أمام الإنسان في حياته ثلاثة خيارات، تُصبح بالنتيجة خياريْن، أما أن يكون مع الحق، أو يكون مع الباطل، أو ثالثا أن يكون بينهما، أي يقف على الحد الفاصل بين الاثنين (الحق والباطل)، فيأخذ من هذا قليلا ومن ذاك قليلا فيمزج بينهما.
فيجعل هذا خيارا له لكي يعتاش به ويبرر أسلوب حياته وخياراته الخاطئة، ولكن هذا الإنسان الذي يلجأ إلى الخيار الثالث هو في الواقع يضرب الحق في صميمه، فيزوّر الحقيقة عن أصلها، فيقف مع الباطل ومع الزيف، وهذا المزج هو الباطل بعينه وصناعة للفتنة الهوجاء.
وعن الامام علي (عليه السلام): (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى).(1)
وتطرقنا الى الذين حاولوا الوصول إلى السلطة لكي يستمكنوا ويسيطروا ويتبعوا أهواءهم من خلال خلق الزيف في التاريخ وتحريف حركة الإسلام، فأجابتهم السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها: (ابتدارا، زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)(2).
هذا الإنسان الذي يزعم الفتنة ويمزج بين الحق والباطل، لأجل خلق شيء آخر، نوع من التبريرات الانتهازية التي تعبر عن الطمع والشهوات والأمزجة الشيطانية.
(وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة41/42.
ذكرنا في فتنة المغالطة عنوانيْن، وسوف ندخل في العنوان الثالث في هذا المقال.
العنوان الأول الذي ذكرناه حول وجوه المغالطة في الفتنة هو: خوف الوقوع في الفتنة يؤدي إلى الفتنة وإلى صناعة الفتنة، كما تفعل كثير من الحكومات والسلطات، فيقومون بتخويف الناس من الناحية الأمنية، ولكنهم يقودون البلاد إلى الفوضى والاختلال الأمني وتفاقم القمع وتصاعد هوس السيطرة على الناس.
العنوان الثاني: الطموحات الوهمية القائمة على المؤامرة، أي أنهم يقومون بعملية معينة من أجل إشباع طموحاتهم الخاصة، فيخدعون الناس ويكذبون عليهم في قضية السلطة من خلال وضع تابوهات واساطير مضللة.
العنوان الثالث: تغليف الصدق بالكذب، والكذب بالصدق
أي جعل الشيء الصادق كاذبا، وجعل الشيء الكاذب صادقا، هذه المغالطة عملية مارسوها كتحريف وتزييف، لكي يُخدَع الناس بهذا الأمر، وحتى يقوم بعض الناس بتبرير أعمالهم، فيمزجون بين الكذب والصدق لخلق شيء آخر، يناسب مطامعهم وطموحاتهم العمياء.
تقول الآية القرآنية: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ) العنكبوت 4.
إن الحياة عبارة عن تحدٍّ وامتحان وابتلاء أمام الناس. فالإنسان في الحياة يريد أن يعيش ويحتاج إلى المال، فالتحدي والاختبار الكبير الذي يقف أمامه، هو أما أن يذهب نحو المال الحرام، أو يختار الذهاب في طريق المال الحلال، هذه هي الفتنة وهي الاختبار الحقيقي للإنسان، فالذي يسقط في هذا الامتحان، هو الذي يلهثُ وراء المال الحرام.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (حب المال سبب الفتن)، (حب المال يفسد الأعمال ويقوي)، الآمال)، (حب المال يوهن الدين ويفسد اليقين).(3)
لكن الإنسان الجيد والمستقيم، هو الذي يذهب وراء المال الحلال، وهذا هو الهدف الحقيقي من الحياة، وهو أن يُربَّى الإنسان تربية على أن يكون صادق في حياته، وحتى يسلك طريق الحلال، ولا يسلك طريق الحرام والكذب، فكيف نعلم أن هذا الإنسان صادق في شعاراته، إنه يصلّي ويصوم ويفعل الكثير من الأمور الجيدة والصحيحة، لكنه حين يدخل في امتحان السلطة والمال يسقط في هذا الامتحان.
فالإنسان نعرفه من خلال الامتحان والاختبار، وكلما يجتاز الإنسان الامتحان بنجاح، يُربّى تربية صالحة فيسمو، ويرتقي، أما الإنسان الذي يسقط في مضلات الفتنة ولا يتدارك نفسه فيصلحها، ولا يصلح عمله، سوف يسقط مرة ثانية وثالثة، حتى يصبح في ورطة شديدة، إلى أن تنطبق عليه الآية الكريمة (فليعلمن الله الذين صدقوا)، حيث يصدق فعله مع كلامه ولا يتناقض فعله مع كلامه. (وليعلمن الكاذبين)، الله سبحانه وتعالى يعلم من هو الصادق ومن هو الكاذب، ولكن حتى هو الشخص نفسه يعلم وحتى يعلم الناس به أيضا، فعند الامتحان يبان الإنسان، ويتوضح ويتجسد في امتحانه، وليس في أقواله.
(أم حسب الذين يعلمون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون)، هنا تكمن المغالطة التي تحدث في عملية الخلط، واستخدام الإنسان لمنهج (الغاية تبرر الوسيلة)، ويستعمل أساليب الكذب.
فحين يجلس في محلّه (متجره) ويأتيه المشتري ويسأله، هل هذه البضاعة أصلية أم مقلَّدة؟، فيكذب على المشتري ويقول له إن هذه البضاعة أصلية، وبالتالي يبيعها بثمن عالٍ، وهي لا تستحق هذا الثمن، لكنه يبيعها بهذا المقدار الكبير من المال بالكذب، ويحسب هذا الأمر شطارة وذكاء.
بالنتيجة يربح ماديا من سلوكه الخاطئ هذا، ولكن بالنتيجة (ساء ما يحكمون)، فهذا الإنسان الكاذب والذي يتربَّح بالكذب، تنطبق عليه جملة الآية القرآنية (ساء ما يحكمون)، فهو يخدع نفسه، ويخدع الآخرين، لكنه بالنتيجة لا يخدع الله سبحانه وتعالى، ولا يمكنه أن يخدع الواقع، لأن الواقع هو صدق في تكوينه يتعامل مع الصادقين، ولا يتعامل مع الكاذبين.
الكاذبون أناس منبوذون، فالناس لا يتعاملون معهم، فالصدق يوصل الإنسان إلى النجاح، أما الكذب فسوف يُسقِط الإنسان في الامتحان، سقوطا مشينا في العار والذلة.
(وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران141/142.
التاريخ يكشف زيف المغالطة
الذين وجّهت لهم السيدة الزهراء (عليها السام) خطبتها وكلامها، حاولوا أن يستخدموا المغالطات والاستدلالات والقياسات الباطلة، من خلال خلط الصدق بالكذب، ولكن (ساء ما يحكمون)، لقد تصوّروا بأنهم يستطيعوا أن يخدعوا الناس، ولكن الزهراء (عليها السلام) كشفت في خطبتها كل الحقيقة، ووضعت كل القواعد الصحيحة للحكم وللسلطة وللإسلام.
لذلك انكشف هؤلاء، وانكشفت خطتهم، وانكشفوا في التاريخ أيضا، فالكاذب ينكشف دائما، والصادق هو الذي ينجح في حركة التاريخ ولو بعد حين، فالناس سوف يبحثون ويفهمون الحقائق عبر التاريخ.
(وهم لا يفتنون) أي لا يختبرون وعن الصادق عليه السلام (معنى يفتنون: يبتلون في أنفسهم وأموالهم، وعن النبي صلى الله عليه وآله) أنه لما نزلت هذه الآية قال: لابد من فتنة يبتلى بها الأمة بها، ليتعين الصادق من الكاذب، لان الوحي قد انقطع، وبقي السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة).(4)
أين هم ذهب الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كل واحد منهم خاف على أمواله وأولاده وانعزل وذهب بعيدا، أليس هذا بامتحان؟
فهو كان مع رسول الله وحضر في يوم الغدير، ورأى وسمع كل الأحاديث التي قالها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويعرف الآيات القرآنية التي وردت في ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكن عندما جاء الامتحان سقط هذا الإنسان فيه، وهكذا نعلم الصادق من الكاذب عندما يحين وقت الامتحان.
لماذا اتخذ الناس موقف الحياد؟
لقد انقطع الوحي، وتوفيَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبقيَ السيف عندما انحرفت الأمة عن طريق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وابتعدوا عن منهج الغدير، فبرزت الفتنة بالسيف واشتعلت النزاعات بسبب هذا الانحراف، وحدث الصراع على السلطة، بسبب سكوت الناس، لأنهم وقفوا موقف الحياد ولم يقفوا مع الحق، لكن الذي يقف موقف الحياد لن يكون ناجيا، لأن الذي ينجو هو الذي يقف مع الحق، أما المحايد فهو يقف مع الباطل، هنا أدت هذه المواقف الخاطئة إلى بقاء السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
علينا أن نلاحظ هذه النقطة، عندما تحين الفرص الجيدة والكبيرة للتحول والتغيير والتقدم في الأمة، يحاول بعض الناس الانتهازيين الاستيلاء على هذه الفرصة، وتحويلها إلى صالحهم، ولكن هم يدمرون هذه الأمة بالفساد والاحتكار والسيطرة والاستبداد والهيمنة، يدمرون الأمة وتاريخها ومستقبلها، فتسقط المجتمعات وتقبل بالذل، فهي شريكة كذلك أيضا في هذا الأمر كما حصل بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
تضييع الفرص يؤدي إلى النزاعات
وكما يحصل اليوم في مجتمعات كثيرة، تأتيهم الفرص بعد أن كان يحكم عليهم طاغوت ومستبد وظالم، ولكن عندما فرَّج الله عنهم جاء هؤلاء الذين كانوا ضد هذا الطاغوت الظالم وأصبحوا يحكمون الناس، فساروا بسيرة الطاغوت نفسه وضيعوا الفرصة الحقيقية للتقدم والبناء والنجاح، وانحرفوا عن السير في طريق الصادقين وعن الحقيقة والحق، ولهثوا وراء المغانم والشهوات والأهواء والأموال والأولاد والسيارات الفارهة.
إن هذا التضييع للفرص هو في الواقع يؤدي إلى اشتداد التخلف والنزاع والصراع في الأمة، وبالتالي إلى ضياعها، وكما يقول الإمام الصادق (وبقي السيف)، يعني الفوضى، والعصابات، والمافيات، وافتراق الكلمة، فئويات وصراعات ومن ثم بالنتيجة حدوث الحروب الأهلية، (وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة)، ما دام يبقى هؤلاء الذين يسقطون في الامتحان يفشلون في استثمار الفرص الحقيقية.
وهكذا فإنهم يسقطوا في الامتحان من أجل لذات فانية، ومن أجل أموال ذاهبة، ومن أجل فرصة قصيرة المدى يضيعون الأمة كلها، وهذا من أشدّ الأشياء سوءا على الإنسان الذي يسقط في الامتحان سقوطا كبيرا قويا ظاهرا يجعله في مصاف الفراعنة، فالإنسان الذي يسقط في هذا الامتحان هو بائس خاسر تلحقه لعنة الأجيال.
العنوان الرابع: قلب الحق باطلا والباطل حقا
هذا الوجه من وجوه المغالطة أعظم مرتبة، فالكذب والصدق هما امتحانات سلوكية عملية، لكن قلب الحق باطلا والباطل حقا هو امتحان عقائدي للإنسان، فما المقصود بالعقائدي هنا؟، يعني ان يقوم الفاعل بتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق من أجل حصوله على الشرعية التي يريدها في الحياة.
على سبيل المثال، هناك من يأتي ويقول لماذا تحرّمون الخمر؟، هل لأنه مسكر؟، إذن إذا شربه شخص ما ولم يسكرهُ فهو ليس بحرام، لاحظ كيف تمت عملية قلب الباطل حقا وبالعكس، من خلال جعل الحرام حلالا، فقلب الحق باطلا تمثل مشكلة كبيرة، كما جاء في الآية القرآنية: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة 48.
الحق يبدد ضباب الباطل
يقلّبون الأمور بحسب مزاجهم، حتى يظهر أمر الله ويبدد أوهام الزيف، فينجلي الضباب وتظهر الأرض، كذلك فإن الباطل ينجلي لأنه زيف وغير حقيقي، ويظهر أمر الله لأنه الحق.
(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ) الرعد 17.
هذا الأمر واضح على مرّ التاريخ، لذلك نلاحظ أن التاريخ دائما يكشف بأن الطغاة ذاهبون، والحقيقة والحق وأمر الله باقٍ.
وقد تكلمت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها عن قضية مغالطة الفتنة وقلب الحق باطلا وقلب الباطل حقا، في قضية فدك، وكيف انهم قاموا بتحوير الحكم الشرعي حول الإرث من اجل سلب فدك.
حيث قالت (عليها السلام):
(مَعاشِرَ النّاسِ المُسْرِعَةِ إِلى قِيلِ الباطِلِ، المُغْضِيَةِ عَلى الفِعْلِ القَبيحِ الخاسِرِ {أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبِهِم أَقْفالُها} كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلوبِكُمْ ما أَسَأتُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ، فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصارِكُمْ، وَلَبِئْسَ ما تَأَوَّلْتُمْ، وَساءَ ما أَشَرْتُمْ، وشَرَّ ما مِنْهُ اعتَضْتُمْ، لَتَجِدَنَّ وَاللهِ مَحْمِلَهُ ثَقيلاً، وَغِبَّهُ وَبيلاً إِذا كُشِفَ لَكُمُ الغِطاءُ، وَبانَ ما وَراءَهُ الضَراءُ، {وَبَدا لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ما لَمْ تَكونوا تَحْتَسِبونَ} وَ {خَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلونَ}).(5)
وهذا إشارة الى ان بعض الناس بمجرد أن يسمعوا الباطل يصدقوا به ويضعوه في أذهانهم ويتناقلونه فيما بينهم، كالتهم الجزافية دون التحقق من حقيقة ما سمعه وهذا الاستمرار في تناقل الباطل دون التمحص هو معنى (قيل الباطل)، وما اكثر من يستلذون بنقل الباطل والكلام التافه خصوصا اذا كان ينم عن حسد وبغض للآخرين.
وعن الامام علي (عليه السلام):
(أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ وَيُحِيلُ الْكَلَامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ. فسُئل (عليه السلام) عن معنى قوله هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ).(6)
نتائج فقدان العقل الاستدلالي
وتناقل الكلام الباطل مشكلة موجودة عند بعض الناس بسبب عدم امتلاكهم للعقل الاستدلالي، فحين يسمع الإنسان كلمة أو خبرا منقولا فالمطلوب أن يحقق فيه، فيذهب ويسأل ويقرأ ويحقّق بدقة، حتى يعرف هل هذا الكلام حق أم باطل؟، فلا يصح الإسراع إلى التقاول، لأنه قول الباطل باطل، وسوف يؤدي إلى باطل آخر، يضرب الآخرين في الصميم ويضيّع حقوقهم.
بالنتيجة يؤدي ذلك إلى انحراف الأمة، فحين تعيش هذه الأمة كلها على أقاويل كاذبة، وعلى إشاعات، تتحول الى أفكار زائفة، فماذا سيكون وضع هذه الأمة؟، إنها سوف تكون في الحضيض، ولا ترى النور، بل تعيش في الظلام.
(المغضية عن الفعل القبيح الخاسر)، فحين يكون الإنسان مقيما على قيل الباطل يستسيغ العيش في أجوائه الرديئة، فعندما يرى الأفعال القبيحة لايهتم مهما كانت قباحتها واضرارها.
مثلا يتعايش في بلده مع الرشوة والفساد، فيغمض عينيه، مع أنه لا توجد مشكلة فيه اذ هو ليس بفاسد، لكنه يغمض عينيه عن الباطل، ويستسلم للأفعال القبيحة المنتجة للدمار والخسران.
لا تغلقوا قلوبكم على أقوال باطلة
عندما رأيتم ما حدث في قضية الخلافة وقضية أمير المؤمنين (عليه السلام)، لماذا غضضتم ابصاركم عن الفعل ذلك القبيح الخاسر الذي اخرج الامة عن طريق الربح والفوز وادخلها في متاهات الخسارة والهزيمة؟ (أفلا تتدبرون القرآن) افتحوا قلوبكم، ولا تبقوها قائمة على أقوال باطلة، ولا على أفكار زائفة، فقلب الإنسان لابد أن يكون منفتحا على الفهم السليم والمعرفة الصحيحة، وعلى الاستدلال العقلاني، فيقوده في السير وراء الحق وترك الباطل، ولا ينساق وراء القيل الباطل المنتشر في المجتمع، الذي يبرر الأفعال القبيحة.
لا يحلّل الحرام ولا يحرّم الحلال بحسب أهوائه ومصالحه، فهناك من لا يعجبه أن يعطي الخمس والحقوق الشرعية، ويقول لماذا أعطي الخمس والحقوق الشرعية، فهذه أموالي، ومن يقول إن الخمس واجب، وهكذا نلاحظ الكثير من هذه التبريرات الباطلة، حيث يحاول من خلالها بعض الناس أن لا يلتزموا بالحقوق والأحكام الشرعية، فيبتعدون عن الحلال بأقوال باطلة، ويغضّون ابصارهم عن الأفعال القبيحة والمحرمات التي تتصاعد في المجتمع مع تزايد ارتكاب المحرمات حتى تصبح قلوبهم منغلقة على التطبع مع الباطل.
لابد للإنسان أن يكون شفافا مع نفسه، شفافا مع الحق حتى يكون مع الصادقين ومع المحقّين، ولا يسير في طريق الانحراف، ولا يغمض عينيه ويسير في طريق الباطل، ويشعر بأنه لا يعاني من مشكلة، ولكن (ساء ما يحكمون) وساءت طريقة تفكيرهم في اختياراتهم العمياء، فأمر الله واحد لايتغير بأهواء الناس، والحق واحد لاينقلب الى باطل بمزاجهم، والحقيقة واحدة تمحو كل زيف تخلقه الأوهام الملبسة بالمعاصي.
لذا لابد على الإنسان أن ينتبه وأن يذهب وراء الحقيقة، ويبتعد عن التبريرات والأفعال القبيحة والأقوال الباطلة، ويسير وراء الحق بعيدا عن المغالطة، فالمغالطة مرض فكري في داخل الإنسان، قد يؤدي به الى تبرير الأفعال الخاطئة وخداع الناس بهذه الأفعال ويجرّهم إلى ما يريد إرضاءً لأهوائه وشهواته.
نسأل الله سبحانه وتعالى، أن نسير في خطى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ونعمل وفق ما جاء في خطبتها الكريمة الكبيرة، من أجل الوصول إلى السير في الطريق السليم، وهو طريق أهل البيت (عليهم السلام).