معضلة تغير المناخ في العالم

عبد الستار حتيتة

 

في أحد الأيام، حيث كان ينبغي أن تهطل الأمطار على الوادي الواقع جنوب غرب العاصمة جيبوتي، توقفت السيارة أعلى الجسر. وبدا الوادي تحته جافًا. وعلى أرض الوادي المتشققة من العطش كان هناك فقراء يرعون ما تبقى لهم من أغنام. وكان هناك متسولون أيضًا قادمون من مناطق صراعات في دول مجاورة.

ومأساة جفاف الوديان في كثير من البلدان الأفريقية والآسيوية لم تكن موجودة بهذا الشكل المقلق من قبل. إن ارتفاع درجة حرارة الأرض وتغير المناخ، يضرب العديد من المجتمعات حول العالم، رغم أن المسؤول الأول عن هذا الأمر هو الدول الصناعية الكبرى.

ويقول المرافق الجيبوتي وهو يشير بإصبعه إلى بطن الوادي الجاف: تأتي المياه فجأة وتختفي فجأة دون أن يتمكن المزارعون من الاستفادة منها. وأول ما يتبادر إلى ذهنك هو البحث عن وسيلة لإدارة موارد المياه الضرورية للزراعة. لكن هذا يتطلب تمويلًا ماليًا ضخمًا. لقد كشفت جولات قمتُ بها في بلدان عدة أن معاناة التغير المناخي تضرب الملايين في مناطق مختلفة من العالم في صمت.

ومن كلمته في قمة المناخ، قبل ساعات، يمكنك أن تستشعر أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يكن مهمومًا بتغير الظروف المناخية وتأثيرها على الشعوب الأفريقية فقط، بل تجد في كلمته حثًا للدول الكبرى على القيام بمسؤولياتها تجاه جميع دول العالم التي تعاني من تداعيات الاحتباس الحراري.

وانطلقت قمة الأمم المتحدة للتغيرات المناخية في جلاسكو يوم الاثنين الأول من نوفمبر 2021، بمشاركة زعماء من دول مختلفة، من بينهم السيسي، إذ من المقرر أن تنعقد قمة المناخ المقبلة في مصر في مثل هذا الوقت من عام 2022. وعبَّر السيسي في قمة جلاسكو عن شعور دول العالم النامي بالقلق إزاء الفجوة بين التمويل المتاح وحجم الاحتياجات الفعلية لهذه الدول لكي تواجه التغير المناخي.

ويشير برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن تغير المناخ يشكل تهديدًا للقارة السمراء ولسبل كسب العيش للسكان الضعفاء، ويقول إن تغير المناخ في القارة سيؤدي إلى خسارة سنوية تتراوح بين 2% و4% في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2040. وتضيف الأمم المتحدة أن الظواهر المناخية القاسية تضرب القارة، رغم أن مسؤوليتها عن ظاهرة الاحتباس الحراري تمثل أقل من 4% من الانبعاثات العالمية.  وتتناول تقارير أممية أخرى حال التغير المناخي في آسيا أيضًا؛ إذ تعد الهند ثالث دولة في العالم مسؤولة عن الاحتباس الحراري بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

كوارث مناخية

منذ نحو عامين ضربت فيضانات ولاية “كيرالا”، وهبَّ إعصار فاني القوي على الهند. وتحدثت عن هذا الموضوع مع ياسر أحمد، الشريك والقيادي في برنامج خدمات الاستدامة والاستشارات التجارية المسؤولة (pwc) في الهند، وأجاب بمرارة، عما تركته هذه الفيضانات وهذا والإعصار من دمار في بلاده. لقد خرّب الإعصار كثيرًا من المباني واقتلع أشجارًا وقطع خطوط كهرباء وتسبب في تشريد مئات الآلاف من المواطنين.

ويقول ياسر أحمد إن بيانات السنوات العشر الماضية تُظهر مدى تأثير الكوارث المناخية الحادة من حيث الخسائر في الأرواح والممتلكات من جراء الكوارث الطبيعية المتكررة.. “المشكلة لا تتعلق بغزارة الأمطار القاتلة، ولكنها تتعلق كذلك بشح الأمطار في أوقات أخرى. فالفيضانات تقتل الزرع، مثلها مثل الجفاف”.

وفي قمة جلاسكو يوم الاثنين طالب قادة العالم وخبراء البيئة ونشطاء باتخاذ إجراءات حاسمة لوقف ظاهرة الاحتباس الحراري. فمجموعة الدول الصناعية الكبرى مسؤولة عن حوالي 80٪ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري الذي يعد السبب الرئيس لموجات الحر والجفاف والفيضانات والعواصف التي تتزايد حدتها في جميع أنحاء العالم.

ومن المتوقع أن تشهد قمة المناخ في مصر العام المقبل حضورًا دوليا كبيرًا لوضع أسس للتعاون والاستفادة من الخبرات، كون القضية لا تخص دولة بعينها بل تعني الجميع لإنقاذ كوكب الأرض والأجيال المقبلة. واستعرض الرئيس السيسي في قمة جلاسكو التجربة المصرية، مشيرًا إلى أن بلاده بادرت باتخاذ خطوات جادة لتطبيق نموذج تنموي مستدام، وأن تغير المناخ والتكيف مع آثاره يأتي في القلب منه، ويهدف إلى الوصول بنسبة المشروعات الخضراء الممولة حكوميًا إلى 50% بحلول 2025 و100% بحلول 2030.

ارتفاع حرارة الأرض

في قرية سيلانا، بمنطقة أودايبور، في راجستان في شمال غرب الهند، كان الوقت مبكرًا والشمس حارة. وتحت ظل سقيفة، وفوق فراش من القماش، يجلس سيد إيشاقي فرحان، البالغ من العمر 30 عامًا، ويشغل موقع مدير سياسات وأبحاث تغير المناخ في منظمة “التنمية البديلة” في الهند، لكي يشرح لبضعة مزارعين في القرية طرقًا جديدة للتغلب على جفاف الأرض بفعل تغير المناخ. يقول “فرحان” إن التغير في المناخ يؤثر على سكان الريف منذ عدة سنوات. وتقوم السيول بجرف التربة وتخريب المزارع.

وطرحت أسئلة على رانجا باندا، المنظم في شبكة مكافحة تغير المناخ في الهند، فقال إن بلاده في الوقت الحاضر ربما تمر بأحد أسوأ موجات الحر وندرة المياه في تاريخها. ومن بين المدن العشر الأكثر تلوثًا في العالم توجد سبع مدن في الهند.

ويجري التعامل بجدية مع قضية التغير المناخي منذ ما يعرف باتفاق باريس حول هذه الإشكالية في عام 2015. لهذا سوف تجد من بين المبادرات، توسع الدول في زراعة الأشجار التي تمتص ثاني أكسيد الكربون، في محاولة لخفض درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية بالمقارنة مع ما كانت عليه حرارة الأرض قبل حقبة الثورة الصناعية.

تجارب دولية

ويجتهد متطوعون من قرى في آسيا وفي أفريقيا لتبادل الخبرات والتجارب في هذا الاتجاه. ومثل منظمة “فرحان (التنمية البديلة)” في الهند، توجد مئات المنظمات الأخرى المتخصصة في دراسة أوضاع المزارعين الذين يتأثرون سلبًا بموجة المناخ القاسي.

وعلى هامش قمة جلاسكو تبحث الهند والمملكة المتحدة مشروعًا يهدف إلى إنشاء شبكة طاقة شمسية تربط البلدان في أجزاء مختلفة من العالم، تحت اسم “مبادرة الشبكات الخضراء”. وسوف يتم استكمال متابعة هذا المشروع في القمة التالية بمصر. ومن المتوقع أن تنضم إليه عديد الدول. فقد كان المشروع بدأ أولًا بين الهند وفرنسا منذ 2015، وأوجد نوعًا من الزخم العالمي بالتحول إلى الطاقة النظيفة والحد من الانبعاثات الحرارية.

وخلال مشاركته في قمة جلاسكو، شدد الرئيس السيسي بوصفه ممثلًا للقارة الأفريقية، على ضرورة تكاتف الدول للحد من التلوث حول العالم. وقال عن التجربة المصرية إن مصادر الطاقة المتجددة، اليوم، على سبيل المثال، تمثل نحو 20% من مزيج الطاقة في مصر، و”نعمل على وصولها إلى 42% بحلول 2035″، وذلك بالتزامن مع ترشيد دعم الطاقة، والعمل على التحول إلى النقل النظيف من خلال التوسع في شبكات المترو والقطارات والسيارات الكهربائية وتجهيز البنية التحتية اللازمة لذلك.

وتطرق الرئيس المصري إلى تفاصيل عدة تصلح للاقتداء بها في كثير من دول العالم لمواجهة التغير المناخي، منها “إنشاء المدن الذكية والمستدامة”، و”مشروعات لترشيد استخدامات المياه وتبطين الترع، والإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية”. وقال إنه لتمويل تلك المشروعات، أصدرت مصر مؤخرًا الطرح الأول للسندات الخضراء بقيمة 750 مليون دولار.

وقبل سنة من انعقاد قمة المناخ في مصر لا بد من معرفة أن الدولة المصرية انتهت من إعداد الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050، والتي ستفتح الطريق أمام تحديث مصر لمساهماتها المحددة وطنيًا، بحيث تكون السياسات والأهداف والإجراءات المتضمنة بهذه المساهمات مكملة لجهود الدولة التنموية.

وتنقسم قضية المناخ العالمي إلى شقين رئيسين؛ الأول خاص بالدول الصناعية المعنية بالانبعاثات الخاصة بالصناعات الكبيرة، والتي أدت إلى زيادة حرارة كوكب الأرض وظاهرة الاحتباس الحراري. والثاني يتعلق بمعاناة الدول النامية من تداعيات التغيرات المناخية وسبل مواجهتها.

تنامي الوعي الحكومي

على سبيل المثال، يقدر البنك الدولي كلفة تلوث الهواء على الهند بما يعادل 8.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وهي نسبة كبيرة. ويمكن أن تلمس، بطريقة ما، في الهند، كما في مصر وبعض الدول الأخرى، وعيًا حكوميًا بأهمية الاستعانة بالطاقة النظيفة. فقد وعدت الحكومة الهندية بتركيب 175 جيجاوات من الطاقة المتجددة بالكامل بحلول عام 2022، أي أكثر من ضعف السعة في 2019، كما يقول علي عمران ناجفي نائب رئيس مجموعة جنسول المعنية بنشر الطاقة النظيفة، وذلك عندما سألته عن الكيفية التي يمكن بها الإسهام في تخفيف تأثير التغير المناخي في الهند. ويضيف: “في الهند يتم توليد الطاقة بواسطة الفحم بنسبة 61 في المائة”.

وعلى العموم تبدو المسؤولية مشتركة حول العالم، ولا تخص دولة بعينها. ففي تقرير لها تقول منظمةcdp الأهلية المعنية بانبعاثات الكربون، ومقرها لندن، إن ما يزيد عن 200 من أكبر الشركات المدرجة في العالم تتوقع أن التغير المناخي ربما يكلفها نحو تريليون دولار إجمالا.

وتعد مشاركة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في قمة جلاسكو، أمرًا لافتًا، بالنظر إلى موقف سلفه، الرئيس دونالد ترامب. فقد كان ترامب غير متحمس لمقررات قمة باريس، وبدا أنه منحاز إلى الشركات الصناعية الكبرى المتعطشة للأرباح. وهي شركات متهمة باستخدام تقنيات تزيد من الانبعاثات الحرارية.

وفي موقف مغاير،

كشفت الولايات المتحدة بالتزامن مع قمة جلاسكو يوم الاثنين عن استراتيجيتها لتحقيق “صافي انبعاثات صفرية لغازات الاحتباس الحراري” بحلول عام 2050. لقد كانت استجابة الشركات الكبرى بطيئة بخصوص خفض الانبعاثات الملوثة، إلا أن الضغوط الدولية تحقق نتائج.

تجربة راجا

هذه تجربة “راجا”، ببساطة.. و”راجا” أحد المزارعين في وسط الهند. يبلغ من العمر 45 عامًا ومتزوج ولديه ثلاثة أطفال. زرع خمسة هكتارات من الذرة الرفيعة، لكن الأمطار المفاجئة أغرقت الأرض، وأفسدت المحصول. هذا يعني أنه لن يكون قادًرا على سداد القرض الذي تحصل عليه من البنك الزراعي. وفي العام الماضي لم يتمكن من سداد قيمة القرض أيضًا بعد أن ضرب الجفاف المنطقة التي تقع في حدود ولاية ماديا براديش.

وسيحتاج “راجا” إلى تدخل من الجمعية الأهلية مرة أخرى من أجل جدولة ديون البنك التي تراكمت ووصلت إلى ما قيمته 7 آلاف دولار. وهذا بالطبع يلقي بظلال من الحيرة على الأسرة ككل.

في حديثي معه، يقول الدكتور سوريش شاندرا شارما، المسؤول السابق في مجال الطاقة وتغير المناخ في حكومة الهند: “صغار المزارعين فقراء، وبعد العمل الشاق الذي يدوم أشهرًا عدة، لا يحصلون على ما يكفي لمواصلة الحياة”.

وعن الوضع في بلاده يقول الدكتور شارما إن عدد سكان الهند يبلغ 1300 مليون نسمة، وقد تشكل كمية النفايات الصلبة والسائلة المتخلفة عن كل شخص، وعدم إدارتها بشكل صحيح، قضية رئيسة لتدهور الأجواء المحيطة بالسكن الرئيس وخاصة في القرى. ويضيف أن الهيئات البلدية في الهند تقوم ببعض الوظائف، ولكنها أقل من اللازم، ولا تصل إلى مستوى كيفية إدارة النفايات مثلما هو الحال في لندن أو في مدن أخرى.

المأساة لا تقتصر على الهند فقط، ولكن معظم البلدان والمجتمعات المحلية في شتى أنحاء العالم تعاني بالفعل من زيادة وطأة التغيرات المناخية، كما يقول فيدياساجار جوريتياليا، مساعد مدير الزراعة، بمزرعة البذور الحكومية، في ولاية تيلانجانا، حين تناقشت معه حول هذا الموضوع.

بحثًا عن مستقبل آمن

وعلى كل حال، تقول منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التي تعمل في أكثر من 130 دولة حول العالم، في تقرير مطول أخيرًا إنه كان هناك أكثر من 800 مليون شخص على كوكب الأرض يعانون من نقض التغذية في 2017، من بينهم حوالي 515 مليون نسمة في آسيا، ونحو 256 مليونا في أفريقيا.

وتضيف أن من يعانون من انعدام الأمن الغذائي بلغ عددهم حوالي 769 مليون شخص في 2017، من بينهم نحو 311 في آسيا وحوالي 375 مليون في أفريقيا، وأن هناك 113 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، موزعين بين آسيا وأفريقيا. وحين تقرأ هكذا تقرير تتذكر تلك الوقفة على الجسر جنوب غرب العاصمة الجيبوتية، حيث الوادي الذي تشقق من شح المياه، وبسبب تغير طريقة نزول المطر.

وفي قمة جلاسكو يمكن القول إن الرئيس المصري تحدث بلسان ملايين المزارعين وملايين الريفيين وسكان الضواحي من آسيا إلى أفريقيا. ومما تطرق إليه تذكيره للدول المتقدمة بضرورة الوفاء بالتعهدات التي سبق وقطعتها على نفسها بتقديم 100 مليار دولار سنويًا لصالح تمويل المناخ في الدول النامية.

وعن القارة الأفريقية، قال السيسي إنه على الرغم من عدم مسؤوليتها عن أزمة المناخ إلا أنها تواجه التبعات الأكثر سلبية للظاهرة، وما يترتب عليها من آثار اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية. ودعا المجتمع الدولي، باسم مصر، إلى ضرورة منح القارة الأفريقية معاملة خاصة بالنظر لحجم التحديات التي تواجهها.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/64323/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M