محمد صبرى
أصبح التضخم هو الشغل الشاغل الذي يواجه معظم دول العالم؛ إذ يتسبب في تآكل ثروات الأفراد والدول، ما دفع العديد من دول العالم إلى تفضيل مواجهة التضخم حتى لو كان على حساب النمو الاقتصادي. كان العالم يعاني من حالة من التضخم بفعل ما يسمى بالدورة الفائقة للسلع والأزمات التي مر بها العالم والتي تتمثل في أزمتي جائحة كورونا وسلاسل التوريد، لكن الحرب الروسية الأوكرانية أتت لتقضي على أمل التعافي للاقتصاد العالمي، لتسلك مسارًا آخر يمكن تسميته بالكساد التضخمي، فسيعاني العالم من حالة التضخم في الوقت نفسه الذي يعاني فيه من حالة انكماش اقتصادي.
بالنسبة لمصر، انخفضت نسبة التضخم السنوي في بداية عام 2018 بفعل عدد من العوامل؛ أولها أن سنه الأساس التي تم احتساب معدل التضخم عليه (العام 2017) كان قد شهد موجة تضخمية كبيرة في مصر كأحد الآثار المترتبة على تطبيق قرار إصلاح منظومة سعر الصرف والذي كان جزءًا ضروريًا من برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، لكن حسن إدارة الدولة المصرية لمواردها من النقد الأجنبي آن ذاك والتي تتمثل في: تحويلات المصريين العاملين بالخارج، والأموال الساخنة، وصادرات مصر البترولية وغير البترولية؛ مكنها من الحفاظ على استقرار أسعار الصرف. هذا إلى جانب توسع الدولة في المشروعات القومية الأساسية التي تسهم في زيادة جانب العرض بالاقتصاد، وهو ما كان له أثر إيجابي على استقرار الأسعار، ومن ثم استقرار معدلات التضخم لتصل نسبة التضخم إلى أقل معدل لها في أواخر عام 2019، إلى أن أصيب العالم بجائحة كورونا، كما يُبين الشكل الآتي:
الشكل 1- معدل التضخم منذ عام 2016
لكن أزمة كوفيد -19 والتي تفجرت عالميا بالتحديد في مارس من عام 2020 تسببت في انخفاض في نسبة الناتج المحلي الإجمالي لمصر خلال الربع الرابع من السنة المالية 2019/2020، مقارنة بالربع نفسه في 2018/2019. وهو ما استدعى التدخل العاجل من جانب الدولة لتطبيق برنامج إنفاق اجتماعي قُدّر بقيمة 100 مليار جنيه، تخصص منها 20 مليار جنيه للأسواق والباقي يخصص لدعم القطاعات وفقًا لاحتياجاتها. بدون تلك الحزمة كان الناتج المحلي الإجمالي في الربع الرابع من نفس العام سينخفض بنسبة 8.7 في المئة.
لكن تلك الحزمة التحفيزية مكّنت الناتج المحلي الإجمالي من النمو بمعدل قدره 3.6 في المئة للسنة المالية 2019/20، خاصة وأن انتشار المرض أدى إلى الإغلاق الكامل لكل الأنشطة في جميع أنحاء العالم، وانخفضت التجارة العالمية وانخفض إجمالي الناتج المحلي، ما أدى إلى ارتفاع المعدل السنوي للتضخم بدرجة طفيفة إلى 7.2٪ في يناير 2020 من 7.1٪ في ديسمبر 2019، حيث سجل التضخم الشهري معدلًا بلغ 0.7٪ في يناير 2020، مقابل معدلا بلغ 0.6٪ في يناير 2019. ويرجع التضخم العام الشهري إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية بدرجة أكبر من ارتفاع أسعار السلع غير الغذائية.
وفي بداية سنة 2022، اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وكانت كلتا الدولتين من أكبر المصدرين للعالم كله من منتجات الطاقة والغذاء وغيرها من المنتجات المهمة، وبعد بداية الحرب انخفضت تجارتهما مع العالم بسبب خوف الدول من خطر الحرب، وبعد عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على روسيا ارتفعت أسعار الطاقة في العالم كله، خصوصًا بعد زيادة الطلب في العالم بشكل استثنائي، وانخفاض العرض بشكل كبير، فبالتالي ارتفع التضخم في العالم بشكل كبير جدًا.
وارتفع معدل التضـخم السنوي لإجمالي محافظات الجمهورية إلى 14.6% في شهر أغسطس 2022 من 6.4% لنفس الشهـر من 2021 ومرتفعا بنسبة 1% مقارنة بشهر يوليو السابق، وأن هذه الزيادة جاءت بسبب ارتفاع أسعار الخضروات والحبوب والخبز الدخان والسلع والخدمات المستخدمة في صيانة المنزل وخدمات النقل، في حين انخفضت أسعار الفاكهة واللحوم والدواجن. ويعود ارتفاع معدلات التضخم في جزء منه إلى أن عمليات الاستيراد متوقفة منذ نحو 6 أشهر؛ بسبب قرارات البنك المركزي السابقة، والتي بدأ تجاوزها نوعًا ما.
وشهد الرقم القياسي ثباتًا في أسعار قسم الطعام والمشروبات بالرغم من ارتفاع أسعار مجموعة الخضروات بنسبة 12.5%، وأسعار مجموعة الحبوب والخبز بنسبة 3.3%، وأسعار مجموعة منتجات غذائية أخرى بنسبة 2.5%، ومجموعة المياه المعدنية والغازية والعصائر الطبيعية بنسبة 1.6%، ومجموعة السكر والأغذية السكرية بنسبة 1.0%، ومجموعة البن والشاي والكاكاو بنسبة 0.7%، وارتفاع أسعار مجموعة الزيوت والدهون بنسبة 0.6%..
وفي المقابل انخفضت أسعار مجموعة الفاكهة بنسبة 8.3%، ومجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 5.0%، ومجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 1.0%، وشمل الارتفاع قسم الرعاية الصحية بنسبة 0.6%، وقسم النقل والمواصلات بنسبة 1.6%، وقسم الثقافة والترفيه بنسبة 1.7%، وقسم المطاعم والفنادق بنسبة 1.2%، وقسم السلع والخدمات المتنوعة بنسبة 1.0%.
وزاد المعدل السنوي للتضخم العام في مصر في الحضر ليسجل 15٪ في سبتمبر 2022 من معدل بلغ 14.6٪ في أغسطس 2022، ويأتي ذلك مدفوعًا بارتفاع أسعار السلع غير الغذائية، ليستمر في كونه السبب الرئيس المؤثر في معدلات التضخم منذ مايو 2022. وقد سجل التضخم العام معدلًا شهريًا بلغ 1.6٪ في سبتمبر 2022، مقارنة بمعدل بلغ 1.1٪ في سبتمبر 2021، وجاء المعدل الشهري للتضخم العام في الحضر في شهر سبتمبر 2022 مدفوعًا بارتفاع أسعار السلع الأساسية، نتيجة ارتفاع أسعار كل من السلع الغذائية الأساسية والسلع الاستهلاكية والخدمات.
ويأتي ذلك متسقًا مع بداية الأثر الموسمي للعام الدراسي الجديد الذي سيمتد أثره إلى الشهر المقبل، من بين عوامل أخرى. وكذلك عكس ارتفاع أسعار السلع والخدمات المحددة إداريا بشكل أساسي ارتفاع أسعار كل من السجائر، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الأرز المدعم.
ويرجع ارتفاع المعدل السنوي للتضخم العام للحضر في شهر سبتمبر2022 إلى ارتفاع المساهمة السنوية للسلع غير الغذائية، فارتفع المعدل السنوي لتضخم السلع غير الغذائية للشهر الحادي عشر على التوالي ليسجل 12٪ في سبتمبر 2022 من 10.8٪ في أغسطس، وهو أعلى معدل له منذ مايو 2019، في حين انخفض المعدل السنوي لتضخم السلع الغذائية ليسجل 21.7٪ في سبتمبر 2022 من 23.1٪ في أغسطس 2022، كما يتبين تاليًا:
الشكل 2- معدل التضخم شهريًا (%)
التضخم وسعر الصرف
هناك علاقة مباشرة بين سعر الصرف ومعدل التضخم؛ إذ إن تطور المنظومة الصناعية عالميًا جعل من المستحيل تقريبًا أن تعمل دولة بمعزل عن باقي دول العالم، فمعاملات الدولة مع الجهات الخارجية يعد أساسها سعر الصرف، ولتغير سعر الصرف أثر مباشر على التضخم، لكن ذلك التأثير يتفاوت وفقًا لدرجة تعرض ذلك المنتج للعملات الأجنبية؛ فعلى سبيل المثال فإن السلع المستوردة تامة الصنع تتأثر بنسبة 100% بمعدل التضخم في البلاد.
ولمعرفه أثر قرار إعادة تصحيح سعر الصرف على معدل التضخم يمكن النظر إلى ما حدث في مصر في الفترة من نوفمبر 2016 وحتى منتصف عام 2018 تقريبًا حين اتخذت مصر قرارًا بتحرير سعر صرف العملة في إطار تطبيقها لبرنامج الإصلاح الاقتصادي خلال الفترة من عام 2016 وحتى عام 2019، انخفض سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار من مستوى 8.0 جنيهات تقريبًا ليصل إلى مستوي 18.70 جنيه تقريبًا قبل ان يعاود الاستقرار عند مستوى 15.7، فتأثر التضخم بشكل كبير، حيث ارتفع إلى مستويات تقترب من 35% تقريبًا واستمر ذلك المعدل في الارتفاع خلال عام 2017 قبل أن يعاود الانخفاض بداية من النصف الثاني من عام 2018.
الشكل 3- العلاقة بين معدل التضخم وسعر الصرف
استطاعت الحكومة المصرية من خلال المشاريع والجهود المبذولة لانتعاش الاقتصاد أن تخفض وتثبت سعر الصرف من عام 2017 وحتى اليوم، وبهذا فقد تم التحكم في معدل التضخم والحفاظ على مستوى الأسعار في مصر. وعليه تجدر الإشارة إلى أن لإعادة تسعير سعر الصرف أثر مباشر على معدل التضخم الاقتصادي؛ ففي حال تغير في سعر الصرف سيزداد التضخم، لكن مع قدرة الدولة المصري على النمو الاقتصادي والاستمرار في المشاريع القائمة سينخفض معدل التضخم مرة أخرى في السنوات اللاحقة وسيتلاشى الأثر.
.
رابط المصدر: