مهند مصطفى
بعد أن ضَمِن الرئيس رجب طيب أردوغان ولايةً جديدة إثر فوزه بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية في نهاية مايو 2023، سُلِّطت الأضواء مجدداً على مسألةَ مستقبل العلاقات التركية-الإسرائيلية، لاسيما بعد تحسُّنها في العام المنصرم، وتتويجها بتبادل السفراء بين البلدين، ما شكَّل دليلاً على بداية مرحلة جديدة في العلاقات الثنائية.
العلاقات التركية-الإسرائيلية ونتائج الانتخابات الرئاسية
شهد العام 2022 تحسُّناً كبيراً في العلاقات التركية-الإسرائيلية، وصل إلى ذروته بعودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الدولتين وتبادل السفراء في أغسطس الماضي. كما شهد العامان الماضيان تعاونا أمنياً واستخباراتياً بين البلدين، نجح في إحباط محاولات إيرانية للانتقام من إسرائيل، عبر استهداف مواطنين إسرائيليين موجودين في تركيا. كما انعكست عودة العلاقات بين البلدين على العلاقات التجارية بينهما؛ فخلال العام 2022 وصل التبادل التجاري بن البلدين إلى 8 مليارات دولار (مقارنة بمبلغ 6.7 مليار دولار عام 2021)، كما أن عدد السواح الإسرائيليين إلى تركيا وصل إلى ذروته عام 2022، حيث وصل عددهم إلى ما يقارب 800 ألف سائح، مقارنةً بنحو 570 ألفاً عام 2019 قبل جائحة كورونا.
وقد جاءت مبادرة “المصالحة” بين البلدين بالأساس من طرف تركيا، لتحقيق مصالح تركية، استراتيجية واقتصادية، كجزء من التوجه التركي في صياغة رؤية جديدة تعتمد على إنهاء حالة الصراع والتوتر بينها وبين دول المنطقة، وكانت الاتفاقيات الإبراهيمية عاملاً دافعاً لهذا التوجه التركي، حيث ساهمت هذه الاتفاقيات في تغيير الخارطة الإقليمية، واستجابت تركيا لهذا التغير من خلال إعادة وتحسين علاقاتها بدول المنطقة، لاسيّما دولة الإمارات والسعودية ومصر، إضافة إلى إسرائيل.
وبعد إعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية في 28 مايو، اتصل كلٌّ من رئيس دولة إسرائيل، إسحاق هرتسوغ، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأردوغان لتهنئته بفوزه، ولتأكيد رغبة الحكومة الإسرائيلية في “تطوير العلاقات بين البلدين”. وجرى الترتيب لزيارة لنتنياهو إلى أنقرة لتأكيد استمرار تحسن العلاقات وتطويرها.
ومن الواضح أن سير العلاقات التركية-الإسرائيلية لم يتأثر بانتخاب حكومة يمينية في إسرائيل في ديسمبر 2022، إذ إن العلاقات بين البلدين قد استؤنفت خلال حكومة بينيت-لبيد السابقة، وبعد عودة نتنياهو إلى الحكم اتصل أردوغان بنتنياهو وبارك له انتخابه، واتفق الرجلان على استمرار التعاون بين البلدين وتعزيز العلاقات بينهما. وابتعثت إسرائيل وفداً إغاثياً كبيراً (140 شخصاً) لمساعدة تركيا في جهود الإنقاذ والتطبيب في أعقاب الزلزال المدمر في فبراير الماضي، وفي الشهر نفسه زار وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهن، تركيا، والتقى نظيره التركي والرئيس التركي اللذين أكدا استمرار تعزيز العلاقات بين البلدين.
وتتوقع الأوساط الإسرائيلية أن سياسة أردوغان الخارجية لن تتغير بعد انتخابه، بما في ذلك علاقات تركيا بإسرائيل، وأن تحسُّن العلاقات التركية-الإسرائيلية لن يتأثر بإعادة انتخاب أردوغان، فالأمر لم يكن له علاقة بالانتخابات وحدها، وإنما بالمعادلة الإقليمية الجديدة في المنطقة. وفي هذا الصدد يذهب الباحث في معهد السياسات والاستراتيجية في هرتسليا، شاي هار- تسبي، إلى أن السياسة الإقليمية التركية سوف تستمر بعد الانتخابات، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل، إذ إن تركيا دفعت ثمن سياسات المواجهة التي اتبعتها في العقد الأخير، وقد أدرك أردوغان -بحسب تسبي- أن سياسات المصالحة الإقليمية من شأنها إنقاذ الاقتصاد التركي من الانهيار، وتعزيز مكانة تركيا الإقليمية في المنطقة. والواقع أن عدداً من المحللين الإسرائيليين رأى أنه حتى لو اُنتُخِبَ زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو، فإن التوجه نحو إسرائيل لن يتغير؛ ففي الحالتين ترى تركيا في علاقتها بإسرائيل هدفاً استراتيجياً في المرحلة المقبلة.
وقد ظهر واحدٌ من المؤشرات بالنسبة لإسرائيل على استمرار توجه التقارب بين البلدين، في غياب إسرائيل وفلسطين من الحملة الانتخابية، إذ لم يهاجم أردوغان إسرائيل كما فعل في حملاته الانتخابية السابقة، ولم يستعملها لجذب جمهور من الناخبين الأتراك له، بل كانت إسرائيل والقضية الفلسطينية غائبة عن الخطاب الانتخابي لأردوغان، واُعتبر هذا الأمر مؤشراً على حرص أردوغان على استمرار العلاقات بين البلدين حتى بعد انتخابه. وفعلاً، فمنذ إعادة العلاقات بين البلدين وتبادل السفراء من جديد، جرت أحداث في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس في العامين الماضيين كان النقد التركي لتل أبيب فيها، من المنظور الإسرائيلي، دبلوماسياً ومقبولاً. كما دلت تشكيلة الحكومة التركية الجديدة، لاسيما تعيين رئيس وكالة المخابرات التركية، هاكان فيدان، في منصب وزير الخارجية، أن أردوغان سيستمر بسياسته الإقليمية عموماً، وتجاه إسرائيل خصوصاً، فوزير الخارجية الجديد كان المسؤول عن إعادة العلاقات التركية-الإسرائيلية.
المصالح التركية-الإسرائيلية في المرحلة المقبلة
بناءً على ما سبق، تنطلق إسرائيل من أن توجهات أردوغان الإقليمية عموماً، وتجاه إسرائيل خصوصاً، هي توجهات استراتيجية سوف تستمر بعد انتخابه؛ فمجموعة من المصالح المشتركة بين البلدين تفرض عليهما، وبخاصة على تركيا، الاستمرار في تحسين هذه العلاقات، وسوف تزداد أهمية هذه المصالح في المرحلة المقبلة، وأهمها الآتي:
أولاً، العلاقات الأذرية-الإسرائيلية: إلى جانب تغيير الخارطة الشرق أوسطية، وبداية “عهد المصالحات” التي فرضت على تركيا توجهاً جديداً في تعاملها مع دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، فإن تقاطع مصالح الدولتين في علاقتهما مع أذربيجان يزيد من تقارب الدولتين. فخلال الحرب الأذرية-الأرمينية في العام 2020، قدمت إسرائيل وتركيا دعمهما الكامل لأذربيجان، فالعلاقات الإسرائيلية-الأذرية هي علاقات استراتيجية بالنسبة لإسرائيل في مواجهتها مع إيران، كما أن العلاقات التركية-الأذرية تعمقت بشكل كبير في أعقاب الحرب والدعم التركي لأذربيجان. وبناءً على ذلك فإن إسرائيل تنطلق من أن الحفاظ على العلاقات مع تركيا يصبّ في حفاظها على علاقات استراتيجية بأذربيجان، وخصوصاً أن أهمية أذربيجان بالنسبة لإسرائيل تزداد في المرحلة المقبلة في خضم استعدادها لمواجهة عسكرية مع إيران، ويمكن القول إن أذربيجان هي الدولة الوحيدة التي قد تسمح لإسرائيل باستعمال أراضيها بشكل مكشوف تقريباً لمواجهة المشروع النووي الإيراني.
ثانياً، العلاقات التركية-الخليجية: تُعد العلاقات بإسرائيل بالنسبة لتركيا جزءاً من استراتيجية تحسين علاقاتها بالدول الخليجية، وبخاصة في مجال الاستثمارات الاقتصادية، فتركيا عطشى للاستثمار الخارجي لتحسين اقتصادها، وترى في دول الخليج ركناً مهماً في هذا الشأن، لذلك ترى تركيا في استمرار تحسين علاقتها بإسرائيل ومصر انسجاماً مع التوجه الخليجي نحو تدشين “عهد المصالحات” في المنطقة، بما يضمن التنمية والتطور الاقتصادي لها ولدول المنطقة. كما أن إسرائيل بدورها تدرك أهمية دور العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج، وتحديداً بدول الاتفاقيات الإبراهيمية، في العلاقات مع تركيا، انطلاقاً من إدراكها أن تحسُّن العلاقات الإسرائيلية-التركية كان إحدى نتائج الاتفاقيات الابراهيمية.
ثالثاً، الطاقة: مع اكتشاف حقول الغاز في شرق البحر المتوسط، في المناطق الاقتصادية الإسرائيلية والتركية، فإن تركيا ترى في التعاون مع إسرائيل شرطاً لتطوير التعاون الثنائي في هذا الشأن، وربما جزءاً من تخفيف حدة التعاون الإسرائيلي-اليوناني-القبرصي. فإنشاء خط غاز بين إسرائيل وتركيا ليصل إلى أوروبا، فكرة قائمة من قبل، وتجددت في العام الماضي بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهو أقل تكلفة وأكثر عملية من أنبوب الغاز “إيستميد” الذي كان مخططاً له بين إسرائيل وقبرص واليونان، والذي لم يخرج إلى حيز التنفيذ حتى الآن، وبخاصة بعد إلغاء الولايات المتحدة دعمها للمشروع. ويُعتبر التعاون التركي-الإسرائيلي في مجال الغاز مربحاً للطرفين بسبب الطلب الأوروبي على الغاز وارتفاع أسعاره في أعقاب الأزمة الأوكرانية. والتحدي الأساسي أمام هذا المشروع هو الخلاف التركي مع قبرص واليونان على حدود المناطق الاقتصادية في شرقي البحر الأبيض المتوسط.
رابعاً، الملف السوري: تملك الدولتان مصالح في سورية، فإسرائيل تحاول منع التمدد الإيراني العسكري في سورية، في حين تحاول تركيا مواجهة القوات الكردية في شمال وشمال شرقي سورية. وقد ظهرت مؤشرات أخيرة عن دفع روسيا إلى اتفاق سوري-تركي يشمل التوصل إلى تفاهم بين الدولتين حول شمال سورية، تضمن فيه تركيا مصالحها الأمنية من جهة، ويُعيد للنظام السوري سيطرته على هذه المناطق. ووجود خيار عودة السيطرة السورية إلى كامل الأراضي السورية يُعزز ثقة النظام السوري، وهذا الأمر سيكون له تداعيات على إسرائيل وعلى حرية حركتها في سورية. لذلك فإن استمرار وتحسن العلاقات بين تركيا وإسرائيل سيسهم في تعزيز التنسيق والمباحثات بينهما حول الملف السوري، فالدولتان مَعنيتان بأن يكونا طرفاً مهماً في كل تطور مستقبلي يحدث في الملف السوري تستطيعان من خلاله ضمان مصالحهما، وهي مصالح أمنية بالأساس.
خامساً، السلاح والتعاون العسكري: كان التعاون العسكري في الماضي ركناً أساسياً في العلاقة بين البلدين، إلا أن التعاون العسكري بين البلدين تراجع بسبب الأزمات بينهما، ولكن أيضاً بسبب تراجع الحاجة التركية إلى السلاح والتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية؛ فاليوم تُعد تركيا من الدول المهمة في تصدير السلاح، وبخاصة في مجال الطائرات المسيّرة، ووصل حجم الصادرات التركية من السلاح في العام 2022 وحده إلى 4.4 مليار دولار. فضلاً عن ذلك، فإن إسرائيل غير مُستعجلة في تعزيز التعاون العسكري بشكل معمق، بسبب حذرها من تغير السياسة التركية تجاهها، وسيمرّ وقت حتى تتحسن العلاقات العسكرية بينهما، ولكن تقديرات إسرائيلية تشير إلى أن التعاون في التطوير العسكري قد يكون متواضعاً في بداية الأمر، وبخاصة في مجال الطائرات المسيّرة والبحث والتطوير في هذا المجال.
استنتاجات
يتبين مما سبق أن إعادة انتخاب أردوغان لولاية رئاسية جديدة لن تؤثر سلباً في العلاقات التركية-الإسرائيلية، ولن تُحدث رِدةً عنها. فعودة العلاقات الدبلوماسية الكاملة منذ أغسطس الماضي لم تكن نتاج الحالة الانتخابية لأردوغان فحسب، بل كانت نتيجة للتحولات الجارية في البيئة الإقليمية، وتغيير مسار السياسات الخارجية التركية من مسار تصارعي إلى مسار تصالحي. كما أن وجود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل لن يؤثر في مسار تحسُّن العلاقات التركية-الإسرائيلية، فالعلاقة مع إسرائيل بالنسبة لتركيا تتخطى هُوية الحكومة الموجودة في إسرائيل، وتتعلق بمصالح استراتيجية لتركيا.
وتربط تركيا تحسين علاقتها مع إسرائيل بمجمل علاقاتها الإقليمية، ومسار التصالح التركي مع دول الخليج، ومع مصر أيضاً. ومن جهتها، تدرك إسرائيل تشابك العلاقات الإقليمية، لذلك فإن الاتفاقيات الإبراهيمية لم تعد تملك تأثيراً على العلاقات الثنائية لإسرائيل مع دول الاتفاقيات، بل على مجمل خارطة العلاقات في المنطقة، لذلك فإن الاتفاقيات الابراهيمية وتعزيزها يُعدان من هذه الناحية ضماناً لإسرائيل لاستمرار تحسن العلاقات مع تركيا أيضاً.
لقد تعاملت إسرائيل بحذر مع المصالحة التركية، وانتظرت لترى جدية الجانب التركي بعودة العلاقات الدبلوماسية، لذلك كان الرئيس الإسرائيلي، هرتسوغ، هو صلة الوصل العلنية بين الدولتين. ولكن من المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تحسناً جديداً في العلاقة، وهذا التحسن قد يُتوَّج بزيارة نتنياهو لأنقرة كما يُخطط لها، وتعميق التعاون في مجال الطاقة، وتحسين معدلات التبادل التجاري، فضلاً عن زيادة السياح الإسرائيليين لتركيا في العام 2023، كما تتوقع التقديرات الإسرائيلية.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/brief/alalaqat-alturkia-al-iisrayilia-baed-fawz-ardughan-biwilaya-thalitha