تداعيات مختلفة للأزمة الاقتصادية في بريطانيا

محمد صبرى

 

في معظم الأوقات ينمو اقتصاد الدولة بالإيجاب وإذا انخفض لربعين متتاليين تتم تسميته بالانكماش الاقتصادي، لكن ماذا يحدث إذا استمر أداء اقتصاد الدولة بمعدلات نمو منخفضة لفترات طويلة من الزمن؟ ذلك هو الوضع في بريطانيا، التي كانت تنمو بمعدلات تفوق 2% في الفترات سبقت قرارها بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ومنذ ذلك التاريخ لا يتجاوز النمو البريطاني نسبة 2% تقريبًا، ومع الأداء الاقتصادي الباهت ضربت بريطانيا خلال السنوات الماضية عدد من الأزمات الاقتصادية بسبب أزمات عالمية، والتي تتمثل في جائحة فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، في الوقت الذي كان يعاني فيه الاقتصاد البريطاني بالأساس من الآثار الاقتصادية المتربة على قرار خروجها من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يدفعنا للحديث عن ركود اقتصادي في بريطانيا، ومعنى الركود الاقتصادي.

الركود هو انكماش كبير وواسع النطاق وطويل الأمد في النشاط الاقتصادي، وتقول القاعدة العامة إن ربعين متتاليين من نمو الناتج المحلي الإجمالي السلبي يعني الركود، على الرغم من استخدام صيغ أكثر تعقيدًا، وتقاس حالات الركود من خلال النظر في جداول الرواتب غير الزراعية، والإنتاج الصناعي، ومبيعات التجزئة، من بين مؤشرات أخرى، والذهاب إلى أبعد من مجرد ربعين من مقياس الناتج المحلي الإجمالي السلبي، وكان الاقتصاد البريطاني سبق وأن دخل في حالة ركود خلال ذروة جائحة فيروس كورونا عام 2020. لكن منذ فبراير 2022 حيث بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، اتخذت معدلات التضخم عالميًا مسارًا تصاعديًا ليصل التضخم إلى المستوى الأعلى منذ 40 عاما تقريبًا، ومع الأداء الاقتصادي البريطاني الضعيف في السنوات التي سبقت عام 2022، فقد أصاب التضخم المؤشرات الاقتصادية الاجتماعية والمعيشية للمواطنين الذين لم يعهدوا ذلك الارتفاع الكبير في الأسعار سابقًا، الأمر الذي دفع العاملين في عشرات القطاعات إلى تنظيم إضرابات غير مسبوقة للمطالبة بأجور تواكب موجة الغلاء وارتفاع الأسعار.

وعلى الرغم من انخفاض معدل التضخم السنوي في المملكة المتحدة إلى 10.5٪ في ديسمبر 2022 من 10.7٪ في نوفمبر، بعد أن كان قد وصل إلى ذروته 11.1٪ في أكتوبر، إلا أنه جاء في أسعار المشتقات البترولية، وخدمات النقل والمواصلات، والخدمات الترفيهية، والملابس والأحذية، وهي الأمور التي يمكن النظر إليها باعتبارها مهمة لكنها ليست بمثل أهمية الغذاء. حيث اتخذت أسعار الغذاء والمطاعم والفنادق مسارًا تضخميًا تصاعديًا يعد الأكبر منذ عام 1991، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 11.3% وفق البيانات الحكومية، بينما تشير أسعار السوق إلى ارتفاع أسعار الألبان ومنتجاتها بحوالي 25%، والبيض بنسبة 32.2% تقريبًا، والخبز بحوالي 16.6%، والدواجن بنسبة 51.2% تقريبًا، وهو ما يفسر تذمر المواطنين تجاه الأداء الحكومي نحو السيطرة على الأسعار، وبيانات التضخم التي تختلف بشكل كلي عن الأسعار السائدة في الأسواق.

لا يمكن النظر إلى الأزمة البريطانية الحالية وتداعياتها الاجتماعية التي تسببت في إضراب عشرات الآلاف من العمال في جميع القطاعات تقريبًا للمطالبة بزيادة الأجور، بمعزل عن التحديات السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلاد في السنوات الست الماضية، حيث كان لتلك الأزمات أثر بالغ في هبوط مستويات المعيشة، حيث انخفض الدخل المتاح للأسر في المملكة إلى 7% بسبب ارتفاع الأسعار، إذ شكلت الارتفاعات في أسعار الطاقة والمواد الغذائية ضغطًا كبيرًا على ميزانيات العائلات، ويتوقع أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى انخفاض قيمة الأجور وخفض مستوى المعيشة بأعلى نسبة منذ عام 1956، وأن يتعافى دخل العائلات بعد تعديله ليواكب التضخم، لكنه سيبقى أقل من مستوى ما قبل الجائحة وستبلغ هذه النقطة عام 2028، على الرغم من زيادة عائدات الضرائب في بريطانيا بقيمة 55 مليار دولار وتقليص النفقات، مما يؤدي إلى تخفيف أثر الأزمة الاقتصادية وتقليل فرص العمل المفقودة.

أدى ارتفاع الأسعار وزيادة نسبة الفائدة، إلى حالة كساد عام في الاقتصاد متوقع لها أن تستمر لمدة عام آخر على الأقل، على الرغم من سعي الحكومة البريطانية لترشيد النفقات العامة مما يساعد في استعادة ثقة المستثمرين الدوليين، كما يتوقع أن يرتفع التضخم بصورة أكبر داخل بريطانيا خلال الأشهر المقبلة، وتوقف النمو الاقتصادي عند نسبة 0.3 % تقريبًا، وكذلك توقع البنك الدولي باقتراب الاقتصاد العالمي بشكل خطير من وضع الركود الاقتصادي، وتحقيق الاقتصاد العالمي نموًا  بنسبة 1.7 % في العام الجاري، متراجعاً عن نسبة 3 % التي توقعها في شهر يونيو الماضي، ويعزو تقرير البنك التراجع إلى عدة عوامل من بينها الحرب الروسية الأوكرانية وتأثير جائحة كورونا.

كذلك توقَع بنك إنجلترا انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1% تقريبًا على مدار الخمسة أرباع القادمة، وأنَّ الاقتصاد لن يتعافى إلى مستويات ما قبل الجائحة من حيث الإنتاج حتى عام 2026 على الأقل، وفقدان 500,000 عامل إضافي وظائفهم، وما زال الانكماش الذي يقدّره بنك إنجلترا أصغر من توقُّعه السابق في نوفمبر بحدوث تراجع 2.9% خلال ثمانية أرباع، موضحًا أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضغط على التجارة، كل ذلك سيشكل تحديًا لحكومة رئيس الوزراء ريشي سوناك، التي يجب أن تدعو إلى إجراء انتخابات بحلول بداية 2025.

وسط كل تلك التوقعات السلبية، تجد الحكومة البريطانية نفسها تحت وطأة ضغط المضربين في القطاعات المختلفة المطالبين بزيادة الأجور بنسب متفاوتة لكنها تدور حول 19% تقريبًا، وهو المعدل الذي يراه البريطانيون عادلًا لمواكبة الارتفاعات الحالية في الأسعار، وتقف الحكومة مكبلة أمام تنفيذ الطلبات الجماهيرية بزيادة الأجور، وهو الأمر الذي قد يكلف الموازنة العامة البريطانية ما يقارب من 20 مليار جنيه إسترليني ويزيد من نسبة إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، أو النظر في التفاوض مع المضربين عن العمل واختيار الفئات المستضعفة والأكثر عرضة لمثل تلك الضغوط الاقتصادية وتوجيه مساعدات مادية لهم، لكن ذلك الأمر سيخلق حالة غضب عارمة بين الفئات التي لم يتم اختيارها، أو اتخاذ قرار بزيادة الجميع وهو ما سيترتب عليه مزيد من الارتفاع في معدلات التضخم نتيجة لزيادة الطلب، وفي ظل هذه الحلول المحدودة تقف الحكومة الحالية أمام أزمة سمعة رئيسة تهدد بقائها في الحكم لفترة مقبلة.

ختامًا، يبدو أن المملكة المتحدة قد تندم على قرار خروجها من الاتحاد الأوروبي، إذ إن تلك هي بداية الهبوط، ولا يمكن وصف السياسات الاقتصادية الحكومية في الأعوام التي سبقت الحرب الروسية الأوكرانية بالناجحة حيث إن الأوضاع الاجتماعية في بريطانيا تسير من سيئ إلى أسوأ، وهو ما يشكل ضغط كبير علي الحكومات المتعاقبة التي تصر على مساعدة أوكرانيا ماديًا بالسلاح وتقديم الدعم المادي لها، في حين ينظر البريطانيون الذين يعانون الأزمة الاقتصادية إلى أن تلك المساعدات هي السبب الرئيس للأوضاع الاجتماعية الحالية، الأمر الذي يتبعه دعوات مناهضة للحكومة للتوقف عن مساعدة أوكرانيا، وعدم خوض حروب لأطراف أخرى، فهل تستطيع الحكومة البريطانية الخروج من هذه الأزمة؟

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/75420/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M