تصدرت كوريا الشمالية الساحة الدولية خلال الفترات الماضية بين الشرق والغرب، فهي تعد أحد الحلفاء للشرق وأكثرهم انتقادًا من الغرب. ولكن، على الرغم من علاقاتها الممتدة والوطيدة مع الصين وروسيا، فإنها أنها لم تسلم من التوترات مع باقي دول الشرق الأقصى، حليفة الولايات المتحدة على وجه التحديد، وعلى رأسها اليابان وكوريا الجنوبية.
وعلى جانب آخر، في زحام التوترات الدولية الحالية على الأصعدة المختلفة، فإن الغرب لم يغفل عنها ولازال يسعى، من خلال مجلس الأمن، لاستمرارية مراقبتها وتشديد العقوبات الدولية الموجهة إليها. وبين حليف وعدو، تأييد ومعارضة، تقف الدولة المنعزلة على مسافة من التطورات الدولية الحالية تارة وتتدخل وتظهر بموقف صريح على الساحة الدولية تارة أخرى.
الحرب الروسية الأوكرانية… التحركات الثنائية من جانب موسكو وبيونج يانج
اعترضت روسيا في ٢٨ من مارس ٢٠٢٤ على قرار مجلس الأمن الذي يجدد ولاية فريق خبراء الأمم المتحدة الذي يراقب إنفاذ الدول الأعضاء لنظام عقوبات الأمم المتحدة على كوريا الشمالية، لتكون الوحيدة التي ترفض القرار من بين الدول الأعضاء بمجلس الأمن، ومن بينهم الصين واليابان وكوريا الجنوبية.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تسعى فيها روسيا في جهد منهجي لتقويض نظام عقوبات الأمم المتحدة على كوريا الشمالية، بل الثالثة من نوعها، وذلك بعد أن قامت في السابق بدعم نظام العقوبات الأكثر صرامة في التاريخ ضد كوريا الشمالية من خلال موافقتها على ١٠ قرارات لمجلس الأمن الدولي بشأنها.
ولكن، مؤخرًا بدأت موسكو في الامتناع عن الامتثال للعقوبات التي فرضتها قرارات مجلس الأمن ومنعت بنشاط قرارات الأخير الجديدة ردًا على تجارب الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية. وأخيرًا يبدو أنها تشرع في خطوات جديدة لتفكيك هذا النظام بشكل دائم من خلال إنهاء تفويض المراقبة باستخدام حق النقض هذا وكذلك الدعوة إلى “بند انتهاء” لنظام العقوبات الحالي، والذي بموجبه ينتهي هذا التفويض بنهاية أبريل ٢٠٢٤ بعد أن دام أربعة عشر عامًا.
تعكس تصرفات روسيا شكلًا من أشكال تعاون استراتيجي أعمق مع كوريا الشمالية إزاء دعم الأخيرة لها في حربها مع أوكرانيا، حيث أنها “تعمل بكامل طاقتها” لإنتاج الأسلحة والقذائف لروسيا، في دور حاسم ولكن سري إلى حد كبير. فقد قامت بيونج يانج منذ سبتمبر ٢٠٢٣ بتوريد أكثر من ١٠٠٠٠ حاوية من المعدات العسكرية والذخائر لملء ثلاثة مستودعات تخزين رئيسة بالقرب من الخطوط الأمامية للحرب، والتي قد تصل إلى أكثر من ٣ ملايين طلقة ذخيرة (وفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية).
وعليه، يظهر هذا النوع من العلاقة المبنية على المصالح في عملية تبادل تحصل فيها روسيا على الأسلحة لاستكمال حربها الاستنزافية في أوكرانيا مقابل تزويد كوريا الشمالية بالموارد الغذائية التي تحتاجها للبقاء. فمن ناحية موسكو، فهي لا تجد ما يمنعها لدعم بيونج يانج في مجلس الأمن وأن تعاونها معها لا يتعارض مع الاتفاقيات الدولية، وذلك لكونها المورد الأول الحالي للأسلحة لروسيا التي ستشكل نقطة قوة وميزة حاسمة لموسكو عندما يتوقف الكونجرس عن إمداد أوكرانيا بالأسلحة، خاصةً مع تصاعد التوترات في الشرق الأوسط والانتخابات الأمريكية اللتين قد تزيحان الولايات المتحدة عن المشهد السياسي في أوروبا الشرقية.
وتستمر هذه العلاقات في التوطيد؛ إذ يخطط الرئيس الروسي لزيارة كوريا الشمالية قريبًا، بعد أن تمكن “بوتين” من الخروج بمكاسب كبيرة من زيارته الأخيرة لكوريا الشمالية العام الماضي، كما أن رئيس المخابرات الخارجية للرئيس الروسي قام بزيارة إلى كوريا الشمالية بين ٢٥ و٢٧ مارس لتعميق التعاون الثنائي بين البلدين ومناقشة الأمن الإقليمي الأوسع.
وعلى هذا الأساس، تعد الخطوات الروسية المتسارعة في تعزيز التعاون بين البلدين المعزولين دوليًا مؤشرًا مقلقًا للعالم عن مدى إمكانية تخلي موسكو عن معايير حظر الانتشار طويلة الأمد مع كوريا الشمالية والتي من شأنها أن تعمل على توفير، ليس فقط الموارد الغذائية، ولكن أيضًا تقنيات عسكرية حساسة تتعلق بالأقمار الصناعية والغواصات النووية والصواريخ الباليستية بعيدة المدى مقابل استمرار بيونج يانج في دعمها من خلال إرسال شحنات الذخيرة الكورية الشمالية. كما أنه من الممكن أن تتجه روسيا وكوريا الشمالية إلى الشروع في ترتيبات الإنتاج المشترك للذخائر الجديدة والتي من شأنها أن تعمل على استعادة مخزونات كوريا الشمالية من الأسلحة مع استمرارية توريد المزيد من الذخيرة بشكل أفضل إلى روسيا.
بعد أن استخدمت روسيا حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن، من المتوقع أن تفتقر الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى طرف ثالث يرصد الامتثال ويغلق الثغرات في نظام الجزاءات الحالي، ما يؤدي بدوره إلى نوع من التحول في المسؤولية والذي يؤدي إلى حاجة متزايدة للبلدان الإقليمية وذات التفكير المماثل، مثل اليابان وكوريا الجنوبية بالتعاون مع الولايات المتحدة، لتحمل المزيد من المسؤولية في فرض العقوبات ومعالجة مثل هذه القضايا.
وقد يؤدي هذا التحول في المسؤولية إلى خلق نظام دولي أكثر تجزؤًا، حيث تتعاون البلدان في مجموعات أصغر بدلًا من الاعتماد على الأمم المتحدة كهيئة رئيسة لصنع القرار، وهو بدوره يهدد قوة وصرامة اتخاذ هذه التدابير لكونها تتم من قبل مجموعة من الدول المتضررة وليس من هيئة تصدر قرارات رسمية وواجبة التنفيذ.
وقد تؤدي هذه التحركات الروسية تجاه كوريا الشمالية كذلك إلى تحويل روسيا من جهة فاعلة عالمية من شأنها أن تمارس، على الأقل، مستوى سياسيًا من المسؤولية بشأن بعض القضايا الدولية إلى دولة تتورط في قضية مشتركة مع أحد الأنظمة الأكثر صعوبة في العالم، وهو ما يشكل قوة أكبر وحصانة لكوريا الشمالية على المستوى الدولي للاستمرار في تحركاتها التي لا تحظى بقبول واسع في المجتمع الدولي. وعليه، فهذا ينقلنا إلى الدول الإقليمية المتأثرة بتحركات كوريا الشمالية، لاسيما في إطار التوترات القائمة بينها وبين بعض دول المنطقة والتي تتفاقم أكثر فأكثر بمرور الوقت.
التطورات في بحر الصين الجنوبي … بين مؤيد ومعارض
تنقسم دول الشرق الأقصى وعلى رأسها الصين واليابان وكوريا الجنوبية حول مسألة كوريا الشمالية والتي ظهرت في العديد من المواقف التي تؤكد على شدة معارضة اليابان وكوريا الجنوبية لتحركاتها ودعم الصين لها وإن كان هذا الدعم دفينًا وخفيًا ونسبيًا إلى حد كبير. على هذا الأساس، كان آخر هذه المؤشرات امتناع الصين عن التصويت على قرار مجلس الأمن الخاص بتجديد ولاية فريق خبراء الأمم المتحدة والذي أدانته الولايات المتحدة المتمثل في قول ممثلها في مجلس الأمن أنها، بهذا الامتناع، أظهرت مرة أخرى موقفها.
وكانت الصين تعاون كوريا الشمالية للالتفاف على عقوبات الأمم المتحدة من خلال السماح لها بإطلاق عدة صواريخ كروز في بحر الصين. ولكن لا يعد هذا التصرف جديدًا حيث أنها قدمت التجارة والمساعدات للمساهمة في الحفاظ على نظام كيم جونغ أون، وعارضت العقوبات الدولية القاسية على كوريا الشمالية، وذلك على أمل تجنب انهيار هذا النظام وتدفق اللاجئين عبر الحدود الصينية الكورية الشمالية التي يبلغ طولها ١٤٠٠ كيلومتر، ما يجعل من استقرار شبه الجزيرة الكورية مصلحتها الأساسية في العلاقة الثنائية.
وعلى الرغم من هذا التأييد الحذر، تعد بكين أقل دعمًا لبيونج يانج من موسكو؛ لكونها تأخذ موقفًا محايدًا في أغلب الأحوال، ولكن، فإن التنافس والعداوة القائمة بين الصين والولايات المتحدة لاتزال تدفع بها إلى الاستمرار في دعم كوريا الشمالية نسبيًا والوقوف إلى صف روسيا في هذا الجانب من العلاقات، وهو ما يؤكد بدوره تعميق الاستقطاب العالمي القائم، وانقسام أكبر في المنطقة بين الصين وكوريا الشمالية من ناحية، واليابان وكوريا الجنوبية من ناحية أخرى.
غير هذا، تصاعدت التوترات القائمة بين بيونج يانج وطوكيو في الأيام الأخيرة بعد أن انتقلت كوريا الشمالية، في غضون يومين فقط من إثارة احتمال عقد قمة للقادة مع اليابان، بعد دعوة من رئيس الوزراء الياباني، إلى رفضها تمامًا، وهو ما تناولته أخت الزعيم كيم بقولها أن إن بيونج يانج سترفض “أي اتصال ومفاوضات” مع طوكيو في المستقبل. وفي هذا السياق قد شدد الرئيس الكوري الشمالي على أن آفاق عقد أول قمة لبلدانهم منذ حوالي ٢٠ عامًا ستعتمد على تسامح طوكيو مع برنامج أسلحة الشمال وتجاهل اختطافها السابق للمواطنين اليابانيين.
ويمكن القول إن ذلك يعود لكون “كيم” ينظر إلى هذه القمة على نطاق واسع على أنها جزء من كتاب قواعد اللعبة المألوف الذي يستخدمه في مسعى منه لأن تصبح لكوريا الشمالية اليد العليا في المفاوضات التي تأمل طوكيو، من خلالها، أن تحل قضية المختطفين التي طال انتظارها وتخفيف التوترات، بما في ذلك برامج بيونج يانج النووية والصاروخية.
وكانت نقطة الخلاف الأساسية هي قضية المواطنين اليابانيين الذين اختطفهم عملاء كوريا الشمالية في السبعينيات والثمانينيات والتي كانت بيونج يانج أشارت إلى كونها قد تم حلها بالفعل، وهو ما رفضته طوكيو لكونها “غير مقبولة على الإطلاق”. وفي توالي لهذه الحرب الكلامية زعمت كوريا الشمالية أن اليابان ليس لديها الشجاعة لتغيير التاريخ واتخاذ الخطوة الأولى في تحسين العلاقات الثنائية بينهم.
هذا ومع نوبة التسلح التي تعمل كوريا الشمالية على تحصينها، من أسلحة نووية وصواريخ باليستية، وهو ما يشكل بشكل كبير قاعدة التوترات بينها وبين الدول الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، تسعى اليابان، من ناحية أخرى لاختبار الجيل التالي من رادار الدفاع الصاروخي، وتسريع مشتريات صواريخ كروز ودراسة ترقيات تحالفها مع الولايات المتحدة.
وتأتي هذه التحركات في التوقيت التي سعت فيه كوريا الشمالية لاختبار صاروخ باليستي جديد متوسط المدى تفوق سرعته سرعة الصوت، وأعلنت عن خطط لإطلاق كوكبة من أقمار التجسس وأنها ستتحول إلى صواريخ الوقود الصلب التي يتم اطلاقها بشكل أسرع. وعلى هذا الأساس، وعلى الرغم من المساعى الثنائية للتفاوض وتحسين العلاقات إلا أن بيونج يانج لا تزال بعيدة عن مسار الاتفاق مع طوكيو ولا تزال المشكلات قائمة.
الشرق الأوسط … منطقة جديدة تجتذب أنظار كوريا الشمالية
يعد الشرق الأوسط من المناطق التي تتمتع بتغيرات متوالية على الصعيد السياسي على وجه الخصوص، وهو ما يتيح لعدد ليس بقليل من الدول التدخل. وقد جذب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وما يرتبط به من تطورات وتداعيات أنظار واهتمامات اللاعبين الدوليين المتورطين بشكل أو بآخر أو المهتمين بالقضية بغرض الحفاظ على مصالحهم.
ونجد منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ صعود كوريا الشمالية لإبداء رأيها على الساحة الدولية، ملقية باللوم على إسرائيل في التسبب في إراقة الدماء في غزة، وهو ما يتعارض مع سياسة كوريا الشمالية الانعزالية والتي، وإن وجهت أنظارها لمنطقة معينة، تنتهي بتوجيه الاهتمام بالأحرى لمنطقة بحر الصين الجنوبي، لكونه يهدد سلامها وأمنها القومي بشكل مباشر.
ذلك إضافة إلى إدانتها لما اطلقت عليه “المعايير المزدوجة” في كيفية استجابة الولايات المتحدة للحرب في أوكرانيا والحرب في غزة، في حالة من الاستغلال لعلاقاتها الوطيدة مع الجانب الروسي التي تعتبرها “بريئة”، مطلقة على إسرائيل أنها “فطر سام” زرعه الغرب للحفاظ على الهيمنة في الشرق الأوسط من خلال إثارة التناقضات بين الشعبين اليهودي والعربي.
ولكن، لم تكن هذه التصريحات وليدة اللحظة، بل تعد كوريا الشمالية من الدول التي تعترف بالسيادة الفلسطينية على كامل الأراضي الإسرائيلية وليس لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، كما تتمتع بعلاقات تاريخية مع الفصائل الفلسطينية ترجع إلى ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت كوريا الشمالية لأول مرة في تقديم المساعدة المالية والتدريب لمنظمة التحرير الفلسطينية، تعقبها زيارتان من السلطة الفلسطينية لبيونج يانج في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ساهمت في تدفق مستمر للأسلحة الكورية الشمالية وغيرها من المساعدات.
وعليه، تتخذ كوريا الشمالية موقفًا مؤيدًا لفلسطين، مدينة إسرائيل بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” في غزة خلال العقد الماضي، وهو ما ظهر في عدة خطوات قامت بها بيونج يانج تشمل دعمها لحق فلسطين في تقرير المصير في الأمم المتحدة عام ٢٠١٥.
تطورات دولية تتورط بها… أين تقف كوريا الشمالية؟
على غرار هذه السياقات المختلفة التي تتورط بها كوريا الشمالية بشكل مباشر أو غير مباشر، تعد سياسات بيونج يانج واضحة وهي، بشكل أساسي، الاستغلالية للمواقف لصالحها واكتساب المزيد من القوة على الساحة الدولية. وعليه، لم تظهر سياسة كوريا الشمالية الخارجية كاستراتيجية موحدة تسير على نهج قيم ثابتة بل تتخذ من التطورات والمستجدات الدولية مدخلًا لدعم الطرف القادر على ضمان أكبر قدر من مصالحها ومنافعها، وهو ما يدفع بها للسير في مسارات مختلفة ولكن متشابكة.
فإثر حق النقض الذي استخدمته روسيا في مجلس الأمن، أعطت موسكو بيونج يانج مزايا من شأنها أن تجعلها تضرب صواريخها أهداف دون سابق إنذار، وهو ما يجعلها على مستوى من القوة في منطقة بحر الصين الجنوبي قد يدفع بها، لاسيما مع تقدمها المطرد، لاستهداف الفضاء الياباني. وهو ما قد يؤدي إلى سعي الأخيرة إلى تعزيز دفاعاتها، مع التأكيد على قدرات “الضربة المضادة” طويلة المدى.
ومع ذلك، فإن الضربة الوقائية ضد ترسانة الصواريخ لكوريا الشمالية أو قيادتها تخاطر بالانتقام النووي. لهذا، تعد التحركات من جانب اليابان محسوبة، خاصة وأن كوريا الشمالية تعمل على لعب دور الضحية وقلب الطاولة عليها لتتهرب من أي مسؤولية دولية في ملفهما بحجة أنها تسعى لتحسين العلاقات الثنائية بينهما وأن اليابان هي التي لا تريد التخلي عن توترات الماضي، وبهذا، تعمل كوريا الشمالية بشكل تكتيكي على إلقاء الكرة في ملعب الأخيرة لأخذ الخطوة الأولى بتقدم تنازلات.
ومن ناحية أخرى، من الممكن أن يكون سير بيونج يانج في طريق تحسين العلاقات مع طوكيو أو في التواصل معها على الأقل “دق إسفين” بين علاقات طوكيو الثلاثية والثنائية الأوثق مع سيول وواشنطن. ولكن، على العكس من ذلك، قد تفيد هذه التحركات التحالف الأمريكي الياباني، كذريعة لتحسين العمليات المشتركة وتعزيز الردع، على الرغم من أنه لم يكن قد تم بعد دمج قيادة العمليات المشتركة، وهو وضع ربما يكون على وشك التغيير، لكون الولايات المتحدة واليابان تخططان لإعادة هيكلة القيادة العسكرية في الأخيرة لتعزيز التخطيط التشغيلي، مع الكشف عن خطط في وقت لاحق من هذا الشهر، وهو ما قد يعزز القيمة الرادعة لليابان ويزيد من الاستجابة للتهديدات الكورية الشمالية.
إضافة إلى ذلك، من الممكن أن تقوم كوريا الشمالية، بعد أن تحصنت بموجب الفيتو الروسي، ليس فقط بزيادة الأسلحة وتوسيع نطاق تهديداتها على الساحة الدولية ليشمل دولًا خارج منطقة بحر الصين الجنوبي، بل أن تستغل، بطبيعتها الانتهازية، أسلحتها في الحصول على المزيد من الصلاحيات على المستوى الدولي. كما يمكن أن تستغل روسيا في التوصل إلى نتائج تجارب الأسلحة النووية أو غيرها أو أي معلومات حول تصميمات الصواريخ أو الرؤوس الحربية، أو – الأكثر إثارة للقلق – المواد الانشطارية لتزويد الرؤوس الحربية بالوقود. وهذا مرجح لأسباب عدة منها العلاقات الوطيدة مع روسيا في ظل الأزمات التي تتعرض لها الدولتين والانعزال الدولي شبه المفروض على كليهما، كما أنه لاحتياج روسيا لمزيد من الأسلحة، قد تستغل كوريا الشمالية الوضع بحجة توفيرها أسلحة أكثر تقدمًا لا تستطيع روسيا تصنيعها حاليًا بالقدر التي تحتاجه بسبب الحرب الدائرة ولا تستطيع استيرادها بسبب العقوبات المفروضة عليها. ولا يستبعد أن تقو كوريا الشمالية، طبيعتها الانتهازية، بدفع روسيا لتوفير المعلومات التي تحتاجها لتستمر في توريد الأسلحة وتعزيز التعاون بينهما، وهو من ناحية، قدر من الدعم التي تحتاجه روسيا حاليًا مع عزلها وسوء موقفها دوليًا، ولكنه، من ناحية أخرى، يمكن أن يكون مستبعدًا لكون كوريا الشمالية تحتاج للموارد الغذائية والمالية، وهو ما قد يدفعها، في كل الأحوال، إلى توفير الأسلحة التي قد تطلبها روسيا.
وإضافة إلى أنشطتها غير المشروعة الأخرى، ستساعد مبيعات الأسلحة كيم جونغ أون على توليد إيرادات لتمويل برامج كوريا الشمالية المتنامية للصواريخ والفضاء والإنترنت والأسلحة النووية. وكعادتها، ستجد ما قد تستغله لتبرير قيامها ببعض الأعمال التي من شأنها أن يتم انتقادها دوليًا مثل الذكرى السنوية الحادية عشرة لصناعة الفضاء التي تتكئ عليها لتخطيطها لإطلاق العديد من أقمار التجسس بحلول نهاية العام، وذريعة أنه نوعًا من تعزيز الدفاع الوطني من خلال غزو الفضاء الخارجي. ولكن الحقيقة هي أنها تمكنها من مراقبة القوات والأصول والتدابير المضادة لكوريا الجنوبية وأمريكا واليابان في كل من شبه الجزيرة الكورية والمناطق الأوسع.
أما من جهة الصين، تظل الأخيرة على مسافة من التطورات الدولية لكونها لا تدعم الحروب أو أي تحركات خطرة على الساحة الدولية، وذلك مع الحفاظ على نوعًا من التوازن، غير داعمة التحركات الغربية، خاصةً الأمريكية، أو تحركات حلفائها، سواء في المنطقة مثل كوريا الجنوبية واليابان وتايوان، أو في المناطق الأخرى مثل إسرائيل. وفي هذا الإطار، لا يمكن توقع ردها على التقارب الشديد بين موسكو وبيونج يانج، ولكن من الممكن أن تقوم عمليات أسلحة التجسس التي ستطلقها كوريا الشمالية من خلق نوعًا من الاضطرابات بينها وبين الصين بشكل معتدل نسبيًا، وأن تخلق توترًا أكبر مع تايوان، لاسيما وأن الصين وتايوان قاموا بتعزيز جهود مكافحة التجسس في أغسطس الماضي. وهذا ما قد تدعمه الولايات المتحدة التي شهدت خلافات بينها وبين الصين إثر قضية بالونات التجسس العام الماضي، ما يجعلها تجد، هي وحلفائها في المنطقة، سببًا إضافيًا لانتقاد كوريا الشمالية، خاصةً وأنها تفكر في إنشاء فرقة عمل عسكرية أمريكية مشتركة جديدة ملحقة بأسطول المحيط الهادي الأمريكي والتي ستكون مقرها، في نهاية المطاف، في اليابان.
ولم يكن موقف كوريا الشمالية من الولايات المتحدة وحلفائها مقتصرًا على منطقة بحر الصين الجنوبي، بل انتقلت إلى الشرق الأوسط لدعم حماس وفلسطين ومهاجمة إسرائيل بشكل واضح. وبهذا، تكون بيونج يانج اصطادت عصفورين بحجر واحد لكونها دعمت موقف روسيا التي تسعى لتعزيز علاقاتها الثنائية معها ووجهت انتقادات كبيرة للولايات المتحدة ونسبت إليها كل التصعيدات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، ولكونها جعلت من الصراع القائم طريقًا جديدًا للظهور على الساحة الدولية بالشكل الذي يبحث عنه الفلسطينيين من دعم دولي. هذا وقد يساهم تدخلها إلى زيادة إيراداتها من خلال الصفقات السرية التي تبرمها مع حماس حول الأسلحة والتي يقال أنها تقوم بتوريدها لإيران ولجماعات مسلحة إسلامية أخرى بشكل مماثل، خاصةً وأنها تنتج أسلحة غير مكلفة وجاهزة للقتال تجعل الدول المارقة، مثل إيران، لديها المال لدفع ثمن أدوات الحرب هذه وتحتاج إلى تزويد جيوشها بالوكالة في لبنان واليمن وغزة، من شأنها أن تتعاون معها، وهو ما يورط كوريا الشمالية في عمليات غير مشروعة لتوريد إيرادات لتمويل برامج أسلحتها. ولم تنافي هذه التحركات سياسة كوريا الشمالية التي شجعت ظهور كتلة مناهضة للولايات المتحدة تضم روسيا والصين وإيران. ولكونها سعت، بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لتحقيق مكاسب استراتيجية في توسيع التعاون معها لتحصل على ما تحتاجه، قد تحاول أيضًا الاستفادة من تقويض مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من خلال استغلال الحرب الدائرة لصالحها. وعلى الرغم من أن كوريا الشمالية لن يكون لها اهتمام يذكر بالتواطؤ فيما يحدث في غزة ضد إسرائيل التي تبعد عنها سبع مناطق زمنية و٥٠٠٠ ميلًا، أو أن يكون لها علاقة تذكر بإيران، ولكن، يمكن القول أنها تتغاضى عن أي موانع عندما يتعلق الأمر بالودائع النقدية لمبيعات الأسلحة غير المشروعة والتي ستمكنها من تطوير البرامج التي من شأنها أن تزيد من قوتها.
هل يمكن استفادة كوريا الشمالية من الحرب في غزة في تشكيل سياستها الخارجية في المنطقة؟
قد تساهم الحرب في غزة في زيادة وعي قوات كيم بتكتيكات حماس في غزة ولكنه ليس من المرجح أن يتم تنفيذها في شبه الجزيرة الكورية، وذلك على الرغم من توقعات كوريا الجنوبية لهجوم من جهتها، وهو ما أدى لمحاولة الأخيرة لإلغاء الاتفاق العسكري بينها وبين كوريا الشمالية في أكتوبر الماضي. وتخشى كوريا الشمالية القيام بمثل هذه التحركات لكونها ستطرح للعالم سببًا على الطاولة لتبرير أي رد محتمل من كوريا الجنوبية، حليفة الولايات المتحدة، ليس فقط لكون الأخيرة لها حق الرد لأي انتهاكات من قبل كوريا الشمالية، ولكن لأن واشنطن، اتباعًا لسياسة ازدواجية المعايير التي تنسبها إليها كوريا الشمالية، ستدعم حلفائها في كل الأحوال، ما سيتبعه دعم الغرب بشكل أوسع. إضافة إلى ذلك، يعد بقاء كيم الشخصي هدفًا يحمل أهمية كبرى ويشكل أولويته الأولى، وعليه، لا يستطيع الأخير أن يهاجم كوريا الجنوبية بدون تخطيط شديد مسبق، لكونه قد يخاطر بأن تكون طريقته الغير محسوبة جيدًا تعرض بقاءه الشخصي للخطر. لذلك، من المرجح أن يستمر في اتباع سياسة الاستفزازات ذات المستوى الأدنى والهجمات المحدودة التي يمكن إنكارها بشكل معقول أمام المجتمع الدولي أو التحايل عليها بسهولة. وعلى هذا الأساس، تعد هذه الأسباب دافعًا قويًا لكيم للاهتمام بالأسلحة النووية لأنها تجعل منه قوة قد تخشاها كوريا الجنوبية، إذا ما تم أي هجوم من جهة كيم وقواته، خوفًا من تصعيد الأمر لحرب نووية، لا سيما مع تهديدات كوريا الشمالية لها وللولايات المتحدة بإطلاق أسلحتها النووية إذا ما لم تتوقف المناورات العسكرية المشتركة بين البلدين في المنطقة.
ختامًا، بعد أن ظلت كوريا الشمالية لاعبًا منعزلًا نسبيًا أو لاعبًا خفيًا يعمل في سرية وبشكل غير مباشر، أصبحت تتدخل في ملفات دولية متفرقة ولكن متشابكة، تتعاون فيها، على الأرجح، مع القوات التي تعادي الولايات المتحدة أو تنافسها على الساحة الدولية، وتعادي الدول التي تتحالف مع الأخيرة، وإن كانت في مناطق بعيدة من العالم وليست ذات أهمية محورية لها، مثل الشرق الأوسط. كما تبني بيونج يانج سياستها الخارجية على مبدأ الاستغلالية للظروف المحيطة للخروج بأكبر قدر من المكاسب المحتملة وإن كانت مكاسب مادية أو معنوية. ولكن، لاتزال كوريا الشمالية تعمل بحيث تحافظ على بقائها والأكثر أهمية، بقاء زعيمها كيم، ما يجعل من المرجح ألا تقوم بأي تصعيدات ولكن، في المقابل، ستستمر في إنتاج وتطوير الأسلحة بكافة أنواعها وعمليات التجسس التي تسعى للقيام بها، لتشكيل قوة ردع قوية ولتحصن نفسها ضد أي ضربة محتملة.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81413/