أحمد نظيف
في 16 فبراير 2023 استقبل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بقصر الإليزيه أعضاء “منتدى الإسلام في فرنسا”، بوصفهم المحاور الرئيس للسلطات العامة الفرنسية، مُعلناً بذلك إنهاء وجود “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”، الذي تمتع بهذا الامتياز على مدى عقدين من وجوده. هذا التحول الرسمي الفرنسي على مستوى طبيعة المحاور الرسمي الإسلامي، ليس تحولاً شكلياً يطال الأشخاص والتسميات، بل يعكس نهجاً جديداً في الإدارة العامة للإسلام من طرف الدولة الفرنسية.
“وضع الإسلام على طاولة الجمهورية”
منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي كان تنظيم الديانة الإسلامية في فرنسا مصدر قلق متكرر للسلطات العامة، في ظل حكم اليمين واليسار على حدٍّ سواء. فقد أدى توطين السكان المهاجرين، وقانون لمّ الشملّ العائلي، وهامش الحرية الدينية إلى زيادة الوعي تدريجياً بضرورة السماح للمسلمين، ومعظمهم من أصول أجنبية، بممارسة دينهم بشكل معلن وغير مثير للمحاذير الأمنية. وعندما تطور نشاط جماعات الإسلام السياسي، منذ نهاية الثمانينيات، بدا من الضروري أن تستخرج الدولة مُحاوراً يمكن أن يمثل المسلمين كما هو الحال مع الديانات الأخرى، وقاد الوزير والسياسي الفرنسي جان بيار شوفنمان، هذا المسار تحت شعار “وضع الإسلام على طاولة الجمهورية”. غير أن هذه المحاولات اصطدمت، أولاً، برغبة فرنسية في التعامل مع ملفي مسلمي فرنسا باعتباره ملفاً أمنياً؛ وثانياً، بالانقسامات المذهبية والسياسية للمنظمات والجمعيات الإسلامية الناشطة على التراب الفرنسي.
لكن وزير الداخلية نيكولا ساركوزي نجح في العام 2002 في جمع ثمان منظمات إسلامية كبيرة على أرضية مشتركة لتأسيس هيئة تمثيلية للديانة الإسلامية، في سياق اتسم بالعديد من الضغوطات على المسلمين في جميع أنحاء العالم عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ليبرُز المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في العام للوجود في عام 2003، باعتباره هيئة مستقلة تهدف لتمثيل المسلمين في فرنسا أمام سلطات الدولة، وقد تشكَّل من منظمات مختلفة التوجهات السياسية والأيديولوجية على الرغم من أن جميعها ينتمي للمذهب السُّني، ولكلٍّ منها ولاء ودعم خارجي؛ فقد ضمّ المجلس ثمانية اتحادات يمثل بعضها دولاً مثل المغرب وتركيا والجزائر، وبعضها الآخر جماعات إسلامية مثل الإخوان المسلمين والتيار السلفي.
ومنذ صعوده إلى السلطة عام 2017 شرع الرئيس ماكرون في إعادة صياغة العلاقة بين الدولة ومُمثلي الديانة الإسلامية، وتعزز هذا التحول في أعقاب الهجمات التي ضربت مدينة نيس وعملية اغتيال المدرس صامويل باتي عام 2020، في شكل “استفاقة فرنسية جذرية” ضد التأثيرات الأجنبية على مسلمي فرنسا، وضد نفوذ الجماعات الإسلامية السياسية، دشَّنت نهجاً عملياً وسياسياً مضاداً لطبيعة “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”، الذي يسيطر عليه تياران؛ تيار موالٍ للدول الأصلية لمسلمي فرنسا، وتيار الجماعات الإسلامية، لذلك وجد ماكرون نفسه في مواجهة مع المجلس. وفي 18 نوفمبر 2020 اجتمع الرئيس الفرنسي مع قيادات مجلس الديانة الإسلامية، وطلب منهم أن يضعوا “ميثاقاً للقيم الجمهورية” يتعيَّن على المجلس الالتزام به، على أن يتضمن تأكيداً على الاعتراف بقيم الجمهورية، وأن يُحدِّد أن الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية، وأن ينصَّ على إنهاء التدخل أو الانتماء لدول أجنبية. لكن مكونات المجلس دخلت منذ ذلك الوقت في حالة من الصراع الداخلي، أدرك معها ماكرون أن المجلس لم يعد قادراً على القيام بدوره كمحاور رسمي وموثوق مع الدولة، وتوجه نحو إنشاء إطار جديد وفقاً لشكل تمثيلي جديد يقطع مع المحاصصة العرقية أو السياسية التي كانت سائدة داخل المجلس.
وبدايةً من عام 2022 دخلت فرنسا مرحلة جديدة في الحوار بين السلطات والمسلمين من خلال إنشاء “منتدى الإسلام في فرنسا”، بعد شهور من العمل ضمن مجموعات عمل محلية داخل الطائفة الإسلامية حول أربعة محاور هي: تشغيل المساجد وإدارتها؛ والتأهيل المهني وتوظيف الأئمة؛ والتعاطي مع الأعمال المعادية للمسلمين وتأمين أماكن العبادة؛ وتطبيق القانون حول احترام مبادئ الجمهورية. ويضم المنتدى الجديد رؤساء الجمعيات التمثيلية المحلية وشخصيات مؤهلة من المناطق يقترحها المحافظون مثل الأئمة وشخصيات منخرطة في نشاط الطائفة الإسلامية وممثلو الجمعيات أو الشخصيات الوطنية المشهورة بالتزامها واستقلاليتها الفكرية. وسيكون عمله متمركزاً حول: وضع دليل موجه للجمعيات الإسلامية ودور العبادة بشأن أحكام القانون التي تؤكد احترام مبادئ الجمهورية، وإنشاء مجموعة اتصال مع السلطات العامة للتعامل مع مسألة أمن أماكن العبادة والأعمال المعادية للمسلمين، وتشكيل سلطة دينية لتعيين الأئمة من داخل فرنسا، وإنشاء إطار قانوني لتوظيف وتدريب الأئمة؛ وأخيراً العمل على إدارة تمويل نشاطات الجمعيات والمساجد بشفافية.
التداعيات الداخلية
من حيث الشكل، يُعدّ إنهاء عمل “مجلس الديانة الإسلامية” وتعويضه بمنتدى الإسلام ضربة مباشرة للجماعات الإسلامية السياسية في فرنسا، لاسيما جماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ والسلفيين والإسلاميين الأتراك (ملليي غوروش)، حيث كان وجودهم داخل هذا المجلس، واعتبارهم من طرف الدولة محاوراً رسمياً شأنهم شأن بقية المكونات، يشكل نوعاً من الشرعية، والتي من خلالها وجدوا تعاوناً واسعاً داخل فرنسا من طرف المؤسسات العامة للدولة، وحتى من المؤسسات المنتخبة المحلية. أما من حيث المضمون، فسيكون تكريس المنتدى والمهام التي سيقوم بها مواصلة للسياسة المضادة للإسلام السياسي، والتي ينتهجها الرئيس الفرنسي منذ مدة.
ومن بين المهام الجديدة التي سيقوم بها المنتدى، احتكار مسألة توظيف وتدريب أئمة المساجد، مما يسحب البساط من تحت الجماعات الإسلامية، لاسيما الإخوان المسلمين، الذين ينشطون في مجال تدريب الأئمة عبر شبكة من مراكز التدريب، وبالتالي كان لديهم رأس مال رمزي قوي يتمثل في توظيف أئمة في الكثير من مساجد فرنسا يحملون أفكاراً ونهجاً سياسياً مدافعاً عن الإخوان، مما يجعلهم قادرين على استعمال المساجد كفضاءات للتعبئة الشعبية وكسب التبرعات المادية، واستمالة فئات وأجيال أصغر سناً من خلال شبكة تعليم اللغة العربية ومبادئ الإسلام للأطفال. أما المهمة الثانية، والأشد خطورةً بالنسبة للجماعة الإسلامية، فهي إشراف المنتدى مستقبلاً على شفافية تمويل الجمعيات والمساجد، وهو ملف شائك، حيث تعتمد هذه الجماعات في جانب كبير من تمويلها على الجمعيات الدينية والمساجد المرتبطة بها، سواءً كان هذا التمويل داخلياً أو من الخارج.
لذلك فإن التداعيات المحتملة لتكريس المنتدى محاوراً رسمياً للدولة تبدو سلبيةً في معظمها بالنسبة لسائر الجماعات الإسلامية ذات التوجه السياسي في فرنسا، حيث يمكن أن يشكل ذلك على المدى المتوسط عنصراً مؤثراً في السلوك السياسي لجماعات وتنظيمات الإسلام السياسي في فرنسا، نحو مزيد من الانكفاء وخفض التصعيد ضد الدولة، لكونه يشكل عائقاً أمام حرية الحركة والنشاط للجماعات ذات الطبيعة الطائفية.
التداعيات الخارجية
لا تقل التداعيات الخارجية لهذا النهج الفرنسي الجديد في التعامل مع مُمثلي الإسلام أهميةً عن تداعياته الداخلية، حيث تَدينُ ثلاثة مكونات رئيسة من مكونات مجلس الديانة المنحل بالولاء، تنظيمياً ومالياً، لدول أجنبية. فـ ”تجمُّع مسلمي فرنسا” الذي يحظى بتمثيلية واسعة للجمعيات والمساجد الإسلامية، يُدين بولاء واضح للدولة المغربية، التي تضخ حوالي 6 ملايين يورو سنوياً لتمويل النشاطات الدينية للمغاربة في فرنسا من مؤسسة الحسن الثاني، منذ إنشائها عام 1990.
وهناك “جامع باريس الكبير”، الذي يحظى بشرعية تاريخية كبيرة، ويمتلك شبكة من الجمعيات والمساجد التابعة له في عموم فرنسا تُقدَّر بحوالي 250 مؤسسة مدنية ودينية، ويوظف حوالي 150 إماماً، أي حوالي 10% من الأئمة في فرنسا، وهؤلاء غالبيتهم يتلقون رواتبهم من الجزائر، ولديه معهد لتدريب الأئمة، فولائه معلن للدولة الجزائرية.
أما اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا، فهي منظمة تركية تضم داخلها مئات الجمعيات والمساجد تناهز حوالي 250 مؤسسة، وهي الذراع الفرنسية للاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، التابع إدارياً ومالياً لرئاسة الشؤون الدينية التركية.
وربما يكون هذا التحول سبباً في مزيد توتر العلاقات بين باريس والجزائر والمغرب وتركيا المتوترة أصلاً منذ مدة.
.
رابط المصدر: