تفاجأ العالم خلال الأسبوع الماضي بخبر غير مألوف بثته وكالات الأنباء عن تحليق منطاد صيني فوق الولايات المتحدة، مما أعاد الذاكرة تلقائيًا إلى الوراء إلى ما قبل اختراع طائرات الركاب، وربما التجارب الفرنسية القديمة، وربما أبعد في التاريخ إلى الحرب الأهلية الأمريكية حيث استخدمت المناطيد لأول مرة لجمع المعلومات عن الجانب الآخر المعادي، واستخدمت في الحرب العالمية الثانية كسياج دفاع جوى مضاد للطائرات المنخفضة وأيضًا لإلقاء القنابل والمواد الحارقة. أما الاستخدام الحديث فنجد أن المناطيد تشغل الارتفاعات الأعلى من الطائرات والأقل من الأقمار الصناعية بالإضافة إلى رخص التكلفة.
وكان الخبر مدعومًا بصور حية للمنطاد بدا معها كالقمر في طور البدر أو كأحد الكواكب من مرصد أو سفن فضاء. وبدأ الخبر والرصد الأمريكي من شمال غرب الولايات المتحدة قادمًا من جنوب غرب كندا وعبر كل الولايات المتحدة إلى جنوب شرقها حيث تم إسقاطه عسكريًا بعد عبور اليابسة السكانية وأسْقِط فوق المحيط الأطلسي قبالة سواحل كارولينا الجنوبية بطائرة من طراز إف 22 استهدفت قمته الرافعة بالهواء؛ للحفاظ على ما به من أجهزة ومعدات، بجانب أن الإسقاط على سطح الماء سيكون أقل ضررًا على تلك الأجهزة من الإسقاط على اليابس؛ إذ تم إرسالها إلى مختبرات الفحص المختصة في واشنطن حيث ينتظر أن تظهر النتائج الفنية خلال أسبوعين، وهو ما سيظهر الكثير ويجيب عن الأسئلة الغامضة، رغم توقع أن تقوم الصين بمسح ما تريده من معلومات وقد تبقي على ما تريده أيضًا.
كان التبرير الصيني أنه منطاد لأبحاث الطقس والبيئة ولكنه انحرف عن مساره طبقًا لعوامل جوية، ولكن يبدو هذا التبرير غير منطقي؛ فالمسافة بين الصين وشرق كندا والولايات المتحدة تبلغ 8-10 آلاف كم، فحتى لو تم هذا الانحراف كان يستوجب الإخطار المسبق لكندا والولايات المتحدة قبل دخوله مجالهما الجوي بوقت كاف لاتخاذ الإجراءات المناسبة. وحتى لو كان الهدف تجسسًا محدودًا قد يبدو منطقيًا باستهداف ولاية جزر هاواي الأمريكية البعيدة عن الساحل الغربي الأمريكي ومقر القيادة المتقدمة للأسطول الثالث الأمريكي بسان دييجو، ولكنه استهدف كل الولايات المتحدة من غربها إلى شرقها بدءًا بالشمال الغربي لولايات مونتانا وشمال وجنوب داكوتا الغنية بالقواعد النووية والجوية وأكبرها قاعدة بيلينجز النووية حيث أبطأ البالون من سرعته بما يمكنه من دقة الرصد والتصوير!
هذا علاوة على أن تبرير الانحراف بسوء الطقس لا يبدو منطقيًا أيضًا؛ لرواية تزامن منطاد صيني آخر فوق أمريكا الجنوبية. وربما تكون الدوافع الصينية لإطلاق بالون الولايات المتحدة متعددة كالرد على استطلاعات الأقمار الصناعية الأمريكية لمناطق (الصوامع) النووية الصينية الرئيسة وإن نفتها الصين بأنها لتخزين الغلال، أو استمرار سرقة حقوق الملكية لمنتجات أمريكية متطورة تكنولوجيا كما تتهمها الولايات المتحدة مرارًا بذلك. فضلًا عن أنها رسالة صينية مفادها أنها تستطيع التجسس كما تستطيع أمريكا سواء بالأقمار الصناعية أو بطائرات التجسس من فوق تايوان، بل تستطيع في العلن ورؤية كل الشعب الأمريكي عكس الأقمار الصناعية التي تمتلكها أيضا، مع تسجيل الصين نقطة سبق معرفتها بأبحاث المناطيد في كل من أمريكا وبريطانيا.
وكان رد الفعل الأمريكي الداخلي الشعبي والعسكري غير مستريح. فيما أعلن الرئيس السابق ترامب ضرورة إسقاط البالون فورًا، وكان ذلك لدوافع انتخابية وإظهار الإدارة الحالية للرئيس بايدن بالضعف حيث كان رد الأخير أنه اتخذ قرار الإسقاط عسكريًا في الأول من فبراير الحالي 2023 فور عبوره اليابس السكاني ولإسقاطه في الماء كما سبق، وهو ما تم بعد أربعة أيام. أما رد الفعل الأمريكي الخارجي فقد ترتب على ذلك تأجيل زيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى الصين وكانت التالية لزيارته لكوريا الجنوبية. أما رد الفعل الروسي فقد بدا منه الشماتة بينما مال إلى التبرير والرواية الصينية غير المنطقية ولكنها نوع من الدعم للحليف الاستراتيجي الشيوعي الصيني.
وبنظرة إلى المستقبل، فستستمر مثل تلك الأعمال بين كل من الصين والولايات المتحدة، بل ستتكرر مع اختلاف الأساليب والتكتيكات، في ظل الصراع الأمريكي الصيني من خلال حرب باردة جديدة قد تشتد حدتها اقتصاديًا مع التقدم الصيني الكبير وسخونتها عسكريا مع تعقد الموقف في (الإندوباسيفيك) الذى تتحسب له الولايات المتحدة لاحتواء الصين فأقامت تجمعي (كواد) و(أوكوس) العسكريين مع بريطانيا وأستراليا، مع استخدام ذريعة تايوان وربما هونج كونج وقت الضرورة، خاصة مع توقع تراجع الدور الروسي حتى بعد اقتطاع أجزاء من أوكرانيا فسيحتاج الدب الروسي إلى فترة للاستشفاء.
نقلًا عن جريدة الأهرام
.
رابط المصدر: