معركة “طرابلس” 2022.. خلفية وأسباب الاشتباكات الليبية في قلب العاصمة

حسين عبد الراضي

 

سرعان ما تحولت شوارع العاصمة الليبية طرابلس إلى ميدان مواجهة واحتراب بين المجموعات المسلحة والمليشيات التي تحتفظ بنفوذ مُركب (سياسي/عسكري) واسع النطاق في المنطقة الغربية، وحيث كانت تؤشر كافة المعطيات إلى قُرب اندلاع تلك المواجهات، إلا أن توقيت اشتعالها لم يكن مُقدرًا له أن يحدث بتلك الوتيرة المتسارعة، والتي تؤكد أن الجميع كانوا يترقبون الشرارة الأولى لإطلاق العنان لمنهجية الحسم المسلح للصراع الراهن على السلطة والنفوذ والثروة.

مواجهات ضارية

بدأت المواجهات فجر السبت الماضي، 27 أغسطس 2022، حينما تقدم رتل عسكري يتبع “قوات الأمن العام” بقيادة “عماد الطرابلسي”، الموالي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية “عبدالحميد الدبيبة”، تجاه ارتكاز لـ”الكتيبة 92” في شارع الزاوية وسط طرابلس، التي تتبع “اللواء 777 قتال” بقيادة “هيثم التاجوري”، الموالي لرئيس حكومة الاستقرار الوطني “فتحي باشاغا”، ثم دخلت قوات “جهاز دعم الاستقرار” التابعة لعبد الغني الككلي، الموالية أيضًا للدبيبة، على خط المواجهات في صف قوات الطرابلسي، واقتحمت معسكر “77” الخاضع للتاجوري، وهو ما تبعه انضمام “كتيبة النواصي” بقيادة “مصطفى قدور” بالقتال لمساندة جبهة “هيثم التاجوري” ضد قوة “دعم الاستقرار”.

ونجحت قوات “جهاز دعم الاستقرار” في السيطرة على معسكر “77”، وشنت قوات التاجوري “هجومًا مضادًا” واستعادت سيطرتها على المعسكر، ثم استولت على مقر “جهاز الأمن الداخلي” بقيادة “لطفي الحراري” التابع لـ”الككلي”، وامتدت الاشتباكات لاحقًا في كافة اتجاهات طرابلس. ففي شرق العاصمة، انطلقت أرتال مسلحة موالية لحكومة الاستقرار الوطني بقيادة “سالم الجحا” من مدينة “مصراتة” لدعم قوات “هيثم التاجوري”، ورغم محاولة الدبيبة استباق التطورات المتسارعة بإعلان إغلاق بوابة كعام الواصلة بين مصراتة وطرابلس، إلا أن القوات تقدمت عبر مدينة زليتن ثم طرابلس.

وجنوبًا، تقدمت قوات تابعة لقائد الاستخبارات العسكرية المُقال “أسامة الجويلي”، وتمكنت من إحكام سيطرتها على مطار طرابلس الدولي ومحيطه، بعد انسحاب مليشيات غنيوة الككلي نحو مناطق بوسليم وسط العاصمة. وفي الاتجاه الغربي، نجحت قوات باشاغا في السيطرة على بوابة (17)، ثم تقدمت مجموعات موالية للدبيبة لاستعادة البوابة مرة أخرى، وهي مجموعات “اللواء 52 مشاة الزاوية” و”فرسان جنزور”. وبالفعل، نجحت في وقف تقدم القوات الموالية للدبيبة، وهي كتائب معمر الضاوي وعلي بوزريبة، واستمرت الاشتباكات بين الجانبين لفترة طويلة.

كما تقدمت قوات أسامة الجويلي بذات المحور نحو منطقة السواني في “كوبري الجبس”، سعيًا لإحكام السيطرة عليها بعد انتهاء المواجهات مع قوات كتيبة 301 واللواء 111 المواليان للدبيبة، وأعلنت غرفة العمليات المشتركة التابعة لحكومة الوحدة عن استهداف 4 آليات عسكرية تابعة لقوات جويلي بالطيران المسير عند مفترق بوابة الجبس بالعاصمة. فيما قامت كتيبة “فرسان جنزور” بإغلاق الطريق الساحلي قرب منطقة صياد غرب طرابلس بالسواتر الترابية، وهو ذات التكتيك الدفاعي الذي حاولت المليشيات الموالية للدبيبة تنفيذه في المحور الشرقي للعاصمة.

وترددت أنباء عن دخول الكتيبة (444)، بقيادة محمود حمزة، لفض الاشتباكات المسلحة في العاصمة، إلا أنها سرعان ما كثفت قصفها لمواقع “غنيوة الككلي”، وشرعت في فرض السيطرة على مقراته. وكشفت تقارير عن إعلان “أكرم حمودة” القيادي في “قوة حماية الدستور”، الداعمة للدبيبة، انسحابه بكامل قواته من طرابلس والرجوع إلى مدينة مصراتة، وعدم المشاركة في المواجهات العسكرية. وخلفت المواجهات حتى الآن نحو (32) قتيلاً، بالإضافة لأكثر من (159) مصابًا.

وبذلك، تُعد الجولة الراهنة من الاقتتال بين المجموعات والكتائب المسلحة في طرابلس أعنف الجولات الصراعية منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر2020)، ودليلًا واضحًا على أن الانسداد الراهن بمسارات التسوية، لا سيما في شقه المتعلق بالسلطة التنفيذية والدستور، يفتح الباب على مصراعيه لتوظيف البنادق لتحقيق نفوذ إضافي يعزز من أوراق المتنافسين على السلطة، بل وربما يكون الخيار الأمثل للقوى التي تستشعر أن أية ترتيبات مستقبلية، سواء باتفاقات أو انتخابات، لاستخدامه بوجه من يمكن أن يحيدها عن المشهد الليبي.

تراكمات ضاغطة

تشير متابعات ومجريات الحالة الليبية بالعام الماضي إلى أن ما جرى في طرابلس لم يكن وليد التطورات الأخيرة، بل نجم عن تراكم الإشكاليات التي هيأت المشهد لدخول البلاد في نسخة جديدة من المواجهات المسلحة، وهو ما يعود الأساس لمجموعة من العوامل:

أولًا- إثبات الوجود: يعزز الاقتتال واسع النطاق بأحياء العاصمة، وما زامنه من تحشيدات واصطفافات سريعة، داخل طرابلس وخارجها، من الطرح القائل بأن لدى كافة التشكيلات المسلحة الفاعلة بالمنطقة الغربية رغبة راسخة في إعادة تغيير المشهد الميداني القائم، فمنهم من يرى أن انشغاله بمحاربة الجيش الوطني قبل عامين أتاح المجال لتمركز مجموعات أخرى بمناطق نفوذه، أو أن قادة بعض المجموعات المسلحة نجحت في تقديم أنفسها لمسئولي إدارة العمليات الأتراك -بذلك الوقت- بشكل مكّنهم من حصد نفوذ وجني مكتسبات أكثر منها، وينطبق ذلك أيضًا على المجموعات الأكثر قُربًا من رئيس حكومة الوحدة الوطنية بالوقت الراهن. وهو في مُجمله ما يجعل الرغبة في إعادة ترسيم خطوط النفوذ والتماس أكثر حتمية عما قبل، وكونها مجموعات مسلحة فلا سبيل لتحقيق رؤيتها إلى من خلال شن معارك محدودة بمفردها أو صياغة تحالفات واتخاذ إجراءات أكثر تأثيرًا وخطورة.

ثانيًا- استدامة الدور: يرتبط العنف الدائر بين التشكيلات والكتائب المسلحة بالمنطقة الغربية، والآخذ في التصاعد بصورة ملحوظة ووتيرة مستمرة، بحقيقة أن تلك المجموعات تشكلت كنتاج حالة من الاقتتال وعدم الاستقرار، لذلك فهي تنمو وتزدهر في مثل هكذا أوقات، ولكن مع حالة “انتفاء التهديد المباشر” تستشعر جميعها خطورة إنهاء وجودها وإمكانية تحييدها عن المشهد. وبعد عامين من وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020)، وتركيز الجيش الوطني على تحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب في المنطقتين الشرقية والغربية، تتزايد مخاوف المليشيات والمجموعات المسلحة على وجودها، وخاصة مع التأييد الواسع -دولي وإقليمي ومحلي- لجهود اللجنة العسكرية (5+5)، وما يتصل بذلك من إمكانية تحقيق تقدم بملف دمج وتسريح العناصر المسلحة بتلك المجموعات. وهو ما يجعلها تذهب لخطوة التصعيد ضد بعضها بعضاً؛ لتقويض الاستقرار السائد وإثبات وجودها، بالإضافة للتلويح بعدم التزامها بما تقره السلطات والأطراف المنخرطة بالمسار العسكري في بعض الأمور، ناهيك عن توسيع نطاق سيطرتها ونفوذها على حساب التشكيلات المنافسة لها؛ لتصبح رقمًا يصعب تجاوزه بالترتيبات الجارية.

ثالثًا- تنافسية الحكومات: لا ينفصل اندلاع المعارك الأخيرة عن حالة التعقيد والتنافس الجاري بين حكومتي “الدبيبة” و”باشاغا” على السلطة؛ فكلاهما راغب في إزاحة الآخر عن رئاسة الحكومة، وأن يضمن الاستمرار على رأس السلطة التنفيذية، ويبدو أن فكرة وجود حكومتين متوازيتين غير مُدرجة في خياراتهما. ويبرهن على ذلك، تأكيد حكومة الاستقرار على أنها ستمارس مهامها من طرابلس في أكثر من مناسبة، رغم إعلان “باشاغا” أنه سيقود حكومته من سرت في أعقاب دخوله طرابلس وخروجه منها سريعًا. كما اتخذ “الدبيبة” حزمة من الإجراءات المتتالية -عقب دخول باشاغا العاصمة أول مرة- لضمانة تحييد المجموعات المسلحة التي توالي الأخير، كان أبرزها إقالة “أسامة الجويلي” منذ منصبه، ومؤخرًا إعلان حكومة الوحدة نشر مجموعات لها في الطوق الجنوبي للعاصمة، الخميس الموافق 25 أغسطس 2022، معللة ذلك بتأمين العاصمة من هجوم وشيك للقوات الموالية لباشاغا.

وفي الختام، يُمكن القول إن معركة العاصمة “طرابلس” الأخيرة، 27 أغسطس 2022، جاءت كاشفة للتداعيات المُحتملة لحالة الانسداد السياسي والتحشيدات الميدانية الراهنة، ولن تتجاوز ليبيا مخاطر الارتداد إلى سيناريو المواجهات المسلحة طالما بقيت الأطراف المتنافسة على السلطة والنفوذ على ذات النمط الذي تتبناه للتعامل مع بعضها بعضًا، وحتى إذا ما جرى اختراق الإشكاليات الدستورية والتنفيذية -وهو أمر بالغ التعقيد- فستظل المجموعات والتشكيلات المسلحة عقبة رئيسية في سبيل تحقيق انتقال سياسي سلسل، مما يستدعي تحريك المسارات الأخرى للتسوية، العسكري والمؤسساتي والاقتصادي، لتمهيد المجال الليبي لاستيعاب تلك الإشكاليات وتجاوزها، بشكل يضمن مستقبلًا تحييد الفواعل غير النظاميين عن تقويض المنجزات التي ربما تحققها الأطراف المعنية بعملية التسوية فيما هو قادم.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20770/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M