تشهد العلاقات الصينية-الأوروبية توترات متزايدة على مدار السنوات الماضية بسبب استمرار الخلافات السياسية حول العديد من الملفات، والمنافسة الاقتصادية بين الطرفين، ولهذا، عقد الطرفان قمتهما الرابعة والعشرين في بكين تحت عنوان “قمة الخيارات” في 7 ديسمبر 2023 لمناقشة القضايا الاستراتيجية العالمية ذات الاهتمام المشترك. وتعتبر القمة أول قمة حضورية بين الطرفين منذ أكثر من 4 سنوات في ظل تسارع الأحداث والتحولات العالمية منذ انتشار جائحة كورونا وحتى الحرب الأوكرانية.
قضايا خلافية
ارتكزت القمة الرابعة والعشرون بين الصين والاتحاد الأوروبي على عدد من القضايا الخلافية بين الطرفين وخاصة العجز المزمن في الميزان التجاري لصالح ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
• اختلال التوازن التجاري: ركزت القمة هذا العام بشكل خاص على اختلال التوازن التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي، والذي اتسع على مدار السنوات الأخيرة، حيث حذرت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” من أن الاتحاد الأوروبي لن يتسامح مع الخلل الكبير في الميزان التجاري مع الصين، مؤكدة في الوقت نفسه تفضيلها الحلول التفاوضية التي تعالج هذا الخلل الذي يصبّ في صالح بكين.
ويسجل العجز التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي مستوى قياسيًا عند 400 مليار يورو لصالح الأولى، وهو ما يمثل ارتفاعًا بنسبة 58% على أساس سنوي، حيث بلغت الصادرات الأوروبية للصين نحو 230.3 مليار يورو مقابل واردات تبلغ قيمتها 626 مليار يورو خلال عام 2022.
وترجع أسباب هذا العجز إلى عدم قدرة الشركات الأوروبية على الوصول إلى السوق الصينية، والمعاملة التفضيلية للشركات الصينية المحلية، والقدرة الفائضة في الإنتاج الصيني، فضلًا عن توجيه غالبية الصادرات إلى أوروبا بعدما أغلقت بعض الأسواق أبوابها أمام المنتجات الصينية، مما أدّى إلى إغراق الأسواق الأوروبية بالسيارات الكهربائية الصينية والألواح الشمسية والأجهزة الطبية، مما يهدد التصنيع ويعيق فرص نمو التصنيع المحلي.
• العلاقات مع روسيا: تثير العلاقات الراسخة بين الصين وروسيا شكوكًا لدى الاتحاد الأوروبي الذي طالبها بتحمل مسئولية دولية تجاه إيقاف الحرب في أوكرانيا كونها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما حثّها على عدم مساندة الجهود الروسية في الالتفاف على العقوبات الغربية.
والجدير بالذكر أن حجم التجارة الثنائية بين روسيا والصين بلغ 190 مليار دولار في عام 2022 بنسبة ارتفاع سنوية تبلغ 30% مقارنة بعام 2021، لترتفع بشكل مطرد خلال الفترة بين يناير ونوفمبر 2023 إلى 218.2 مليار دولار، متجاوزة الهدف تحقيقه بحلول عام 2024.
وفي عام 2022 وحده، باعت الصين ما قيمته أكثر من 500 مليون دولار من أشباه الموصلات إلى روسيا، ارتفاعًا من 200 مليون دولار في عام 2021. واستطاعت بكين أن تنتقل إلى صدارة أبرز الشركاء التجاريين لروسيا بفضل تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية والعزلة التي فرضتها عليها سياسة العقوبات الدولية، لتمثل الآن ما يتراوح بين 45% إلى 50% من الواردات الروسية ارتفاعًا من حوالي 25% قبل اندلاع الحرب، وفقًا لتقديرات صادرة عن معهد الاقتصادات الناشئة التابع لبنك فنلندا. إلى جانب العلاقات التجارية والاستثمارية، تشترك روسيا والصين في هدف مواجهة الهيمنة الدولارية على النظام الاقتصادي العالمي من خلال الترويج لمفهوم المنظمات متعددة الأطراف كمجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون.
• التغيرات المناخية: ناقشت القمة ملف مكافحة ظواهر التغيرات المناخية، خاصة في ظل مساهمة الصين المرتفعة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حيث بلغت حصتها نحو 26% خلال عام 2022، وتنتج الصين، أكبر مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم، 12.7 مليار طن متري من الانبعاثات سنويًا. كما إنها لم توقع على التعهد العالمي للطاقة المتجددة خلال مؤتمر الأطراف للأمم المتحدة المعني بتغير المناخ “كوب 28″، وكذلك أعلنت الصين بداية عام 2023 عن خططها لتسريع بناء محطات الكهرباء العاملة بالفحم والغاز الطبيعي في وقت تزيد فيه تركيزها على أمن الطاقة بسبب نقص الكهرباء وتقلب أسعار الوقود العالمية.
• حقوق الإنسان: يعتبر ملف حقوق الإنسان من الملفات المطروحة للنقاش بشكل دائم بين الصين والاتحاد الأوروبي، حيث كرر الأخير مخاوفه بشأن وضع حقوق الإنسان في الصين، ولا سيما الانتهاكات في إقليم شينجيانج، وسياسات العمل القسري، ومعاملة المدافعين عن حقوق الإنسان والأقليات، فضلًا عن تدهور التآكل المستمر للحقوق السياسية والمدنية في هونج كونج.
وكان الاتحاد الأوروبي قد فرض في الثاني والعشرين من مارس 2021 عقوبات على أربعة مسئولين صينيين بسبب انتهاك بكين لحقوق الإنسان في إقليم شينجيانج في أقصى شمال غربي البلاد ضد مسلمي الإيغور كما اتهم التكتل الأوروبي السلطات الصينية بارتكاب جرائم إبادة جماعية واتباع أساليب التعذيب الممنهج ضد الأقلية المسلمة. وتتضمن العقوبات منع المسئولين الصينيين من السفر لدول الاتحاد فضلًا عن تجميد أصولهم. وبناء عليه، قررت السلطات الصينية فرض عقوبات على عشرة أشخاص وأربعة كيانات أوروبية من خلال حظرهم من دخول الصين وهونج كونج وماكاو، مع منع الشركات والمؤسسات المرتبطة بها من التعامل مع الصين بحجة المساهمة في إلحاق الضرر بسيادة الصين ومصالحها من خلال نشر الأكاذيب عن معاملتها للمسلمين الإيغور.
مسار العلاقات الصينية-الأوروبية
رغم وجود العديد من الملفات الخلافية بين الصين والاتحاد الأوروبي، إلا أنهما يجمعهما علاقات اقتصادية قوية، يُمكن توضيحها على النحو الآتي:
• التبادل التجاري: تعتبر الصين ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي في عام 2022 بعد الولايات المتحدة، وذلك بعدما استطاعت أن تحتل المركز الأول خلال عام 2020، حيث وصل إجمالي حجم التبادل التجاري إلى 856.3 مليار يورو، بقيمة صادرات تبلغ 230.3 مليار يورو، وواردات بقيمة 626 مليار يورو، ليبلغ العجز نحو 395.7 مليار يورو، كما يُبين الرسم الآتي:
الشكل 1- التبادل التجاري بين الصين والاتحاد الأوروبي
Source: Eurostat- China-EU – international trade in goods statistics.
وتشكل التجارة الأوروبية مع الصين حوالي 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو، ومن بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كانت هولندا أكبر مستورد للسلع من الصين بقيمة 130 مليار يورو، فيما تُعد ألمانيا أكبر مُصدر للسلع إلى الصين في عام 2022 بقيمة 106.9 مليار يورو.
وتتمثل السلع الأكثر تداولًا بين الاتحاد الأوروبي والصين في الآلات والمركبات والمعدات الكهربائية والمواد الكيميائية، ولا تزال أوروبا تعتمد بشكل كبير على الصين في السلع المصنعة الخفيفة، مثل أجهزة الألعاب الإلكترونية والأثاث والمنسوجات والملابس والأحذية، في حين تُصدر العديد من دول الاتحاد الأوروبي أيضًا كميات كبيرة من المنتجات الغذائية والزراعية إلى الصين، فضلًا عن المنتجات الجلدية.
• العلاقات الاستثمارية: تعتبر القارة الأوروبية إحدى الوجهات الرئيسية للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني، حيث شهدت قيمة الاستثمار الأجنبي الصيني نموًا متواصلًا منذ عام 2000 حتى وصل إلى ذروته بحلول عام 2016 عند مستوى يبلغ 73.3 مليار يورو، ليتخذ عقب ذلك اتجاهًا تنازليًا حتى عام 2022 مسجلًا قيمة تبلغ 7.9 مليارات يورو فقط، وهو مستوى يقل بنسبة 83% مقارنة بنظيره المسجل في عام 2016، كما تراجعت قيمة صفقات الاستحواذ الصينية في أوروبا بنسبة 22% على أساس سنوي إلى 3.4 مليارات يورو.
وتتركز الاستثمارات الصينية في مشروعات الطاقة النظيفة على قطاع السيارات، وخاصة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والمجر، والتي استحوذت على نحو 88% من الاستثمارات الصينية المباشرة في أوروبا، وكذلك على أغلب صفقات الاستحواذ والاندماج الصينية في القارة.
ويعود تراجع الاستثمارات خلال عام 2022 إلى عددٍ من العوامل المختلفة، تتمثل أبرزها في جائحة كورونا وتداعياتها على الاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصاد الصيني بشكل خاص، حيث ساهمت في تراجع عمليات الاندماج والاستحواذ الصينية خارج الحدود، إلى جانب تصاعد التوترات الجيوسياسية كالحرب الأوكرانية والتي أثرت على حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القارة الأوروبية، علاوة على تزايد المخاوف المتعلقة بالعواقب السياسية المترتبة على التكامل الاقتصادي مع الصين، مما تسبب في اتباع نهج أكثر حذرًا في التعامل مع بكين وفرض قواعد أكثر صرامة حينما يتعلق الأمر بضخ الاستثمارات الصينية في الدول الأوروبية.
وبناءً على ذلك، تم إيقاف ما لا يقل عن 10 صفقات من أصل 16 صفقة استثمارية قامت بها كيانات صينية خلال عام 2022 في قطاعات التكنولوجيا وأشباه الموصلات والبنية التحتية، كونها قطاعات حساسة واستراتيجية، وبهدف الحد من تدفق المعرفة التكنولوجية الحساسة إلى بكين، وفقًا لدراسة صادرة عن معهد “ميركس” الصيني و”روديوم جروب”.
إلى جانب الموقف الأوروبي تجاه الاستثمارات الصينية، هناك أيضًا عوامل تتعلق بالبيئة الداخلية للصين ساهمت في تراجع استثماراتها في أوروبا، حيث فرضت بكين منذ عام 2016 ضوابط أكثر صرامة على تدفقات رأس المال إلى الخارج، مما أجبر الشركات المحلية إلى إعادة استثمار أموالها في الاقتصاد المحلي بدلًا من الشركات الأجنبية. وفي الوقت نفسه، ساهمت سياسة “صفر كوفيد” التي تبنتها الصين لمدة ثلاث سنوات تقريبًا، في انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في الخارج.
ختامًا، سعت القمة الصينية-الأوروبية الرابعة والعشرون بناءً على القمم السابقة لمناقشة القضايا الاستراتيجية العالمية ذات الاهتمام المشترك إلى جانب القضايا الخلافية وخاصة تزايد عجز الميزان التجاري لصالح بكين على مدار السنوات السابقة.
المصدر : https://ecss.com.eg/42602/