلين خبره إلى مناطقهم  فكان ينتشر بذلك اسم محمد رسولا لله ومثل ذلك هزيمة شعورية لقريش ووثنيتها . لذلك فكّر المشركون منذ بدأ النبي صلى الله عليه وسلم  يتواصل مع الوفود لمكة  في المواسم والمناسبات، يدعوها إلى الإسلام، في تنظيم حملتهم الدعائية وفي تعبئتهم العامة للمجموع  حتى تطال شخص النبي ورسالته.

نتائج البحث :

  • حرص الإسلام على منهجية التفكير الحر وإبعاد المؤثرات
  • تنوع أساليب تحرر العقل في القرآن الكريم
  • مراجعة ومعالجة القرآن الكريم لإشكاليات ثقافة المجموع
  • تعدد الأمثلة في القرآن الكريم الدالة على نواتج تحرر العقل .

الخاتمة

وبعد ما تقدم فإن الإسلام قد عظم من شأن التحرر والنظر العقلي وإعمال الفكر وعدم الإكراه حتى في الإعتقاد بعيدا عن ثقافة القطيع والمجموع  واعتبره مؤديا إلى نتائج قويمة كونه يجعل العقل يسبح في سماء التفكر والمقارنات فيهتدي إلى النور المبين ، فكلما كان العقل حرا طليقا دون قيود المجموع كلما فتحت له آفاق رحبة للوصول الى الإيمان بالله تعالى كما بينت الأمثلة في القرآن الكريم والسنة المطهرة .

[1] مسند الامام احمد بن حنبل ،أبو عبد الله احمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ج14/233 رقم الحديث 8562 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ،1421

[2] الدين بحوث ممهدة لدراسة الأديان، محمد عبد الله  دراز ، 233 ،  وكالة الصحافة العربية، القاهرة ، 2018

[3]  تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري ،ج/11 ص 137، سورة المائد 104  دار التربية والتراث ،مكة، 1431

[4] آيات العقل في القرآن الكريم ، محمد عطا مدني، جريدة اخبار الخليج ،3/11/2017

[5] تكوين الفكر،عبد الكريم بكار ، ص 61، دار السلام ، القاهرة ، 2010

[6] تفسير القران العظيم ، ابو الفدا اسماعيل بن كثير، تحقيق سامي محمد سلامة، ج5/141 ، دار طيبة للطباعة والنشر ، القاهرة، 1420

[7]  صحيح بن حبان ، محمد بن حبان الدارمي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، كتاب الجنائز،ج7/164،رقم الحديث 2904، مؤسسة الرسالة ،بيروت ،1408

[8] البداية والنهاية، ابو الفداء اسماعيل بن كثير ، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي ، ج6 /208 ، دار هجر للطباعة ،القاهرة ،  1424

 

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=69383

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M